راودني شعور كبير بأن قارئ هذا الحوار مع الشاعر محمّد عابس لن يكون عسيرًا عليه أن يصفه ب “النرجسي” بعد أن يفرغ من قراءة إجاباته وإفادته، فهو يصف ديوانه “ثلاثية اللذة.. والموت” الصادر بعد غياب امتد لستة عشر عامًا بأنه “أهم ديوان صدر منذ مطلع الألفية الجديدة في ساحتنا»، ولا يجد في ذلك أي مبالغة، مشيرًا إلى أن تجربته الشعرية بحاجة إلى نقّاد حقيقيين، بعيدًا عن نقّاد “الشنطة” أو نقاد “الدالات” الذين أصبحوا كالهم على القلب -على حد وصفه-، مؤكدًا كذلك أن ساحتنا الإبداعية يسيطر عليها المتسلقون وكُتّاب «أبو ريالين»، وأن الغالبية من كُتّاب الرواية يكتبون تهريجًا وكلامًا لا علاقة له بمفهوم الرواية، وأن ابتعاده عن نشر إنتاجه مرده إلى عدم قناعته بجدوى الطباعة وسيطرة الناشرين وضعف مستوى القراءة حتى عند النخب والنقاد والأكاديميين.. لست أملك إلا أن أخلي بين القرّاء وهذه الآراء الجريئة، على يقين أنها ستحدث صدًى متباينًا وكبيرًا.. الشعر كالمرأة * أي شيء خاص منحك إياه الشعر دون الشعراء الآخرين؟ ** الشعر منحني الكثير لأنني منحته الكثير من وقتي ومالي واهتمامي ومتابعتي، ولا أبالغ حينما أراهن عليه لغة وصورة وإيقاعات مختلفة وتشكيلات بصرية وعوالم كثيرة متصلة بالحياة والكون والناس وفلسفة الوجود والأشياء، وللحقيقة الشعر كالمرأة لا تقبل أن يشاركها أحد، ومتى ما قلّ الاهتمام من الشاعر هجره الشعر. مطبوع وليس مصنوعًا * توصيفك هذا يشي بذاتيتك المفرطة.. هل تشعر أنت بذلك؟ ** الذات مسألة مهمة لدى الشاعر الذي يمتلك تجربة متميزة ومتفردة عن غيره، الشاعر الذي يضيف ويتميز ويختلف عن السائد والمكرور، الشاعر المطبوع وليس المصنوع من قبل وسائل الإعلام والمسؤولين عن المنابر المختلفة، الشاعر الذي يمتلك مشروعًا إبداعيًّا وليس مجرد قصائد أو نصوص ربما لا رابط بينها، الشاعر الذي يقدم تجارب متمايزة ومضيفة، وعلى العموم ليس المهم ما يشعر به الشاعر وإنما منجزه الكتابي وإضافته لمن قبله من الشعراء وما قبله من شعر. رؤية واضحة * إلى أي مدى تمنحك القصيدة أيًّا كان غرضها ودلالتها رؤية واضحة لما تقصده؟ ** وضوح الرؤية مسألة نسبية بين شاعر وآخر ونص وآخر، ولكن إذا لم يكن لدى الشاعر رؤية واضحة للكون والحياة والأشياء فلن يكون لديه رؤية في شعره، لأن الشعر هو الأقدر على التعامل مع المحسوسات والمعنويات وقراءة المستقبل واستشراف العوالم المختلفة وسبر أغوار التفاصيل مهما كانت دقتها وتعقيداتها، العلاقة بالقصيدة كالعلاقة بالأنثى فيها الحب وفيها الجنس وفيها المشاكسة وربما الاختلاف. مقدمة منفصلة * يقولون إن النثر إذا سبق الشعر أفسده، فما الذي قصدته من تقديم ديوانك الأخير “ثلاثية اللذة.. والموت”؟ ** كلامك صحيح إذا كانت المقدمات قبل النصوص أو قبل هذه القصيدة أو تلك وهذا ما لم أفعله، فقط أحببت أن أكتب مقدمة نقدية لا علاقة لها بمضمون الديوان وقصائده، ولعل القارئ الحصيف يعلم أن أهم الرؤى والآراء النقدية عالميًّا كانت من خلال مقدمات لدواوين شعرية، كانت مقدمتي توضيحًا لانقطاعي من جهة، ورؤيتي للشعر وعوالمه المختلفة ولا علاقة لها بنصوص الديوان. خوف من النقد على الشعر * هل يمكن أن نعتبر هذه المقدمة بواكير مشروع نقدي بداخلك أحببت أن تكون تجربته الأولى على شعرك؟ ** الشاعر هو أصدق النقاد، وكعراب لجيلي -كما يحلو لهم تسميتي- كنا نجتمع منذ أيام الجامعة سواء في نادي الشعر أو في منزلي وفي منازل بعض الأصدقاء ونمارس النقد الشخصي على نصوصنا قبل وبعد التخرج في الجامعة، ولعل كلامك قد لامس شيئًا من الحقيقة ولكنني لم أتفرغ لكتابة عمل نقدي حتى لا يؤثر على مشروعي الشعري وهو الأهم عندي، أما الرؤية النقدية فهي موجودة ولعلي أمارس بعض أشكالها في البرنامج الإذاعي المباشر “أبعاد ثقافية” منذ سنوات وحاليًا في برنامج “الاتجاه الصحيح” في العاشرة مساء كل جمعة في إذاعة الرياض مع الزميل الدكتور صالح المحمود. استجداء مرفوض * ألم يكن من الأجدى تقديم دراسة نقدية عن شعرك بدلًا من المقدمة الروتينية؟ ** الدراسات النقدية مسؤولية النقاد باختلاف مشاربهم، أما أن أجعل مقدمة نقدية لديواني فلست مع هذا التوجه رغم أن هناك من يقوم به، وهذه المقدمات في الغالب لا تخلو من المجاملة والدعم غير الفني للديوان ولكنها قد تكون حافزًا ودعمًا للدواوين الأولى للشعراء لتقديمهم للساحة، ثم إنني لا أستجدي النقاد ليكتبوا عن شعري، ومن وجد فيه ما يناسب رؤيته النقدية أو مشروعه النقدي فهذا شأنه ولكن ديواني أكبر من أن أزايد عليه نقديًّا أو صحافيًّا لأنه أهم ديوان صدر منذ مطلع الألفية الجديدة في ساحتنا بدون مبالغة، ولكن الوسط النقدي لم يعد كما كان قديمًا من ناحية؛ ومن ناحية أخرى جيلنا -أعانه الله- يخلو من النقاد البارزين. تشويش على البراءة * وهل يمكن أن يؤثر المدخل النقدي لأي ديوان شعر على القارئ؟ ** ربما، خاصة القارئ البسيط وقد يؤثر عليه سلبًا ويشوش على براءته القرائية وصفاء ذهنه لأنه يدخل وأمامه تلك القراءة وسيوفها مسلطة عليه وحاضره بين عينيه وضاربة بأطنابها في مخيلته، ولكن القرّاء اليوم مزاجيون فقد يقرأ النص الأخير أو من وسط الديوان دون قراءة البداية، وربما معه حق لأن كل نص يحمل تجربة قد تكون مستقلة عن بقية النصوص. انقطاع مبرر * قلت في مقدمة ديوانك أن هذا الديوان يأتي بعد انقطاع دام أكثر من ستة عشر عامًا.. لماذا انقطعت كل هذه المدة؟ ** لم يكن انقطاعي كاملًا؛ فقد كنت أنشر في الملاحق الثقافية في الصحف والمجلات، وأشارك في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة إلى جانب الأمسيات الشعرية داخل وخارج المملكة، وإنما كان الانقطاع عن الطباعة لإحساسي بعدم جدواها من ناحية وضعف مستوى القراءة، وبالتالي التوزيع في عالمنا العربي وكذلك سيطرة الناشرين وهضم حقوق المبدعين والأدهى والأمر رؤية أصحاب الدور العربية لنا، حيث لا يهمهم إلا أن تدفع لهم مقابل أن يطبعوا لك ولا يفكرون في توزيعه أصلًا بشكل متميز طالما قد استلموا المال مقدمًا، ولأنني أرفض ذلك لم أطبع. نحت جمالي عالٍ * أنت مولع دائمًا بصقل تجربتك الشعرية.. إلى أي مدى استطعت أن تفعل ذلك في ديوانك الأخير؟ ** لا شك أن هناك تطورًا كبيرًا في تجربتي، واختلافًا واضحًا في الآليات والأشكال والرؤى، ونحتًا جماليًّا عاليًا على مستوى اللغة، وتجريبًا أكبر على مستوى الإيقاعات، ودمج بعضها، وتغيير الإيقاع داخل النص الواحد، ولا تنسى الحس الدرامي من جهة والأسلوب المسرحي من جهة أخرى، هناك لغة كاميرا وتصوير عالية ومشاهد سينمائية مبهرة تحتاج إلى عين بصيرة وذائقة رفيعة وفكر وقّاد وإحساس بالجمال وشروطه الصعبة. نقّاد الشنطة * ما الفرق الذي تراه بين تجربتيك “الجمر ومفارش الروح”، و“ثلاثية اللذة.. والموت”؟ ** الفرق يدركه القارئ المتميز والناقد الحصيف؛ ديواني الأول كان يشكّل تجربتي الأولى ليس شعريًّا وإنّما في نمط التفعيلة، حيث تجاوزت تجربتي الرومانسية الأولى شعريًا ولم أطبعها إلى الآن، وغامرت بطباعة تجربتي في الكتابة بأسلوب شعر التفعيلة، أما الديوان الثاني ففيه من التجريب والرؤى والإبهار البصري والفكري الكثير، وهو بحاجة إلى ناقد حقيقي لسبر أغواره وليس من نقاد “الشنطة” أو نقاد “الدالات” الذين أصبحوا كالهم على القلب. تراكم كتابي * هل كان لعامل الزمن وفرق الستة عشر عامًا بين التجربتين أي أثر عليهما؟ ** لا أعتقد؛ إلا أن التجربة تراكمية. فمع الوقت والتجريب توصلت إلى معجمي الخاص وأساليبي الخاصة ولغتي الخاصة وأشكالي الكتابية المتفردة، وهناك من يصفها بالصعوبة والتعقيد، فالقصائد مكتوبة على مدى السنوات الماضية وهي منتخبة مما كتبت خلال تلك الفترة، إلى جانب أنه تمر علي أحيانًا أشهر ولم أكتب شيئًا خاصة أن لدي مشاريع كتابية أخرى للطفل وللسيناريو وللبرامج المرئية والمسموعة، والمسألة هي تداخل ونمو وتراكم كتابي يجنح نحو الاختلاف والإضافة. عناوين مختلفة * ولكن الملاحظ أنه لم يحدث تغير كبير في البناء العنواني والدلالي في شكل الديوانين.. فما قولك؟ ** العنوان سواء للنص أو للديوان تحكمه ضوابط أخرى، وقد يكون عنوان الديوان عنوانًا لقصيدة كديواني الأول، وقد يكون للجانب التسويقي أهمية أيضًا وربما رؤية ذاتية أو شمولية للعمل؛ الخ... ولكن العنوانين في الديوانين الأول والثاني مختلفان كثيرًا من حيث الدلالة والنمط اللغوي، ويمكن القول إن عنصر الغياب أو المسكوت عنه في عنوان الديوان الأخير واضح بشكل كبير، ويحيل رمزيًّا ودلاليًّا وأسلوبيًّا إلى الكثير من التقاطعات مع نصوص الديوان. رهان على الشعر * ديوانك الأول صدر في فترة واجه فيها الشعر هجومًا كبيرًا.. هل هذا ما دفعك لتتوقف عن إصدار ديوان آخر؟ ** لا، ثم إنني أنشر نصوصي منذ منتصف الثمانينيات وعاصرت الهجمة على الشعر والحداثة الخ وأصدرت ديواني الأول كقناعة مني بأهمية مواصلة المجهود الإبداعي مهما كانت المحاولات لعرقلته أو التشويش عليه لأن البقاء للأصلح والأجمل وهذا ما حدث، والإنسان عدو ما يجهل، ولعلك ترى الآن أن المشكلة انتقلت من الخلاف بين العمودي والتفعيلة إلى الخلاف بين التفعيلة وقصيدة النثر، وأنا أرفض كل ذلك وأراهن فقط على الشعر بأي شكل كان. قلق من تدني القراءة * بسبب تأخرك في النشر تعداك كثير من شعراء المرحلة.. ألا يلقي ذلك بظلال على تجربتك الشعرية؟ ** المسألة ليست سباقًا ماراثونيًّا أو تتابعًا أوليمبيًا، هناك شعراء نجلّهم ونقدرهم ونعرف مكانهم ومكانتهم رغم أنهم مقلّون في النشر من ناحية أو لم يطبعوا أعمالهم أصلًا، وهذه المسألة لا تقلقني؛ وإنّما مصدر القلق هو تدني مستوى القراءة من ناحية والمتابعة من ناحية أخرى، ليس على المستوى العام فحسب؛ بل على مستوى النخب والنقاد والأكاديميين، مع أن الأعمال الإبداعية موجودة حسب نظام الإيداع في مكتبة الملك فهد الوطنية، إلى جانب انتظام معرض الرياض الدولي للكتاب منذ عدة سنوات بشكل ثابت سنويًّا، وليس هناك عذر للباحث أو القارئ الناضج أو الناقد الباحث عن الجمال وتطور الحركة الشعرية في هذا المكان أو ذاك. طغيان عصر المادة * وما الأسباب التي أدت إلى تغير جدوى الطباعة في عالمنا العربي اليوم؟ ** هناك أسباب كثيرة منها طغيان عصر المادة على كل شيء وكثرة الملهيات والمغريات، فقديمًا لم يكن هناك سوى الصحافة ثم الإذاعة ثم التلفزيون المحدود أما الآن فمئات القنوات الفضائية ومئات الصحف والمجلات وآلاف المواقع العنكبوتية وطغيان الثورة في مجال الاتصالات والمعلومات، وجميعها ساهم في ضعف الإقبال على الكتاب والقراءة وقدم بدائل استهلاكية للمتلقي أبعدته عن الجمال والإبداع والذائقة الرفيعة واكتشاف الأعمال المتميزة كتابيًا. نظرة سيئة * كيف ينظر الناشر العربي إلى المؤلفين السعوديين؟ ** كما قلت سلفًا النظرة سيئة جدًّا؛ ولعلّ الناشر السعودي له دور في ذلك بضعف حضوره وضعف دفاعه وضعف دعمه، ولا شك أن عدم وجود وزارة للثقافة قديمًا عندنا ألقت بظلالها السيئة فالكتاب بحاجة إلى الدعم الحكومي.. كما أن المبدع نفسه بقبوله لهذا الابتزاز مرة تلو الأخرى شجعهم على الاستمرار في هذا الأسلوب الجائر من التعامل، ولكي لا أعمم هناك قليل من أصحاب الدور العربية يحاول الاستفادة من أسماء بعض السعوديين ليكسب من حيث التوزيع ولكن دون جهد منه وهناك محليًّا محاولات جادة من أصحاب بعض الدور. تهريج روائي * هل لظهور الروايات الجديدة واهتمام الناشر بها تأثير على هذه النظرة؟ ** هذه نظرة تسويقية وشاهد معي ما الروايات التي يمكن مجازًا أن نقول إن دور النشر العربية تحرص عليها!! أليست روايات الجنس والشذوذ وفضح المستور وكشف المسكوت عنه بعيدًا عن النضج الفني والعمل السردي الحقيقي وإن كان هناك من يعدون على الأصابع تميزًا في أعمالهم ولكن الأغلبية يكتبون تهريجًا وكلامًا لا علاقة له بمفهوم الرواية. تجاهل الشكل * كيف سيكون ترتيبك لأشكال القصيدة من العمومية إلى التفعيلة إلى النثر، حسب الأقرب إلى نفسك.. متى يمكن أن يظهر ديوان عابس الجديد الذي يحوي قصيدة النثر؟ ** حسب القصيدة أو النص بعيدًا عن الشكل فهناك قصائد أحبها كثيرًا من كل نوع، وليس لدي تفرقة من حيث الشكل وإنما من خلال المعالجة وأسلوب الطرح وفرادة اللغة، وليس لي موقف مسبق مع الشكل الشعري لأن تجربة الكتابة هي التي تحدد ما يناسبها من حيث الشكل. أما عن ظهور ديوان يحوي قصيدة النثر فخلال أقل من عامين سيكون صادرًا بإذن الله. تخمير المشاريع * لديك الكثير من التجارب الشعرية، لماذا تصر على عدم إظهارها؟ ** لا أعلم بالتحديد؛ ولكن شاعرًا مثلي مثقلًا بهموم حياتية وهموم العمل والدراسة كل ذلك يجعلني أأخر النشر قليلًا من ناحية وأريد أن يأخذ الديوان الأخير فرصته في الساحة، كما أن لدي مشاريع كتابية أخرى في مجال الطفل والأوبريتات وكتابة سيناريو الأفلام الوثائقية والبرامج، كما أنني لا أريد أن أحرق بعض المشاريع التي تحتاج مزيدًا من الوقت لتختمر أكثر أو تنضج أكثر أو تكتمل ملامحها ولا تؤثر على غيرها. نجوم من ورق * ما الذي تقصده بالأشكال الاستهلاكية.. هل هي في مزاحمة مع الإبداع أم في حالة توافق؟ ** الاستهلاك أصبح لغة عالمية لكل شيء؛ فأنت تسمع شريط الأغاني وتلقي به ودواوين الشعر العامي وتلقي بها وكتب التجميع والقص واللصق والطبخ والتهريج والاستخفاف وتندم على قراءتها وكتيبات النشر تؤجر، كل ذلك وما خفي أعظم يزاحم الإبداع الحقيقي ويبعد الناس عنه ويضع الحجاب على أعين الناس الذين تكرس أمامهم العديد من النماذج السيئة فيما يسمع ويقرأ ويشاهد ويتم صناعة نجوم من ورق. انحياز للصورة * ولماذا تركز كثيرًا على مسألة الصورة واستخدام أشكالها المختلفة؟ ** الصورة هي لغة العصر رغم الاهتمام الشديد بها منذ القدم وربما بأسماء أخرى، الصورة هي الشكل الأمثل والأكمل لتقديم الرؤية الشعرية، فماذا سأقرأ إن لم يكن من خلال صور مختلفة وبآليات ولغة متميزة. ثقافة بصرية * تبدو مشغولًا بزوايا البصر والموسيقى في النص.. فما وجه التقاطع بينهما، أو التنافر؟ ** صحيح؛ وبخاصة أن القصيدة الحديثة دخلت عوالم جديدة مرتبطة بطريقة وشكل وآلية الكتابة وما يصاحبها من رسوم أحيانًا، والأهم علامات الترقيم والتشكيل التي تمنح النص ثقافة بصرية تسهم في الإطار العام للمعنى والموضوع، أما الموسيقى فتمثل أهمية قصوى والشاعر المبدع يستطيع توليفها وخلقها وتنويعها لتعطي مزيدًا من الشحنات لاكتمال فكرة النص وتعطيه حيوية وتفاعلًا مع المبدع المتلقي، وتمد اليد له نفسيًّا وسمعيًّا ليستطيع الغوص في عوالم النص واكتشاف مفاتيحه واكتشاف عمق الرؤية وبلورتها أمامه. بحث عن قارئ متميز * هل تعتقد أن المتلقي يمكن أن يستوعب تنوعك الإيقاعي من خلال النصوص التي تقدمها له؟ ** إذا لم أراهن على المتلقي فعلى من سأراهن؟!، لا أخفيك أنني أهتم بالمتلقي أو القارئ وأحاول مساعدته بأشكال مختلفة حتى يتمكن من التعامل مع النص وممارسة عشقه القرائي والتأويلي له واستنطاق مواطن الجمال والمتعة فيه، وقارئ متميز يغنيني عن ألف يقتني الديوان ويضعه كديكور في مكتبته. تشويش على الشعر الصافي * برأيك ما الذي يمكن أن يعيد للشعر هيبته ورونقه الخاص؟ ** الشعر لم يفقد مكانته أصلًا، ولكن غير الشعر هو الذي مع الأسف شوّش على الشعر الصافي والحقيقي، فكل من كتب محاولات سمّى نفسه شاعرًا وكُتّاب الزجل العامي أصبحوا شعراء، الشعر أكبر وأهم من كل ذلك ويجب أن نسمي الأشياء بمسمياتها فمن يكتب للأغنية (كاتب أغنية) والكتابة بالعامية تسمى (الزجل) والكلام المصفوف والموزون لغرض تعليمي أو غيره يسمى (النظم)؛ أما الشعر فأسمى وأعمق من ذلك كله، وبإجابة مباشرة على سؤالك حينما نطلق المسميات الحقيقية على الأشياء ولا ننسب إلى الشعر إلا ما هو شعر عندها تحفظ للشعر هيبته ومكانته، الشعر عميق بعمق التاريخ الإنساني ويجب أن نحترمه ولا ننسب إليه إلا الشعر الحقيقي المؤثر والبعيد عن الاستهلاك والتهريج والتكسب... إلخ. تعب ممتع * متابعتك الدائمة لقرائك ألا تتعبك كثيرًا في عملك الإبداعي؟ ** هو تعب ولكنه لذيذ وممتع، ولا تصدق مدى سعادتي بالتواصل مع القارئ (المتلقي) أيًّا كان دون بحث في مرجعيته، والقارئ المبدع والمتميز لا يقل أهمية عن الشاعر والتفاعل مع الشعر وجمالياته المتعددة والأخاذة وعوالمه المتناقضة، نعم يتعبني؛ ولكنني سعيد بهذا التعب، وهو جزء من العملية الإبداعية التي يشترك فيها أطراف مختلفة وليس الشاعر فقط. سطوة المتسلقين * كيف تقرأ المشهد الإبداعي اليوم على الساحة؟ ** مشهد معقّد يغلب عليه المتسلقون وأرباع وأنصاف المثقفين وكُتّاب (أبو ريالين) كما أسميهم يستسهلون الكتابة ويستعجلون النشر ويقفزون في الملتقيات والمؤتمرات وليس هناك ما يشفع لهم أصلا، المزيفون كثيرون مع الأسف وواقعنا الاجتماعي يسهل لهم ذلك الحضور السيئ وسهم في ذلك أيضا عدد من الإخوة العرب وليس كلهم الذين لا همّ لهم سوى الحصول على المال فيعلون من شأن الضعيف ويهمشون المبدع، العلاقات والشللية ضاربة بأطنابها أيضا في ظل غياب العمل ضمن المفهوم المؤسساتي المنهجي المدروس بعيدا عن المجاملات والمصالح. منتج ضعيف * ظاهرة التكرار في هذا المشهد إلى ماذا تعزوها؟ ** التكرار مرده إلى ضعف المنتج ورداءة وغياب العمق الفكري والفلسفي لدى العديد ممن ينسبون أنفسهم للإبداع والثقافة، فطبيعي أن يكون هناك تكرار في الأعمال والأفكار والمحاور وأوراق العمل، للعلاقات دور وللشللية دور؛ فالضعيف يدعو الضعيف، أما المتميز فلا يسعى وإنما يجب أن يُسعى له للحريص والمتابع والراغب في إنجاح الفعالية التي يعمل فيها. * ما هي أبرز ملاحظاتك عليه؟ ** لعل فيما ذكرت الكفاية؛ ولعل هذا الحوار سيثير علي العديد من الانتقادات ولا سيما ممن رميت الكرة في مرماهم وألمحت إليهم كمرض ثقافي يجب استئصاله أو على الأقل تحجيمه وعدم السماح له بالانتشار وتصدير الضعف والركاكة باسم الإبداع العربي السعودي. * في أصبوحتك الشعرية الأخيرة بجامعة الملك سعود طالبت بالاهتمام باللغات والترجمة حتى نتمكن من ترجمة الإبداع السعودي إلى مختلف اللغات.. كيف ترى أهمية الترجمة هذه؟ ** بعيدًا عن مقولة أن الترجمة خيانة؛ ارى أن الترجمة مهمة جدًّا لأننا لا نعيش في كوكب لوحدنا، ومع الطفرة الهائلة في وسائل الاتصالات والمواصلات وتقنية المعلومات بات من المهم جدًّا أن نصدر ثقافتنا وإبداعنا باللغات الأخرى ومن أبنائنا المتقنين لتلك اللغات، فرغم الجوائز (جائزة الملك عبدالله للترجمة) وجمعية الترجمة وكليات اللغات وأقسام اللغة الإنجليزية في غير جامعة إلا أننا لم نجد المترجم السعودي المتميز للإبداع باللغات العالمية المهمة، ولعل المستقبل يبل الريق ويعيد الصدى، كما أن من يترجم وهو بعيد عن الثقافة والموروث للمواد المترجمة تكون ترجمته إساءة كبرى وقد تغير الصور في النصوص الأصلية أو الرؤى أو معاني بعض الرموز في النصوص وتحيلها إلى نصوص هزيلة.