مع اقتراب موعد الغزو الأمريكي للعراق يتزايد قلق المسؤولين الأتراك من الانعكاسات السياسية والاقتصادية والأمنية للحرب المرتقبة على بلادهم، لذلك نراهم يتحركون في كل الاتجاهات ويبذلون جهوداً سياسية مكثفة لمنع وقوع الحرب أو التقليل من آثارها. ومع قناعتهم بمضي الولاياتالمتحدة قدماً في تنفيذ مخططاتها فإن الحكومة التركية تحاول أن تكون لاعباً مؤثراً، فهي تريد الحصول على تعويضات مالية مجزية، مقابل تقديمها تسهيلات عسكرية للولايات المتحدة باستغلال قواعدها بالإضافة إلى تطمينات واتفاقيات سياسية وأمنية تقلل من الأضرار السياسية والأمنية التي قد تلحق بها نتيجة تداعيات الحرب وبشكل خاص ما يتعلق بالمشكلة الكردية. أما التسهيلات العسكرية التي تريدها الولاياتالمتحدة من تركيا فتتعلق بمحورين أساسيين: أولهما تطوير وتحديث عدد من القواعد العسكرية التركية لاستخدامها في الحرب على العراق وهو ما وافقت عليه تركيا وسمحت بنشر 150 خبيراً أمريكياً لهذه الغاية. وثانيهما السماح للقوات الأمريكية باستخدام أراضي تركيا قاعدة انطلاق للحرب باتجاه العراق. وقد حصلت حكومة عبد الله جول المنصرفة على موافقة البرلمان بالفعل على الجانب الأول المتعلق بإيفاد الولاياتالمتحدة خبراء عسكريين لتطوير القواعد، لكنها فشلت في الحصول على تأييد البرلمان على المحور الثاني وذلك في التصويت الذي جرى في الأول من مارس الماضي في ضوء الخلاف على السماح للقوات التركية بعبور الحدود العراقية وكذلك احتجاجاً على تسليح الأكراد العراقيين بأسلحة ثقيلة منها صواريخ مضادة للطائرات بالإضافة إلى الخلاف على التعويضات الاقتصادية التي تطلبها تركيا. قيمة الخسائر تتباين التقديرات حول قيمة الخسائر الاقتصادية التي قد تلحق بتركيا نتيجة الحرب القادمة، وتتراوح التقديرات ما بين 20 - 150 مليار دولار. ويرجح المحللون أن تكون الخسائر الاقتصادية التي ستعانيها تركيا جراء الحرب المحتملة أكثر من تلك التي عانتها في حرب الخليج الثانية عام 1991 والتي قدرت بنحو مائة مليار دولار. ويتوقع هؤلاء المحللون أن تبلغ خسائر تركيا من هذه الحرب 150 مليار دولار على مدى ال 12 عاماً المقبلة، فضلاً عن التأثيرات الجانبية مثل ارتفاع أسعار النفط وإصابة قطاع السياحة بالشلل وهروب رؤوس الأموال من البلاد وقد أشار رئيس الوزراء التركي المنصرف عبد الله جول أمام مؤتمر دافوس في 25 يناير الماضي إلى الخسائر المحتملة التي قد تلحق ببلاده قائلاً: إن الخسائر المباشرة للحرب ضد العراق تقدر بنحو 25 مليار دولار، في حين أن الخسائر غير المباشرة ستبلغ 100 مليار دولار. وأضاف جول: ان عشرة آلاف شاحنة تركية تعبر الحدود بين البلدين يومياً، وأن آلاف الشاحنات تبقى متوقفة بسبب تعثر التجارة مع العراق في حين أن الأعباء التشغيلية للشركات والأفراد المالكين لها تنخفض مما يشكل ضغطاً اقتصادياً كبيراً على تركيا. أما محمد علي نيزي رئيس مجلس الأعمال التركي - العراقي فقد رفع قيمة الخسائر إلى مائة وخمسين مليار دولار أمريكي، وأشار نيزي إلى أن خسائر تركيا الفعلية من جراء اندلاع حرب الخليج الثانية وتداعياتها تجاوزت حتى الآن مائة مليار دولار. ومع ذلك لم تحصل تركيا على أدنى تعويضات مادية من جانب أمريكا، إضافة إلى أن الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعيشها تركيا ترجع جذورها إلى حرب الخليج. وبالإضافة إلى الخسائر المالية فإن هناك احتمالا لتدفق حوالي مليوني لاجئ إلى أراضيها في حالة حصول الحرب وهذا سيشكل عبئاً اقتصادياً إضافياً عليها. وتشير المصادر التركية الرسمية بصورة علنية وموثقة في الأممالمتحدة إلى أن خسارتها الصافية من التزامها بفرض الحصار على العراق تبلغ 3 مليارات دولار سنوياً، أي أنها خسرت منذ فرض الحصار على العراق أكثر من 33 مليار دولار خلال سنوات الحصار الماضية، كما تؤكد مصادر تركية مطلعة أخرى أن الخسائر أكثر من ذلك بكثير وقد تصل إلى 60 مليار دولار، في حين حققت الولاياتالمتحدةالأمريكية أرباحاً مركبة تجاوزت 300 مليار دولار نتيجة فرض الحصار على العراق عبر قنوات مختلفة ومعروفة، وهكذا فخسائر تركيا الفادحة أمر واقع يفعل فعله في الاقتصاد والسياسة والحياة العامة لتركيا كل يوم ويؤثر سلبياً على حاضرها ومستقبلها ويهددها بأفدح المخاطر بما في ذلك تمزيق وحدتها السياسية. وفي هذا السياق يقول محمد أمين ديار رئيس جمعية الصداقة التركية - العراقية، إن إجمالي خسائر تركيا المباشرة نتيجة الحصار المفروض على العراق تجاوزت 45 مليار دولار، أما الخسائر غير المباشرة فتتجاوز 100 مليار دولار، وعلى سبيل المثال لا الحصر فان معدل عبور الشاحنات من أوروبا إلى العراق قبل الحصار عبر معبر الخابور على الحدود العراقية التركية كان بحدود 5000 - 6000 شاحنة يومياً وهو ما يوفر لتركيا إيراداً إضافياً يتجاوز 3 .75 مليار دولار سنوياً، يضاف إلى ذلك توفير فرص عمل لسائقي الشاحنات والمحلات والورش المتخصصة بإصلاح وصيانة وتقديم الخدمات لهذه الشاحنات بالإضافة إلى باعة الأدوات الاحتياطية والعاملين في المطاعم وخدمات الطرق والفنادق وما شابه ذلك من خدمات تقدم للشاحنات والعاملين عليها، وطبعا هناك رسوم المرور والترانزيت وتجارة الحدود التي تسد الكثير من الحاجات التركية. التعويضات الأمريكية المقترحة يعتقد الخبراء وفي إطار التجربة السابقة لتعاون تركيا مع الولاياتالمتحدةالأمريكية في حرب الخليج الثانية إن التعويضات التي ستقدمها واشنطن لن تتعدى دعماً اقتصادياً محدوداً لن يتجاوز ائتمانات مالية وقروضا من صندوق النقد الدولي الذي لعب دوراً بارزاً في الأزمة الاقتصادية التي تعرضت لها تركيا في الفترة من نوفمبر 2000 إلى فبراير 2001، حيث أجبر الصندوق الحكومة على تعويم قيمة الليرة وهو ما ألحق بتركيا خسائر فادحة ورفع مديونيتها إلى أكثر من 180 مليار دولار. أما الآن فإن خسائر تركيا ستكون كبيرة جداً وعلى المستويين القريب والبعيد ولن يستطيع الاقتصاد المنهك تحملها في ظل الأزمة التي يمر بها، فما هو معروض من مساعدات أمريكية حتى الآن لا يتعدى أن تسقط الولاياتالمتحدة قروضاً عسكرية تتراوح قيمتها ما بين أربعة إلى 6 مليارات دولار، فضلاً عن ضمانات قروض بقيمة 20 مليار دولار. وتسعى تركيا للحصول على أكثر من 30 مليار دولار من المساعدات منها عشرة مليارات دولار منحة لا ترد، و15 ملياراً أخرى كقروض آجلة السداد، بالإضافة إلى إسقاط الديون العسكرية والمستحقة لأمريكا والتي تبلغ قيمتها حوالي خمسة مليارات دولار، في حين أن الخسائر المتوقعة خلال العام الجاري ستتجاوز 14 مليار دولار حسب رئيس جمعية شباب رجال الأعمال في تركيا الذي قال: إن نشوب عملية عسكرية أمريكية ضد العراق سيؤدي إلى تعرض الاقتصاد التركي لخسائر مباشرة تقدر بنحو 14 مليار دولار أمريكي خلال عام 2003 فقط. لكن واشنطن استكثرت المبلغ فأخضعته للتفاوض، ورست "بورصة" المفاوضات على أن تقدم الولاياتالمتحدة ستة مليارات دولار "هبة" لتركيا مع قروض ميسرة بقيمة 24 مليار دولار في صورة ضمانات تتيح لتركيا الحصول على هذه القروض من بنوك خاصة أمريكية. والخلاف الذي لم يكن قد حل بعد هو أن تركيا تطالب بأن تكون حرة في طريقة صرف الهبة فيما تريد الولاياتالمتحدة أن يكون ذلك بإشراف صندوق النقد الدولي أي توجه لدفع خدمات الديون التركية للصندوق. أما القروض الميسرة فهي ستساعد تركيا في تسديد جزء من ديونها الداخلية والخارجية والبالغة عن العام 2003 فقط 73 مليار دولار، وبالتالي لن يكون للمساعدات والقروض أي انعكاسات إيجابية على الوضع الاقتصادي المتردي. التداعيات الأمنية والسياسية لا تقتصر التأثيرات السلبية للحرب الأمريكية القادمة على تركيا على الخسائر الاقتصادية وحسب بل إن الخسائر السياسة الأمنية التي قد تلحق بتركيا نتيجة دعمها هذه الحرب ربما تتعدى ذلك بكثير وتأتي الخسائر الاقتصادية في المرتبة الثانية نتيجة لتداخل الجغرافيا السياسية جنوبي البلاد، وهو ما دفع بالمسؤولين العسكريين الأتراك إلى التريث في الموافقة على نشر القوات الأمريكية، ومرور رسالة بهذا المعنى للحكومة في الاجتماع الذي عقده مجلس الأمن القومي التركي قبل التصويت على قرار الحكومة في البرلمان، رغم أن الجزء العسكري من الاتفاق قد أنجز ويتضمن انتقال الجنود الأمريكيين بأعداد تتراوح بين 60 و80 ألفاً عبر الأراضي التركية إلى شمال العراق، عبر ميناءي الاسكندرونة ومرسين على البحر المتوسط واستخدامهم لخمسة قواعد مهمة عسكرية على امتداد الأراضي التركية وقاعدتين أخريين للنقل والوقود. وتقرر كذلك أن يدخل الجيش التركي بأعداد قد تصل إلى ستة آلاف جندي إلى شمال العراق بعمق مبدئي مقداره ثلاثون كيلو متراً. لكن ما يقلق تركيا التداعيات السياسية والأمنية التي قد تحدث نتيجة هذه الحرب خاصة في ظل الحديث عن إعادة رسم الخرائط في المنطقة وقلقها من الوعود الأمريكية ومن هذه التداعيات: أولاً: فقدان تركيا لقيمتها الاستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة فالسيطرة على العراق بما يتمتع به من ميزات استراتيجية للولايات المتحدة، لأنه يتحكم بمفصل أساسي ذي انعكاسات تقريرية تقريباً في الجغرافيا السياسية للمنطقة. والعراق في الحسابات الأمريكية يبقى نقطة فراغ ضمن حزام القواعد العسكرية المنتشرة من البلقان إلى آسيا الوسطى وصولاً إلى الخليج نتيجة سقوط نظرية "الاحتواء المزدوج" التي صيغت لضبط العراق وإيران، وإحلال نظرية "الاختراق الشامل" محلها يوسّع من رقعة الاستهدافات الأمريكية مستقبلاً ويسهلها. ثانياً: احتمال قيام دولة كردية في شمال العراق، تقدمها أمريكا مكافأة للأكراد على الدور الذي سيلعبونه في الحرب القادمة خاصة وأن مرتكزات هذه الدولة شبه كاملة وهو ما تعتبره تركيا تهديداً مباشراً لوحدتها الوطنية وخطراً فادحاً على أمنها القومي حيث تخشى انعكاس ذلك على مواطنيها الأكراد القاطنين في منطقة جنوب شرق الأناضول والتهاب النعرة القومية لديهم، خاصة إذا وقعت منطقة كركوك المأهولة بأكثرية تركمانية والغنية بالثروة النفطية تحت سيطرة الأكراد فستقوى شوكة هذه الدولة إلى درجة شروع أكراد تركيا بالمطالبة أولاً بالفدرالية ثم يلي ذلك انفصال المنطقة تماماً عن تركيا وتأسيس دولة كردستان الكبرى التي يحلم بها الزعماء الأكراد. وتبدو التطمينات الأمريكيةلتركيا بهذا الشأن غير مقنعة خاصة بعد إصرار واشنطن على تسليح الأكراد بصواريخ مضادة للطائرات وعدم نزع سلاحهم بعد انتهاء الحرب مباشرة، ما أثار الشكوك في نوايا واشنطن وهو الأمر الذي دفع برئاسة أركان الجيش التركي إلى الطلب من الحكومة تأجيل جلسة البرلمان التي كانت مقررة يوم الخميس 27 (فبراير) إلى أن تحصل تركيا على ضمانات "كافية" بشأن هاتين النقطتين. بل أكثر من ذلك هناك انطباع في أنقرة وفي الأوساط العسكرية التركية بالذات، أن الولاياتالمتحدة هي التي كانت وراء صدور تصريحات حادة من مسؤولين أكراد بخصوص رفض دخول الجيش التركي إلى شمال العراق بل ومقاومته إذا حاول الدخول، وذلك من أجل مزيد من الضغط على أنقرة لقبول الشق السياسي من الاتفاق كما تريده واشنطن. ثالثاً: فقدان تركيا لدورها الإقليمي إذ ستعتبر مشاركتها في الحرب ضد العراق طعنة في الظهر لجارتها العربية، وعلى الرغم من تشتتها بين اتجاهين استراتيجيين هما الاتجاه الأوروبي - الغربي والاتجاه شرق الأوسطي والإسلامي، إلا أنها تحرص على دورها الإقليمي في الاتجاه الثاني وتخشى أن تقف بعيداً عن التطورات الكبرى حتى لا تواجه خطر تهميش هذا الدور. وعلى الرغم من تأكيد العديد من الخبراء على أن تركيا ستتوصل حتماً إلى اتفاق مع الولاياتالمتحدة، على المشاركة في الحرب إلا أن ما جرى ويجرى يشير إلى صعوبة الموقف التركي من هذه القضية المعقدة وأن اختيار أي من الطريقين ستكون له عواقب سياسية واقتصادية صعبة على تركيا لكن الثابت حتى الآن أن تركيا تتعامل مع القضية من منظور استراتيجي يهدف إلى التقليل من الانعكاسات الاقتصادية والسياسية والأمنية عليها.