لماذا يميل الفنان التشكيلي للتشاؤم وما اسبابه .. هل ثمة أسباب شخصية أم الواقع الاجتماعي الذي يعايشه؟ وهل هناك ظروف بعينها تجعله يسلك هذا اللون؟ أم أنها مجرد صدفة؟..تلك الأسئلة وغيرها دارت في الاذهان ونحن نشاهد الأعمال التشكيلية للعديد من الفنانين. ليس من الضروري أن يكون الفنان متلبساً بالحالة التي يرسم فيها، وإن كان بعض النقاد يرون أهمية تلبس الحالة سواء في الفن التشكيلي أو حتى في الفنون الأخرى، فالفنان في بعض الحالات بحاجة لتوصيل رسالة ما إلى المتلقي، وهو هنا قد يكون بعيداً عن تلبسها أو المرور بها. هناك بعض الرؤى حول سوداوية الفن التشكيلي، وهناك تضارب أو اختلاف في الآراء فالبعض يرى أنها حالة ضرورية والبعض يرى أنها عابرة تمر سريعاً لتختفي وتحل محلها حالة من السعادة أو حالة عامة. وهنا حاولنا طرح بعض التساؤلات والإشكالات على مجموعة من الفنانين من الوطن العربي، فكانت لنا هذه الحصيلة من الآراء، فقد استضفنا في الجزء الأول فنانين من مصر وسوريا وفي هذا الجزء نستضيف بعض فناني المملكة. الفنان رهين الواقع في البداية يقول الفنان عبد الله الشيخ إن الفنان الحقيقي هو الذي يتفاعل مع المشاعر الإنسانية التي من حوله مهما كانت سوداوية فما دام كل شيء محبط فكيف لا يكون كذلك، ومن جهة أخرى ليس على الفنان أن يكون سلبياً، فعندما يضع مشكلة معينة عليه أن يضع الجانب المتفائل، وفي بعض الأحيان على الفنان أن يضع رؤيته للمستقبل.. رؤية مغايرة، تدفع المتلقي لرفض السوداوية تلقائياً من خلال شحنه بالوقود الفعال لكي لا يكون محايداً وسلبياً. إن تكوين نزعة للتغيير لدى المتلقي هو الرسالة الكبرى التي يتحملها الفنان. مشيراً إلى أن الرغبة في إيجاد عالم مغاير مليء بالحب والسلام هي مهمة عسيرة على الفنان أن يقبلها دون أي تكلف، حيث أنه سيكون ناجحاً في رسالته. ويضيف الشيخ إن الفنان التشكيلي يتأثر مباشرة بما يحدث في عالمه الخاص والعام سواء في مجتمعه ووطنه، وما حدث على المستوى العربي في نكسة حزيران إذ كان حدثاً هز ضمير كل فنان، الأمر الذي يجعل من المستحيل أن لا يتأثر بتلك الأحداث عندها سيكون إنساناً خالياً من أية مسئولية ومنزوع الضمير. مشيراً إلى أن الفنان يجب أن يمتلك الشعور بالمسئولية والتفاعل مع الحدث وبالتالي يكون له موقف منه. الإبداع نافي للسوداوية وتقول الفنانة زهره بوعلي الإبداع يبقى مرادفا للحرية والانعتاق و الأمل و الحياة ، و نافياً للسوداوية في كل الأحوال ، حتى تلك التي يبدو فيها العمل الإبداعي للجمهور فاقدا للأمل. ولو توصلنا الى قناعة مهمة و هي أن الفنان المبدع له عالمه الخاص و رؤيته المتفردة التي تميزه عن سواه من الأشخاص ، و التي تأخذه الى مستوى من الإنعتاق ، والتعبير الصادق و الحر عن أحاسيسه. لا يعود يعنيه كثيرا مفهوم السوداوية العام أو ذلك الآتي من النقاد ، أو القاموس الجامد لفلسفة الألوان و معانيها. فمثلاً قد يرى البعض أن اختيار الألوان الداكنة هو نتيجة حالة الحزن التي يمر بها الفنان. بينما قد يكون العكس صحيحاً من وجهة نظر الفنان. فهو قد يكون مبحرا باحتفالية في ذلك اللون ، مكتشفا لأسراره و جمالياته ، و مستمتعا بكل ظلاله. من قال أن اللون الأسود يعني فقدان الأمل. كيف قيد الجمهور و النقاد أحيانا كثيرة ،ً أنفسهم في مفاهيم محدودة للفن و الإبداع. و هل فعلاً الألوان " الحارة " بالمفهوم العام ، أكثر فرحا من الألوان الداكنة؟ من يضع تلك المقاييس؟ لقد رسم فان جوخ مواضيع تبدو لنا حزينة جداً بألوان " حارة و فرحة ". و كذلك فعل غيره من الفنانين. الفنان المبدع إنسان أيضاً ينتمي الى مجتمع قد يمر بأزمات أو بإنجازات تاريخية ، يؤثر و يتأثر بما يجري حوله من أحداث ، و يمتلك رؤية معينة تجاهها ، تنعكس في أعماله. باعتقادي: من الخطأ تعميم مفهوم السوداوية على مجمل المنجز التشكيلي العربي ، لأن هذا التعميم يميل الى تسطيح التجارب التشكيلية المختلفة. هناك خصوصية لكل التجارب المتمكنة و التي أثبتت وجودها في ذاكرة شعوبها ، و هي تستحق الكثير من الدراسة و التأمل ، كل على حدة. أيضاً يلاحظ إطلاق النقاد أو الكتاب لهذه الصفات أو المفاهيم نتيجة توقعاتهم المفترضة ، و وضعهم لقوالب مسبقة للفنانين المبدعين. المبدع بطبيعته إنسان له خصوصية مختلفة لايمكن توقعها من النقاد أو المجتمع ، و لا يمكن وضع أية قوالب مسبقة لها. فقط يجب تأملها بعمق و معرفة ثقافية. لا سوداوية في الفن ويرى الفنان علي الصفار أن الفن بصفة عامة لا توجد به سوداوية وإنما هناك نوعية من المتلقين لديهم نظرة تجاه اللوحات التي يشاهدونها مما يجعلهم يعطون حكماً على هذه اللوحة أو تلك أنها سوداوية. وعادة ما يكون الفن عبارة عن إسقاطات وتجسيد لمشاهد معينة أو استشفاف لواقع معين يؤثر على الفنان بطريقة أو بأخرى وهو بدوره يحوله إلى لوحة. ويضيف الصفار إن الفنان لا يقل عن الآخرين ككتاب المسرح مثلاً أو الرواية وبالتالي النظرة التشاؤمية تكون موحدة بين المبدعين، فالفنان يرسم من خلال رؤيته للأمور كما يراها غيره من الفنانين، مشيراً إلى أن هناك فرق بين التشاؤم والسوداوية وبين الاستشراف للأحداث الاجتماعية والفنية والنظرة إلى المستقبل برؤية تشكيلية. إن خبرة المتعاطي مع الفن التشكيلي لها دور كبير من حيث نضجه وقدرته على معرفة عناصر الفن بموازين معينة وبالتالي فإنه بالإمكان تغيير نظرته نحو اللوحة، ومن الطبيعي أن المتلقي كلما كان غير قادر على استشراف اللوحة فإنه سيتخذ حيالها موقفاً أقل ما يقال عنه أنه موقف غير سليم. ومن ناحية أخرى كلما كان الفنان مدرسياً أو في بداية طريقه فإن إمكاناته تكون أقل في السمو في التعامل مع موضوعه، فألوانه تكون ضعيفة وباهتة وخطوطه غير متماسكة، وقدرته على الإبهار البصري غير متمكنة، ولذلك وبكل سهولة سيكون ردة فعل المتلقي بنفس الحجم. ولعل المتلقي عندما يحكم على اللوحة بأنها سوداوية مرد هذا الضعف من الفنان نفسه. ثقافة الفنان أما الفنان عبد الله المرزوق فقال منذ ولادة الإنسان لديه طرق تعبير كثيرة، والفنان يجسد أفكاره على اللوحة لأنها الوسيلة الوحيدة لتفريغ المعاناة التي يعيشها. ولا شك أن الفنان لديه مخزون من الانفعالات فهو يترجمها إلى لغة اللوحة، فبعض الأفكار تخدم الإنسانية أو تحكي معاناة شعوب أو معاناة شخصية حسب الاتجاه الذي يسلكه سواء كان تكعيبياً أو سريالياً أو غير ذلك، وكل ذلك يقود المتلقي إلى التعرف على طبيعة ذلك الفنان هل هو سوداوي أم لا؟ ويضيف المرزوق إن الفنان إذا كان واعياً ولديه ثقافة تشكيلية وثقافة إنسانية فإنه سيجعل المتلقي يصل إلى المعنى المقصود من اللوحة ولن يتخذ منها موقفاً مغايراً. ويعتقد المرزوق أن معظم أعمال الفنانين التشكيليين مثل الدراما حيث يرسم الحدث المطلوب بجميع تفاصيله سواء كان مأساوياً أو سوداوياً أو جرحاً أو حالة حب حزينة، وفي النهاية لا بد أن يكون هناك نوع من التفاؤل وبصيص من الأمل في تحقيق الأمل والسلام الذي ينشده الإنسان، لأن ذلك جزء من الرسالة التي على الفنان أن يؤديها، وقد لا يقوم بذلك في عمل أو عملين ولكنه بالنتيجة لا بد يفعل ذلك في أعمال أخرى. الفن وليد المعاناة وتقول الفنانة حميدة السنان إن الفن وليد المعاناة التي ينتج عنها الألم، وبدون الألم لا يمكن أن يتولد الإحساس، مضيفة إن شعور البهجة مثلاً لا يمكن أن يأتي منفصلاً وإنما يأتي بشكل كلي حاملاً معه كل منغصات الحياة، ومن هنا فإن السوداوية تكون متمازجة مع جميع معاني الحياة الأخرى. وتضيف السنان قائلة بالنسبة للألم في أعمالي فأنا أشتغل على قضية معينة سواء في أعمالي الاجتماعية أو حالة الحرب خصوصاً في أعمالي القديمة حيث حالة الاحتدام والنزف، مشيرة إلى أن البيئة لها دور في تكريس حالة السوداوية فالمجتمع الذي نحيا فيه مليء بالكبت والضغوطات الاجتماعية، إذا أن المرأة والإنسان عموماً يواجه منغصات كثيرة فهناك الخوف والقلق... كل ذلك يجعلني لا أقف على الحياد، فكيف أرسم وردة وبيتي خال من الزهور؟ أما في تجربتي الجديدة خاصة الكولاج فقد استطعت التغلب على الكثير من الصعوبات وبدأت ملامح الإنسان تتضح لدي، صرت أهتم بالجسد الإنساني وابتعدت عن القضايا الاجتماعية كقضية وركزت على التشكيل كألوان وكفن، ورغم أني ما زلت أشتغل على القضايا الاجتماعية وأوليها عناية خاصة إلا أن ذلك أبعدني نوعاً ما عن الارتباط بهذا الهم. مستدركة مهما قدم الإنسان من أشكال جديدة فإنه يبقى وليد المعاناة. وتساءلت السنان من أين يتأتى الفن؟ وتجيب ألا يأتي من المكابدة والاحتدام؟ فالإنسان عندما يكون مرتاحاً وخالي البال من القضايا فكيف سيكون فناناً؟ مشيرة إلى أن الفقير الذي يكابد من أجل لقمة العيش هو أقدر الناس على أن يكون فناناً.! وسائل عديدة للتعبير وتقول الفنانة وداد المنيع إن الفنان يعبر عما في ذاته فإذا كان يعيش مأساة أسرية أو اجتماعية فمما لا شك فيه ستنعكس على لوحاته فهو غير منعزل عن قضاياه والقضايا المحيطة به. مشيرة إلى أنه يمكن أن يرسم الفنان منظراً طبيعياً وهو مليء بالشجن، وفي نفس الوقت يمكن أن يرسم عن المجاعة ومآسي الشعوب بروح التفاؤل وتقديم نظرة مستقبلية فيها الحب والسلام. إن لدى الإنسان رغبة عارمة في التعبير عما في داخله وقد يكون هذا الإنسان فناناً أو شاعراً أو حتى صاحب مهنة عادية كالطباخ الماهر وقد تختلف طريقة التعبير من شخص لآخر بحرف أو بكلمة أو برسم. وتضيف المنيع إن الفنان لا يبحث عن لحظة التفاؤل ليرسمها حتى يؤخذ عليه أنه متشائم أو سوداوي. إن لحظة الفن ولحظة الإبداع تهجم على الفنان في أوقات ليست ملكه أو هو الذي يحددها، ولذلك فيمكن أن تكون السوداوية رهينة الإبداع. وإذا كان اللون الأسود حسبما يرى البعض هو لون التشاؤم والسوداوية فإن بعض الفنانين يرون في اللون الأسود تميزاً، والفنان بطبعه يبحث عن التميز تحت أي مسمى، مضيفة إن اللون الوردي في بعض الحالات يمكن أن يكون سوداوياً وهو رمز الرومانسية والحب. وتساءلت المنيع أو ليس الليل أسوداً فلماذا يتخذه الشعراء والفنانون ميزة لهم يتغنون به، في إشارة إلى أن أجمل ما كتب كان في الليل لأنه يضم الهدوء والبعد عن الضوضاء والإزعاج. احدى لوحات الفنانة حميدة السنان