من يتابع اجهزة اعلام دول محور الاعتدال وحالة الشماتة التي سادتها بعد اعلان نتائج الانتخابات النيابية اللبنانية، فجر يوم الاثنين الماضي، يخرج بانطباع مفاده ان العرب حققوا نصرا تاريخيا على عدو رهيب احتل ارضهم واهان كرامتهم الوطنية. حالة سعار عربية غير مسبوقة، وهجوم دون وعي، والسبب هو الكراهية الممزوجة بالحقد على 'حزب الله' زعيم تكتل الثامن من آذار، وينسى اصحاب هذه الحملات الطائفية المسعورة ان هناك مسيحيين ومسلمين سنة ودروزاً وارمن في هذا التكتل نفسه، ارادوا ان يجسدوا تحالفا وطنيا للقضاء على الاقطاع السياسي الذي يتحمل مسؤولية معظم الأزمات التي مرت بها البلاد. المنافسة لم تكن مطلقا بين 'محور عربي' في مواجهة محور فارسي، مثلما اراد البعض تصويرها في اجهزة اعلام دول الاعتدال، وانما بين محور يؤمن بثقافة المقاومة، حرر جميع الاراضي اللبنانية المحتلة تقريبا، ومحور يرفض هذه الثقافة ويحاربها تحت مسميات عديدة مثل 'الواقعية'، وتفهم المعادلات الدولية. فعندما تقف امريكا واسرائيل جنبا الى جنب مع دول محور الاعتدال، المملكة العربية السعودية ومصر على وجه التحديد، في مواجهة تكتل الثامن من آذار، وتجيّش الانصار وتستوردهم بالطائرات، وترصد مئات الملايين من الدولارات من اجل هذا الهدف، فإن هذا اكبر تجسيد لحالة الاستقطاب المرعبة التي تعيشها المنطقة، وانعكست بشكل جلي في الانتخابات اللبنانية الاخيرة. امريكا واسرائيل استخدمتا 'سلاح التخويف' السياسي لتحقيق انتصار هش في هذه الانتخابات، فالاولى هددت بوقف المساعدات المالية واعلان لبنان دولة ارهابية مارقة، والثانية لوحت باعلان الحرب وتدمير لبنان فوق رؤوس اهله في حال فوز المعارضة، ونسيت الاولى التي تعتبر نفسها زعيمة العالم الحر، وتجاهلت الثانية التي تتباهى بأنها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، ان اياً كانت الجهة الفائزة فهي نتاج الخيار الشعبي اللبناني عبر صناديق اقتراع وفق عملية ديمقراطية حرة نزيهة هي الاقدم في المنطقة، بل اقدم من قيام دولة اسرائيل نفسها. نذّكر هنا بأن التكتل الذي هُزم في هذه الانتخابات هو الذي الحق الهزيمة الاكبر والافدح بالدولة العبرية، وكسر انف جيشها الذي لا يقهر، وارسل اربعة آلاف صاروخ الى العمق الاسرائيلي، فهل هذه الهزيمة لهذا التكتل الوطني تستحق مهرجانات الفرح هذه، التي نراها في اكثر من عاصمة عربية، وبالذات في الرياض والقاهرة على وجه الخصوص؟ ردود فعل بعض الدول العربية وصحافتها وكتابها ذات النزعة الثأرية، جاءت اكبر اثبات على مدى تدخل هذه الدول بشكل مباشر في الشأن الداخلي اللبناني، وهي التي بنت مواقفها تجاه لبنان على اساس منع التدخلات الخارجية، السورية والعربية منها على وجه الخصوص. فعندما تخرج علينا صحيفة عربية كبرى بعنوان عريض 'انكسروا..' في أول رد فعل على فوز الموالاة في الانتخابات، فذلك اكبر دليل على حجم هذا التدخل، وحجم هذه الشماتة والنزعات الثأرية. نسجل هنا ان ردود فعل قوى الرابع عشر من آذار كانت ارقى واكثر عقلانية بل ومسؤولية من دول محور الاعتدال واجهزة اعلامها، ففور اعلان النتائج خرج زعيم حزب المستقبل السيد سعد الحريري ليطلب من انصاره عدم المبالغة في الاحتفال. اما زعيم الطرف الآخر، السيد حسن نصر الله فقد كان كبيراً عندما سارع بالقاء كلمة اعترف فيها بالنتائج، وأكد احترامه للخيار اللبناني الشعبي الديمقراطي. ولم يتردد السيد نبيه بري في تكرار النغمة نفسها، وقد يكون التناغم بينه وبين السيد وليد جنبلاط أول بوادر مرحلة التوافق الجديدة التي قد تطل برأسها في المرحلة المقبلة. نشعر بالمرارة ونحن نرى كيفية توظيف ايران 'كبعبع' لتخويف الناخب اللبناني، لتحويل الانظار عن اسرائيل التي تحتل الارض اللبنانية، وأراضي دول عربية اخرى. وربما يكون هذا 'الانجاز' هو دليل على نجاح المخطط الرامي الى تكوين تحالف عربي اسرائيلي ضد ايران في المستقبل القريب. نختلف مع الكثيرين الذين حاولوا التأكيد بأن الانقسام العمودي الذي شهده لبنان كان طائفياً، فماذا يفعل العماد ميشال عون المسيحي، والسيد عمر كرامي السني، والسيد طلال ارسلان الدرزي في تكتل الثامن من آذار في هذه الحالة؟. والشيء نفسه يقال ايضا عن السادة وليد جنبلاط وسعد الحريري في معسكر سمير جعجع وأمين الجميل؟ التنوع الطائفي والمذهبي في لبنان يجب ان يكون مصدر ثراء وتميز خاصة اذا قام على ايمان راسخ بالتعايش والتعاون من اجل مصلحة البلد، بعيداً عن التدخلات الخارجية التي تعمل دائماً على بذر بذور الفتنة لتأزيم الاوضاع والدفع باتجاه الحرب الاهلية، مثلما شاهدنا ذلك في اكثر من مرحلة سابقة. نريد ان نرى المزيد من المرشحين الشيعة على قائمة الرابع عشر من آذار، وفي المناصب الرئيسية في الحكومة المقبلة، مثلما نريد في الوقت نفسه المزيد من المرشحين السنة على قوائم حزب الله. فعلى لبنان الذي تتم فيه التعيينات والوظائف الكبرى على أساس المحاصصة الطائفية ان يتنبه الى هذه المسائل، وان يكسر هذا التقليد الذي يعكس علامة التخلف والاقطاع السياسي والطائفي. يستطيع السيد سعد الحريري، وقد حصل على اغلبية المقاعد في البرلمان (71 مقعداً) ان يشكل الحكومة الجديدة بكل سهولة ويسر، ولكنه لا يستطيع ان يحكم البلاد ويقودها نحو الاستقرار دون التعاون والتنسيق مع تكتل المعارضة، فقد يكون حصل على الاغلبية البرلمانية ولكنه حتماً لم يحصل على الاغلبية الشعبية (55' للمعارضة و 45 ' للموالاة). وبالروحية نفسها نقول ان على الفريق المنتصر تطمين المعارضة بانه لن يستطيع الحكم بمعزل عن دعمها وتأييدها، وعلى المعارضة في الوقت نفسه ان تطمئنه في المقابل بأن سلاحها لن يغير وجهته مرة اخرى، وان هذا السلاح يجب ان يوجه الى اسرائيل فقط. نتمنى ان نرى تغييراً في الخريطة السياسية اللبنانية في المرحلة المقبلة عنوانها وقف الحرب الاعلامية والتصعيد الطائفي بين طرفي المعادلة السياسية اللبنانية، ابتداء من القمة ونزولاً الى القاعدة، فإذا كانت لغة الحريري ونصر الله وجنبلاط وبري متزنة، فعلى جماهيرهم وإعلامهم ان يعكس هذا الاتزان بشكل جدي ومسؤول. نريد ان نرى السيد حسن نصر الله في قناة 'المستقبل'، والسيد سعد الحريري في قناة 'المنار' ضيفاً معززاً مكرماً، والعماد عون في قناة 'ال بي سي' او 'ام تي في' وهكذا. فالمصالحة السياسية لا يمكن ان تتم دون المصالحة الاعلامية، ويفضل ان تمهد الثانية للاولى. نتطلع الى اليوم الذي تختفي فيه هذه التسميات المؤسفة للآذاريين، اي 14 آذار، و8 آذار، من خلال تحالفات جديدة تقوم على اساس الثوابت اللبنانية، لأن تلك التسميات باتت عنواناً للتقسيمات الكريهة، وتذكرنا بتسميات أخرى مماثلة بدأ اللبنانيون والفلسطينيون في تجاوزها حرصاً على التآخي والتعايش مثل 17 ايلول 82 (مجزرة صبرا وشاتيلا) و13 نيسان عام 75 (بدء الحرب الاهلية) وغيرها. كلمة أخيرة نقولها بأن المنطقة مقبلة على استحقاقات قد تقلب المعادلات السياسية رأساً على عقب، وكلها تدور حول قطبي الصراع الحالي، اي ايران وامريكا، ونتمنى على الشامتين بهزيمة تحالف 'حزب الله' ان يتريثوا لبرهة، ويفكروا ويتبصروا بماذا سيحدث لو تفاهم القطبان، اي امريكا وايران بشأن المفاعل النووي الايراني او لم يتفاهما وتذهب المنطقة الى الحرب؟