سيدي الفيلسوف الشاعر الخوجة: قف، قف، قف، ولا تجلس إلاّ مع التاريخ. فمثلك مَن بنى لنفسه كرسيًّا من مقاعد التاريخ السياسي والثقافي والأدبي، وأصر على أن تقف في موقعك، ولا تجلس بجوار الحزن، والهزائم والتشاؤم والملل من الحياة. فمثلك لا يهزم نفسيًّا. قف يا سيدي فلقد هزمت داخلك بكل ما فيه من تحديات ورهانات. فالجدب النفسي، ولا العقلي لا يرافق مثلك من الشعراء الحقيقيين. فلن تكون ذلك.. [الجدبُ].. فإنه ينطوي على أسرار وخفايا لا يعرفها إلاّ مَن ساعد على تكوين الجدب. سيدي الشاعر: لقد أوجعتني، لقد آلمتني بمشقة حادة في قلبي وفؤادي، تلك المشقة كادت أن تذبح قلبي وفؤادي بسكين ثلمان أضعفه الصدأ. بعدما قرأت قصيدتك الرائعة والمجيدة والمبدعة والمميّزة والحزينة.. [جدب]. لقد اخترت أن يكون تاريخها 11/11/2011م، ورقم (11) ذكر في القرآن المجيد بقوله تعالى: «إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ» يوسف (4). فأنت نجم ساطع، لم يُطف نوره بعد، وإن شاء الله لن يغيب عن السطوع واللمعان. فأنت نجم يتلألأ في كوكب مضيء، وأضاءت نجوميتك الكثير من المساحة الوطنية والثقافية والأدبية. فأشهد الله أنك.. [وطني حقيقي، ومميّز، وغيور]، فأنت نسيج فريد ولوحدك في شخصيتك الفذة. وأعرف أن «النجم».. يُطفئ ضوؤه، وقد يخفت تدريجيًّا، فلذلك لم أستغرب منك هذا التوديع المستعجل، وطلبك الرحيل للحياة الآخرة. ولا أعرف لماذا تكون وتشكّل هذا الاقتراب من الموت في هذه اللحظة، أو هذه المرحلة بالذات؟ وأرضك خصبة يا أيُّها الشاعر لم تجدب بعد، ولم تقحط، ولم تجف. وأنت لا تسكن القفاري. سيدي الشاعر: بالله عليك ألاّ يكفيني أنني فُجعت العام المنصرم حين فقدت روحي وحبيبي وشيخي الدكتور محمد عبده يماني -أسكنه الله الجنة- فلا تفجعني في نفسي مرة أخرى. بنظري إنك تمثل أعلى رمز سياسي حجازي في هذه المرحلة. وعملت وحفرت.. [بصمات].. تاريخية في كثير من مواقعك السلطوية، ولم تخلق.. [وصمات].. كغيرك من المسؤولين. وصرت تفعل الخير والمعروف والإحسان في الناس، هذا كلام لا أسر به، بل عرفه الجميع. والحمد لله أنك مسؤول وشاعر ومثقف لم يمت فيك القلب. بل وجدت.. [قلبك].. موضوعًا خارج صدرك لنظافته، وحبّه للناس. وسؤالي المشروع لك يا سيدي هو: هل المناصب الحكومية التي تقلّدتها هي التي أوصلتك لحالة.. [الجدب]؟ وهذا سؤال مركزي أعتقد أن الكثير من أصدقائك ومحبيك يشاركوني هذا التساؤل!. سيدي أبو محمد: ينبغي أن تكون سعيدًا؛ لأنه لم يسلبك ويصرفك كرسي السلطة حبّك للعلم والمعرفة والثقافة والشعر، والقيم الأخلاقية الإنسانية. التي دعا إليها الدِّينُ الإسلاميُّ، ولم تفقد مصداقيتك السياسية، وبعدها الحضاري، ولم تزرع الفساد والتخريب والأذى في أي موقع سلطوي تقلّدته، وأعلم في سبيل ذلك تحملّت أقصى الأهوال، ومشقات الضغط النفسي. حتى كادت حياتك أن تنتهي في مدينة بيروت اللبنانية الجميلة. عندما هددك أحد الأحزاب اللبنانية السياسية بقتلك. فلماذا اليوم تريد الرحيل والغياب عنّا؟ فهذه رغبة لا نملكها كبشر! فلا تحرّك فيَّ أية مشاعر حزن والآلام جديدة، وربما غيري سيعاني أكثر مني. فأنا مليء ومنتفخ بالحزن والآلام والأوجاع والمتاعب، بل إنني أصبحت.. [خزانًا].. مليئًا بالحزن والوجع. فلا تضغط على أوعاجي ومنغصاتي!. سيدي الشاعر: عبدالعزيز خوجة.. لقد استطعت أن تروّض نفسك على فضائل الأخلاق، ومحبة الناس، والرضا بكل ما يأتي منها. وأعرف إدراكًا أنّك أيضًا مروّض نفسك على طاعة الله، ومحبة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ويشهد بذلك نصّك الشعري والثقافي، وأنك راضٍ بكل ما يأتيك منه، سواء كان خيرًا أو شرًّا، للحذر منه، والابتعاد عنه. هنا أكتب عن وزيرٍ، أو موظف عام، كما أكتب أيضًا عن شاعر وأحاسيسه. وأكتب عن إنسان أعرفه جيدًا في داخله كتلة إنسانية ضخمة. يا أبا محمد.. أعجبني في شخصيتك المريحة والمقبولة نفسيًّا أنك لم تسر في حياتك وفق الأماني التخيلية العذبة. سيدي الشاعر: حتى في معاني ومفردات ونصوص أشعارك الثرية، كشفت الثراء في الرقي بالحياة، وظهرت الأناقة بوضوح في كلماتك ومفرداتك مثل بروز الأناقة والشياكة في أخلاقك وأدبك، وفي ملبسك ومظهرك العام. ووصلت بهدفك من هذه القصيدة الرائعة بالحدث الحكائي إلى ذروته التشويقية، بعد أن اكتملت فلسفتك من طلب الوداع والرحيل. واستطعت في هذه القصيدة.. [جدب].. أن تقف أمام طغيان الأنانية الفردية، والتي لا تستمتع بها. وكنت تسرد توديعك ورحيلك لنا بتحمل أقصى.. [الأهوال والضغوطات والتحديات والرهانات].. وكأنك تقول لمن تخاطبه بسمو ورقي أنك قطعت الصحارى والجبال والبحار بحثًا عن مخرج من هذه الحياة. وهذا التصور بنظري قمة من القمم التي تجسد التشاؤم. ولذلك جعلت الناس غارقة في بكائها لما قرأت. سيدي الشاعر: إن قصيدتك بكائية من طراز مميّز. إذ نرى أن.. [الوقاد].. الذي جلب الضوء لك هو.. «ضوء المكان».. الذي ولدت وتربيت وترعرعت وتعلمت فيه، وهو مكةالمكرمة. فبرزت المروءة والشهامة والنخوة والعبقرية، في شخصيتك وكنت من أقوات القلوب. وجمعت بين العلم والمعرفة والثقافة والأدب. وطالما عالجت اعوجاجًا، بل اعوجاجات مستعصية بحد قلمك الجريء، حتى وصلت بالارتقاء الأخلاقي إلى مكانته الطبيعية. فبعدت عن.. [النزقات والمزاجيات].. وظلت تنظر إلى الكبر والتكبر بازدراء، لأني رأيتك ترفض كليًّا العجرفة والتعجرف الذي لا يراه مفيدًا إلاّ عديم العقل. سيدي الشاعر: طب نفسًا، وقر عينًا، فإني لا أزال أحتاج إليك أن تعيش بيننا بكل صحة وقوة وعزة وشموخ. أقول إن هذا من حقي، أن اعترف أنني أحتاجك وغيري كثير من أهل مكةالمكرمة المباركين حالهم مثل حالي. فأنت منذ أن عرفتك كنت ومازلت مثل.. [النخلة الباسقة].. والنخلة لا تميل، ولا تنحني، ولا تضعف، ولا تؤذي، ولا تقهر، وتؤكل ثمراتها على مدار التاريخ. إن قصيدة.. [جدب].. كأنها تمثل رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وقد ضغط واختصر الشاعر الخوجة تشاؤمه وحزنه عبر رحيله ووداعه في قصيدة واحدة لا تتجاوز أبياتها عن عشرين بيتًا، في حين أن المعري كتب رسالة طويلة حكى معاناته وأوجاعه وهمومه وآلامه من الحياة. ورغم اختلاف الظروف النفسية والجسدية والبيئية والوظيفية والعمرية؛ إلاّ أن درجة وسيطرة الحزن والتشاؤم والملل من الحياة، والمعاناة واحدة لدى أبي العلاء المعري والخوجة. إلاّ أن هناك فارقًا كبيرًا وملحوظًا في الناحية المادية، فمرحلة أبي العلاء تعد مرحلة فقر، والتي لم يعرف فيها من ألف ألف أي مليون. أمام مرحلة الخوجة المتضخمة بالأموال والثروات. فزادت أرقام الأرصدة المالية إلى مليار وتريليون. والمرحلة التي عاشها المعري والخوجة هي مرحلة واحدة اضطربت فيها الأحوال السياسية والدينية والاجتماعية والثقافية، وظهرت الثورات العربية في العالم العربي والإسلامي. ولكن العصر الذي عاش فيه المعرى أفضل من عصر الخوجة، المليء بكل التناقضات الدينية والاجتماعية والسياسية والفكرية والثقافية. فربما أن تلك المتناقضات والنقائص هي التي جعلت الشاعر الخوجة يتأفف من هذه الحياة. والحمد لله أن الخوجة لم يفعل كما فعل المعري في.. [ الانزواء].. في داره، وانقطع عن المجتمع. وأرجو أن لا يصل الخوجة لهذه الدرجة؛ رغم قناعتي أن.. [العزلة].. في حد ذاتها نوع من أنواع.. [الإصلاح].. وهي سنة نبوية. والغياب في كثير من الأحايين أقوى من الحضور إذا كان الغائب له دوره وتأثيره. سيدي الشاعر الخوجة: ربما -وأؤكد على ربما- لم يفهم الكثيرون قصيدتك كما وضعت بأسبابها وأهدافها ومراميها، لأنها تحمل الكثير من الرموز، والترميز، والإشارات والتلميحات، والتصريحات وليس كل قارئ قادرًا، أو يملك القدرة على قراءة ما بين السطور، وفهم ظل الحروف والكلمات، والتي وضعها الخوجة وهو في مرحلة جلد الذات بقسوة. لأن بعض أبياتها قد ساقها الشاعر بقوالب غامضة، وحشد فيها الكثير من الألفاظ والكلمات والمعاني، التي لا يستطيع المتلقي سهولة فهمها واستيعابها. ولا استغرب هذا من عبدالعزيز خوجة المثقف والشاعر والأديب، فهو صاحب ثروة ضخمة من الألفاظ والكلمات والعلم والمعرفة والثقافة. وكأنه إناء امتلأ بالماء، ففاض الزائد من مائه بمثل هذه القصيدة. وأستطيع أن أقول إن قوة بصيرة ورؤية الخوجة مدّت له في مخيلته الخصبة، فكتب هذه القصيدة الرائعة التي يصعب أن يكتب مثلها الآن من شاعر مسؤول، والله منح هذا الرجل شاعرية ذكية وحادة، ويتميز الخوجة بهدوء في تفكيره وأسلوبه في التعبير ناضج. وكل حرف يرصه الخوجة في أبيات شعره، ويشع نورًا وإضاءة. وهي تكشف عن المكنون من ذخيرته اللغوية، التي تستخرج العسل. *** عبدالعزيز خوجة عاش نفس الحالة النفسية التي عاشها الشاعر الكبير زهير بن أبي سلمي المزني، حين تأفف من ملل الحياة فقال في قصيدته الميمية: سئمت تكاليف الحياة ومَن يعش ثمانين حولاً، لا أبا لك، يسأم ! وأيضًا لامسه في ذات الحالة النفسية حين قال: ألم ترني عمرتُ تسعين حِجة وعشرًا تباعًا عشتها، وثمانيا؟. ولقد قلّد وجارى الخوجة ما قاله عدي بن زيد في البيت الشعري الرائع الذي استشهد به سيبويه فقال عدي: أرواح مودع أم بكور أنت فانظر لأي حال تصير *** وهذا شاعر ثالث يقول: حتى متى وإلى متى نتواني وأظن هذا كله نسيانا والموت يطلبنا حثيثًا مسرعًا إن لم يزرنا «بكرة» مسانا إنا لنوعظ بكرة وعشية وكأنما يعني بذاك سوانا غلب اليقين على التشكك في الردى حتى كأني قد أراه عيانا يا مَن يصير غدًا إلى دار البلى ويفارق الإخوان والخلانا إن الأماكن في المعاد عزيزة فاختر لنفسك إن عقلت مكانا *** وسبق الشاعر الخوجة وعاش حالته النفسية المثقف والمفكر والمتنور والشاعر السعودي الكبير الشيخ محمد سرور الصبان الذي قال في مطلع قصيدة له: جل الأسى وتتابعت زفراتي ودنا المشيب فقلت حان مماتي وقبله أيضًا قال شاعر مصر العظيم حافظ إبراهيم في قصيدته الرائعة «اللغة العربية» والتي كان مطلعها يقول: رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي وناديت قومي فاحتسبت حياتي رموني بعقم في الشباب وليتني عقمت فلم أجزع لقول عداتي *** ثم يزداد تشاؤم وملل وإحباط الصبان فيقول في نفس القصيدة: يا أيُّها القدر الموافي إنني بادي الضنى حلاً ثرى نظراتي أمنن عليَّ بساعة أقضي بها حق البلاد وخذ ربيع حياتي *** سيدي: الشاعر عبدالعزيز خوجة، ابن مكة البار -إن شاء الله- أذكرك بقول الشاعر: ذكرتك والحجيج له عجيج بمكة والقلوب لها وجيب فَقُلْتُ وَنَحْنُ فِي بَلدٍ حَرامٍ بِهِ واللّه أُخْلِصَتِ القلُوبُ أتوب إليك يا رباه مما جنيت فقد تظاهرت الذنوب فأمّا من هوى ليلى وحسبي زِيارتَها ، فَإنِّي لا أَتوبُ *** أطوِّف بالبيت فيمن يطوف وارفع من مئزري المسبل وأسجد الليل حتى الصباح وأتلو من المحكم المنزل عسى فارج الكرب عن يوسف يُسَخِّر لي ربة المحمل يا شاعرنا أبا محمد: إني أرجو أن تلمم قراطيسك، وتلف صحائفك وأدخلها في أدراج صندوقك الحديدي. (*) أديب وكاتب سعودي البريد: [email protected] الموقع: www.z-kutbi.com