من عمق التاريخ العربي ومفرداته الموشحة بوشاح العزة والكرامة ومن الحاضر بآلامه وأحزانه ينقش الفنان أبو هريس حروفه الأبجدية عبر ملامح الخط والأداة والضوء وقتامة اللون وتوشيحاته التكوينية وهي المعنى للمكان والإنسان في لوحاته ذات الاوشام والأخاديد ليحكي لنا حقيقة من (نحن) وحقيقة حاضر يلتف بلحاف الأوجاع والآلام.. يقدم الفنان التشكيلي فائز عواض الحارثي (أبو هريس) المعرض الشخصي الخامس الذي يحمل عنوان (الحقيقة) ويقام ببيت الفنانين التشكيليين، رعاية رجل الأعمال الأستاذ طارق عاشور، ويتضمن المعرض أكثر من 120 عملا فنيا مختلفة المقاسات والإحجام. وتدور حول اللونين المتضادين ( الأسود والأبيض ) تعيش في روح الفنان ذكريات تراكمية ليكوَن منها توافق وتآلف بتعبيرية ذات دلالات معاصرة حيث البحث والتجريب وحالات التجلي ليحاكي بها المتلقي بأيقونة التآلف بين اللونين الأسود والأبيض.. يقول عن هذا المعرض الفنان والناقد سامي جريدي:" لا يزال الفنان أياً كان اتجاهه وفكره باحثاً عن الحقيقة، وليست الحقيقة بمتاهة مفروضة على حتمية القبض عليها والاعتراف بكينونتها الأزلية. أي أنها لا تزال محوراً للبحث لا محوراً للحصول". ويضيف:"يأخذنا الفنان (أبو هريس) وهو يعرض تجربته الجديدة والتي أسماها (الحقيقة) إلى مشروع فني مختلف عن تجربته السابقة التي بدأها منذ أكثر من عشرين عاماً، وكأنه بذلك يفسّر سؤالاً وجودياً لهذه المرحلة الفنية التي أخذ على عاتقه في كشف الرؤى اللونية لسيرته وتاريخه الفني عبر لونيين متضادين هما: (الأبيض والأسود). إن ما تمثله هذه التجربة مغامرة لونية لمن يعي حقيقتها، وليس من السهولة الدخول في مضمارها إلا بإعلان فلسفي مسبق". وفي هذه الأعمال نقلة نوعية للفنان، ليس فقط لأنها اتخذت من الأبيض والأسود اعتمادا لونيا لها بل لأنها شقت طريقاً إلى الجدل البصري ذلك الجدل المكتنز في مضامين مساحة البياض، فالفنان بدأ يرسم بياضاً وسواداً وهذا على المستوى الرمزي والوجودي وكأنه بذلك يحاول الإنعتاق من الألوان المسيطرة، ولذا لم يحاول الفنان أن يرسم البياض بقدر ما قام به من رسم السواد في أعماله، ربما ذلك يعود إلى صعوبة وتعقيد رسم البياض من الأساس. هذا وتتضمن أعمال أبو هريس بجانب المستوى اللوني أيقونات بصرية متعددة مُصّغرة كصورة (القمر) الذي نجده بطلاً محورياً في بعض لوحاته الصغيرة وكأنه رمزاً للإضاءة الذي من خلاله تنكشف الحقيقة في سواد الوجود. كما تتضمن أعماله مجموعة من النقوش الصغيرة والرموز المتداخلة، فهي نقوش ذات خطوط طولية ومتعرجة منسابة داخل شرايين النص البصري. فهي أيقونات حاولت أن تجسّد أشكالاً لأشخاص وأمكنة بسيطة لا يمكنك التأكد من هويتها؛ أي أنها أشبه بالحقيقة غير الواضحة التي يريدها الفنان، فترى الأشكال والهيئات ضبابية أشبه بلقطات المشاهد الفيلمية التي تعرض على شاشات السينما للحدث الذاكراتي. وأخيراً.. لا ينفصل اسم المعرض (الحقيقة) عن رمزية التضاد اللوني الذي حرصت أعمال الفنان أن تنفتح على حقيقة محاكاتها للحياة تلك الحياة المليئة بالصعوبات وسوداويتها وبياضها الذي عاشه الفنان ورآه أمام عينيه في تعامله مع البشر ليعي في نهاية أمره تشاؤمية الحياة وهو أمر تبرزه غلبة اللون الأسود في لوحاته على مساحة البياض، فالأسود يُحاصر الأبيض، بل ويحاول أن يطمسه ويلغي هويته كإلغاء الحياة المزيفة للحقيقة وتغييبها له.