تأتي هذه الأسطر ردا على كثير الجدل حول "لماذا لا يقرأ الناس؟". أحسب أن الأجدى هو السؤال: "لماذا لا يكتب المثقفون للناس؟" وإن كان ذلك لا يَجُبُّ أهمية السؤال الأول. ما انفك الجدل حاميا حول المسألة عينها، فليسمح قارئي الكريم بالتكرار. نأياً عن الولوج في تفسير من هو "المثقف", شِيء القول "بعض الثقافة" للإشارة الى ما يسمى التجديد في عالم القصيدة أو المقالة, و إكثار المفردات غير المألوفة اصطلاحا, وإن كانت معروفة معنى ولفظا، وتناقلها من "مثقف" إلى "مثقف" مع التمييز هنا بين واحد وآخر نظرا لوجود مثقفين حقيقيين، لا أدعياء، وطبقت شهرتهم الآفاق وباتوا مكينين في ذراها. المقصود طبقة اتسمت بمظهر لا يروق للعين، وطرائق تعبير لا تستعذبها الأذن، حتى ظن أفرادها أنفسهم أنهم هم "المثقفون" حقا والصائحون المحكيون، وأن الآخرين هم الصدى. إن التستر وراء الرمزية جعل البعض يصوغون ما قالوا إنها "قصائد" علما أن هناك من أبدع في هذا العالم، وكأن تجميع مفردات وإلصاقها ببعض تعني إبداعا، على اعتبار أننا – نحن غير المثقفين – لم نَرْق إلى المستوى المطلوب حتى نسبر غوْر المعاني والصور، فوجدنا المثقفين "الحقيقيين" أيضا من صِنْونا لم يفهموا الثقافة "المستحدثة". يسأل من يشكلون المقام في هذا المقال: لمن نكتب؟. لماذا نكتب؟. لماذا لا يقرأ الناس؟. ويجيبون هم عن أسئلتهم بما يحلو لهم ويطيب، ظنا منهم أن حالة الانحطاط الثقافي سرطان يتفشى بين الأغلبية العربية، ويرون في أنفسهم المخلصين، والدرع الحامية للبقية الباقية الراجية ثقافة. ليس هنا دفاع عن الحالة الراهنة، فالكثير يعزفون عن القراءة حاليا لدرجة أنهم باتوا عاجزين عن القراءة السليمة وفهم المفردات. لكن السؤال المطروح دائما: "لماذا لا يقرأ الناس؟" ليس في مكانه الدقيق، ولعل الأجدى: "لماذا أنتم لا تكتبون للناس؟"، لماذا لا تكتبون باللغة التي يفهمونها بعيدا عن تضييع الوقت في اختراع الجمل المركبة غير المفهوم مقصدها. كان ابن حزم ينتقد من يكتبون باللغة المعقدة ويقول: "يكتبون كلاما معقداً مغلقا لا معنى له إلا التناقض والهدم، فيوهمون القارئ بأنهم ينطقون بالحكمة. ولعمري إن أكثر كلامهم لا يفهمونه هم أنفسهم". صحيح أن للقصائد الحديثة والنصوص إبداعها، لكن حتى يتذوق الناس هذا الإبداع، فليكن بعيدا عن تعقيد المفردات. إنْ كان الهدف خلق حالة من الوعي الثقافي واللغوي، فعلى من قالوا في أنفسهم إنهم مثقفون أن يكونوا أولا من الناس، يتحدثون بلغة الناس مع الحفاظ على مكونات الإبداع والتحديث كي لا يكتب "الأديب" لأعضاء اتحاد الأدباء والكتاب فقط، وكي لا تتلى القصيدة على مسامع أعضاء "مجامع الشعر" فقط، وإلا فمن يكتب لنا على قدر فهمنا؟! حالة اللاوعي هذه – أو سمها ما شئت – رافقتها حالة من تعقيد مكونات العمل الشعري، بل الزج به في زنازين كلامية، حتى أوصد الشاعر على قصيدته الأبواب في وجه القراء، وظهرت حالة الاستغلاق التي كثر فيها الاستغراق، فحرمنا الشاعر قراءة قصيدته و"جنت على أهلها براقش"، وقس على هذا حالة النصوص التحليلية أو النقدية، وصارت النظرة إلى شعر غزلي سلس متحرر من التعقيدات اللغوية والرمزية نظرة دونية يعاب عليها وعلى ناظمها أنها "مباشرة". عندما يقول المتنبي: "وَبسَمْن عن برد خشيت اذيبه من حَرّ أنفاسي فكنت الذائبا"، فإني أفهم ما يقصده وأردده. لكنى لا أفهم شاعرا يربط في سطر واحد من "قصيدته" (الفضاء بالحوت بالوردة بالطلاسم...) إن كانت بوابة الدخول إلى عالم "الشعراء والمثقفين" كلاما من هذا القبيل فاسمحوا لي بهذه "القصيدة المتواضعة الملأى بالرمزية والتي لم أفهمها وإن كنت ناظمها": وكتبتُها لحماً على خشَب الضّجرْ يا مركبا مِنْ كوكب تصحو المدينة بعد أن نام الغجرْ من أين قصرُ هرقل بين سنابلِ القمح الملوكي الذي.. ماذا الذي؟.. تباً وسُحقاً.. انْبطحْ واشرب حليباً من شجرْ هذي "فضاءات الجسدْ" قد قلبت ساقاي أتراب البلدْ وتمحصت قدماي عنوانا يقولُ بأنّ عقليَ من حجرْ