القصف والجوع والشتاء.. ثلاثية الموت على غزة    مغادرة الطائرة الإغاثية ال24 إلى بيروت    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء الخميس المقبل    «التعليم»: 7 % من الطلاب حققوا أداء عالياً في الاختبارات الوطنية    وزير المالية : التضخم في المملكة تحت السيطرة رغم ارتفاعه عالميًا    بدء التسجيل لحجز موقع في المتنزه البري بالمنطقة الشرقية    محافظ الطائف يرأس إجتماعآ لمناقشة خدمات الأوقاف    أمير منطقة تبوك يستقبل الرئيس التنفيذي لشركة المياه الوطنية    «السلمان» يستقبل قائد العمليات المشتركة بدولة الإمارات    مناقشة معوقات مشروع الصرف الصحي وخطر الأودية في صبيا    اكتمل العقد    دوري يلو: التعادل السلبي يطغى على لقاء نيوم والباطن    11 ورقة عمل في اليوم الثاني لمؤتمر الابتكار    حملة على الباعة المخالفين بالدمام    تكريم المشاركين بمبادرة المانجروف    «الخريجي» يشارك في المؤتمر العاشر لتحالف الحضارات في لشبونة    بلاك هات تنطلق في ملهم بمشاركة 59 رئيس قطاع أمن السيبراني    استقبل مدير عام هيئة الهلال الأحمر نائب الرئيس التنفيذي لتجمع نجران الصحي    خادم الحرمين الشريفين يتلقى رسالة خطية من أمير دولة الكويت    أهمية الدور المناط بالمحافظين في نقل الصورة التي يشعر بها المواطن    جمعية «الأسر المنتجة» بجازان تختتم دورة «تصوير الأعراس والمناسبات»    رئيس «اتزان»: 16 جهة مشاركة في ملتقى "التنشئة التربوية بين الواقع والمأمول" في جازان    وزير الشؤون الإسلامية: ميزانية المملكة تعكس حجم نجاحات الإصلاحات الإقتصادية التي نفذتها القيادة الرشيدة    زيارة رسمية لتعزيز التعاون بين رئاسة الإفتاء وتعليم منطقة عسير    المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة يناقش تحديات إعادة ترميم الأعضاء وتغطية الجروح    مركز صحي سهل تنومة يُقيم فعالية "الأسبوع الخليجي للسكري"    سموتريتش يدعو مجدداً إلى تهجير نصف سكان غزة    "سلمان للإغاثة" يوقع مذكرة تفاهم مع مؤسسة الأمير محمد بن فهد للتنمية الإنسانية    الخريف يبحث تعزيز التعاون المشترك في قطاعي الصناعة والتعدين مع تونس وطاجيكستان    نائب وزير الدفاع يرأس وفد المملكة في اجتماع الدورة ال 21 لمجلس الدفاع المشترك لوزراء الدفاع بدول مجلس التعاون    نوف بنت عبدالرحمن: "طموحنا كجبل طويق".. وسنأخذ المعاقين للقمة    مسؤول إسرائيلي: سنقبل ب«هدنة» في لبنان وليس إنهاء الحرب    السجن والغرامة ل 6 مواطنين.. استخدموا وروجوا أوراقاً نقدية مقلدة    هيئة الموسيقى تنظّم أسبوع الرياض الموسيقي لأول مرة في السعودية    الصحة الفلسطينية : الاحتلال يرتكب 7160 مجزرة بحق العائلات في غزة    الجدعان ل"الرياض":40% من "التوائم الملتصقة" يشتركون في الجهاز الهضمي    ترمب يستعد لإبعاد «المتحولين جنسيا» عن الجيش    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    تحدي NASA بجوائز 3 ملايين دولار    حرفية سعودية    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    ظهور « تاريخي» لسعود عبدالحميد في الدوري الإيطالي    «التعليم»: حظر استخدام الهواتف المحمولة بمدارس التعليم العام    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    حكايات تُروى لإرث يبقى    «بنان».. جسر بين الماضي والمستقبل    ألوان الطيف    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    خسارة الهلال وانتعاش الدوري    بايرن وسان جيرمان في مهمة لا تقبل القسمة على اثنين    النصر يتغلب على الغرافة بثلاثية في نخبة آسيا    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"جدلية الهزيمة والعقل" .توفيقية قلقة في العهد الناصريّ وحسم مؤجل أمام استحقاق التاريخ
نشر في الحياة يوم 19 - 06 - 2000


تنشر مقالات الدكتور الأنصاري هذه كل اثنين وخميس
أخذ الحسم المؤجل بين الأضداد والنقائض في ظل التوفيقية الناصرية، يدق الجدار الموصد من جديد عندما تأزمت مسيرة الثورة منتصف الستينات، و: "بدأ الاستقطاب في السلطة بين جناحين : جناح يساري يتأهب لمعركة التغيير الحاسم، وجناح يميني يسعى لعرقلة هذا التغيير، واحتدم الصراع الفكري في المجتمع" - بحسب تعبير محمود أمين العالم في كتابه "23 يوليو، خمسة أبعاد"، ص: 46- 47. وسواءً اتفقنا مع هذا المفكر في طبيعة نظرته الايديولوجية أم لم نتفق فإن "الاستقطاب" كواقع بدأ يتبلور في قمة السلطة وفي قاعدة المجتمع على حدٍ سواء، على حساب "الوسط" التوفيقي الثوري الذي مثلته الناصرية بامتياز، بمعنى ان المشروع الناصري نقل توفيقية النهضة بين الاسلام والحداثة التي أسستها مدرسة محمد عبده إلى درجة أكثر تقدماً، اجتماعياً وحضارياً وفكرياً، لكنه لم يخرج عليها ولم يتجاوزها نوعياً
وما يستحق التأمل ملياً لفهم الخصوصية العربية، انه ليس من السهل ، في تاريخ الثورات وتجارب الشعوب، أن يتم هذا الجمع النادر بين الروح الثورية - التي مثلتها الناصرية - وبين الروح التوفيقية المحافظة التي حرصت عليها في الوقت ذاته. بهذا المعنى يمكن التأريخ والنظر اليها - كما ألمحنا - بأنها ثورة - في - التوفيقية النهضوية الحديثة، لا ثورة عليها...
وعندما زار الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر مصر في آذار مارس 1967 - قبل الحرب بشهور قليلة - كانت أبرز ملاحظاته بشأن الظاهرة الناصرية ونهجها الفكري والعملي تتلخص في مقولته:
"نادراً ما رأيت مثل هذا الحذر ، ومثل هذا الاهتمام بالتوفيق بين كل المصالح التي تتعارض في كثيرٍ من الأحيان" _ أنظرها في كتاب د.مراد وهبة، "مقالات فلسفية"، ص 279. فنظراً للاهتمام بكل هذا التوفيق بين المصالح الاجتماعية والعناصر الحضارية المتعارضة أو المتغايرة، ثم التوليف بين الاتجاهات الفكرية المعبرة عنها ليمثل تآلفها النظري المفترض انسجام التحالف الاجتماعي القائم المفروض.
وبحسب تعبير أمير اسكندر، فقد "انعكس الوفاق الموقت بطبيعته بين النقائض الاجتماعية، على الساحة الايديولوجية. وعاد المفهوم التوفيقي الى مكانه، حقاً كانت تثور بين الحين والحين بعض التساؤلات التي تحمل معنى الحيرة والشك. ما علاقة الدين بالدولة؟ ما هي اشتراكيتنا؟ اشتراكية عربية أم طريق عربي إلى الاشتراكية؟ ما هي طبيعة ايديولوجيتنا؟ ما محتواها؟ غير ان هذه التساؤلات سرعان ما كانت تجد من يضع لها الاجابات ذات الصيغ التوفيقية التي تتعايش فيها النقائض من دون أن ينفي أحدهما الآخر. تتجاوز من دون أن تتفاعل تتماس من دون أن تتصارع" الاحتفاظ دائماً في المعادلة بطرفي التعادل - أمير اسكندر ، مواقف من التراث، مجلة "آفاق عربية"، عدد 2/1975، ص 65 وهو تحليل، وان اختلفنا مع صاحبه ايديولوجياً بصفة عامة، فإنا نتفق معه في توصيفه لهذه الظاهرة التوفيقية في المشروع الناصري على وجه الخصوص.
ونتيجة لذلك تراوحت الاتجاهات الفكرية التي انتسبت الى الناصرية، أو اعتبرت الناصرية تعبيراً عنها: من الاتجاه الديني المعتدل الشيخ مصطفى السباعي في "اشتراكية الاسلام" الى الاتجاه المثالي عثمان أمين في كتاب "الجوانية: أصول عقيدة وفلسفة ثورة" الى الاتجاه الليبرالي العلماني الدكتور زكي نجيب محمود/ مجلة "الفكر المعاصر"، الى الاتجاه القومي الاشتراكي ميشيل عفلق "في سبيل البعث"، ومطاع صفدي في "ناصر - الناصرية - والثورة العربية"، الى الاتجاه القومي الماركسي لطفي الخولي/"دراسات في الواقع المصري المعاصر"، ونديم البيطار/ "نحو الارتباط بمصر الناصرية أو طريق الوحدة العربية" - يراجع : محمد جابر الأنصاري ، "الفكر العربي وصراع الأضداد".
واذا كانت بعض هذه الاتجاهات أقرب الى الروح الحقيقية للناصرية من بعضها الآخر، فإنه لم يكن ثمة معيار فكري حاسم يمثل إطاراً صالحاً للفصل بين ما يقع داخل الناصرية وما يجب أن يبقى خارجها. ولقد كانت الناصرية في الواقع، هذا الاتجاه أو ذاك في هذه المرحلة أو تلك من مراحلها في اطار النهج البراغماتي التجريبي والانتقائي الذي اتصفت به. وللحقيقة ، فإن عبدالناصر كان على وعي مبكر بهذا الإشكال الناجم من هذه الازدواجيات والثنائيات الفكرية بين مختلف هذه الاتجاهات المتغايرة واحياناً المتناقضة. فقد حذر منذ عام 1960 من تكرار القول إن نظامنا هو: نظام وسط بين الأنظمة، وانه موقف وسط بين العقائد وذهب إلى ان هذه المقولة سطحية وبعيدة عن الحقيقة وان علينا أن نبحث عن: "مزيج القلب والعقل والروح" لأمتنا لصياغة عقيدتها الاجتماعية - "الاشتراكية في أقوال الرئيس"، ص 44 غير ان تطلعه لهذا "المزيج" لم يتبلور في بنيان فكري محدد، خصوصاً في مراحل انطلاق الثورة وحتى إلى مرحلتها الأخيرة. وعندما أنضجت الثورة عدداً من المفكرين "الناصريين" بالفعل، والقادرين على صياغة المشروع الناصري فكرياً نحو "مزيج القلب والعقل والروح" الذي تطلع إليه عبدالناصر، كانت ضربة حزيران يونيو 1967 قد كسرت العمود الفقري للمشروع الناصري وسدت عليه آفاق التطور، ثم جاءت وفاة عبدالناصر المبكرة عام 1970 لتقطع الطريق على مثل هذه الصياغة الفكرية الناضجة والمكتملة التي دعا اليها قبل عشر سنوات، في الأقل، من زمن رحيله. وعندما أصدر عصمت سيف الدولة كتاب "نظرية الثورة العربية" عام 1969- 1970، كأوسع محاولة لإعطاء الناصرية عمقها النظري، جاء ذلك بعد فوات الأوان، ولم تكن أرض الواقع المحترق بقادرة على منح الاخضرار لنظرية تأخرت عن موسم الإخصاب. وللحق فلم يكن صاحب "نظرية الثورة العربية" ذاته يحمل أي وهم في تلك الظروف الحالكة بشأن صعوبة توقيت مهمته التنظيرية: "عندما أثبتت هزيمة حزيران 1967 جسامة المخاطر التي ينطوي عليها الأسلوب التجريبي، أصبح مسلماً أن مواجهة المستقبل العربي بغير "نظرية" حماقة خرقاء. فقد كنا صادفنا النجاح الذي تصادفه التجربة أحياناً، فأغرانا نجاحنا العرضي بالإصرار على عدم الالتزام العقائدي، وألهانا عن المخاطر التي كانت تنتظر مسيرتنا، فإذا بنا نتبين في أسوأ الظروف ملاءمة للتراجع، أنه كان نجاحاً موقتاً ومحدوداً، وان الحساب الختامي للمسيرة غير العقائدية، كان خسارة فادحة" عصمت سيف الدولة ، "نظرية الثورة العربية"، دار الفكر، بيروت، ص7. إلا ان ذلك لم يمنعه في نهاية مطافه النظري من أن يحلم بتكوين "الحزب القومي الديموقراطي الاشتراكي" وهو مطمح تنظيمي ظل عسير المنال في التجربة الناصرية شأنه شأن "النظرية" العقائدية ذاتها. ويصعب اليوم على مؤرخ الفكر الافتراض - سلباً أو ايجاباً - إن كان المشروع الناصري - بحكم توفيقياته المتعددة وميله الى عدم الحسم أو تأجيله في القضايا الكبرى المجمدة والمؤجلة من قبل في الحياة العربية ، اجتماعياً وحضارياً وفكرياً ودينياً - إن كان هذا المشروع قادراً ومؤهلاً على توليد ذلك "المزيج" أو المندمج Synthesis الذي طمح إليه عبدالناصر عام 1960 بين الأضداد والنقائض = Thesis x Antithesisالتي احتواها مشروعه مجمدّاً الصراع أو الجدل التاريخي المتوقع والمفترض في ما بينها، تحت شعار الثورة "البيضاء" وسلمية "الصراع" الطبقي في اطار تحالف قوى الشعب. وربما لو ان المشروع التاريخي الناصري أخذ امتداده الزمني الكافي - من دون أن يتعرض لضربة في حجم هزيمة يونيو 1967 - لتوصل إلى شيء من ذلك "المزيج" المتكامل. ولكن مثل هذه الافتراضات التاريخية Ifs - in - History ليس مما يعوّل عليه في تمحيص التاريخ كما وقع!
يتناول أنور عبدالملك هذا الاشكال "التوفيقي" - من الوجهة الجدلية - فيفسره ويعلله على النحو التالي: "من المهم أن نرى بوضوح طبيعة العوائق التي جعلت كل شيء أكثر صعوبة بالنسبة للقيادة والجماهير على حد سواء. كانت المسألة في رأينا مسألة شلل الجدل الاجتماعي. لم يكتف الحكم العسكري ببناء الاشتراكية من دون اشتراكيين، بل رفض قطعاً في مجالات الحياة الاجتماعية كلها من المجال الاقتصادي حتى المجال الايديولوجي - أية مواجهة جدلية بين الأضداد، فارضاً بالقوة، أي بشكل مصطنع، طرق التطور وتواتره - أنور عبدالملك، "المجتمع المصري والجيش"، 304- 317 أي بحسب مصطلح بحثنا هذا: فارضاً بالصيغ التوفيقية تجميد الجدلية الفكرية المعبرة عن الجدل الواقعي "المحظور" في المجالات الاجتماعية والدينية والحضارية.
هذا الملمح طرحه لويس عوض في "أقنعة الناصرية السبعة" بصورة أكثر درامية عندما كتب يقول 1976:
"لأن عبدالناصر لم يصفّ أعداء ثورته في الداخل وثبوا عليه حين وثب عليه الاستعمار من الخارج، فأجهزوا عليه وعلى نظامه في 1967. وهو لم يصفّ أعداء ثورته في الداخل لأنه لم يكن يعرف من هم على وجه التحديد بسبب فقره النظري واحتقاره أو خوفه من أصحاب النظريات وإسرافه في الاعتماد على الفطانة والالهام وقد كان عنده منهما شيء كثير... كان يحسب أن أعداء ثورته هم الباشوات والبكوات وحدهم، ولأنه ابن شرعي لطبقته المتوسطة الصغيرة ظن ان مشكلات مصر تحل بتحويل كل المصريين إلى طبقة متوسطة صغيرة. لم يدرك أن كل بورجوازي صغير منتفع من نظامه عدو له بالامكان لأنه يضع سقفاً لاحلامه في التملك والانفاق. ولأنه ابن شرعي للطبقة المتوسطة الصغيرة أدرك بغريزته وربما بتوجيه من العارفين أنه إذا لم يصدر ثورته إلى الخارج فسيضطر أن يعمقها في مصر يوماً بعد يوم وينجرف من يسار إلى يسار أكثر حتى يلتقي بجسم الانسانية الأكبر، جسمها الحقيقي بملايين المعدمين الكادحين... ولهذا أمكن ضربه وضرب ثورته الآن على قدم وساق. البرجوازية تقول فيه هذا كان ابناً عاقاً من أبناء طبقتنا. والبروليتاريا تقول فيه: "هذا ليس ابناً من أبنائنا ولكنه كان يحسن الحديث إلى الفقراء" - عوض ، طبعة بيروت ، ص 168 - 170.
ولعل تعريف الدكتور وليد الخالدي للناصرية منذ عام 1958 ما يزال هو التعريف الأدق: "Nasserism is not an ideology but an attitude of mind. It is eclectic, empirical, radical, and yet conservative"
"الراديكالية المحافظة".
ذلك تلخيص نافذ الى صميم إشكالية الناصرية وطبيعة مشروعها التوفيقي الذي حاولته بين اليمين واليسار، بين الشرق والغرب، بين الاسلام والعصر، بين التراث والثورة، وبين الاشتراكية والقومية، أي بين الصراع الطبقي والتوحد القومي.
وذلك ما يبرر في تقديرنا، تفسير الناصرية في التحليل النهائي على انها مشروع توفيقي كبير ومتجدد، جاء لينقل التوفيقية النظرية للنهضة العربية - الاسلامية الحديثة الى ساحة التبلور والتحقق والفعل، بتطعيمها بروح ثورية تغيّر الواقع السياسي، لكنها تسعى الى "تطوير" الواقع الاجتماعي والحضاري سلمياً وبالتدريج وبنهج "توفيقي" أي تصالحي. بمعنى أخر انها في جدلية: الثورة أم التطور؟ كانت ثورة في السياسة ومحاولة للتطور في الميادين الأخرى، بما في ذلك المجتمع والدين والحضارة، وكلها ميادين حيوية ظلت بمنأى عن "التثوير" في المشروع الناصري الذي اكتفى بالثورة السياسية الفوقية وحدها الى حد كبير. وذلك ما يمكن أن يفسر كيف ان سقوط السلطة السياسية للناصرية لم يترك للمشروع الناصري ركائز مجتمعية يستند إليها في مقاومة "الثورة السياسية المضادة".
وفي ضوء هذا التحليل، يمكن النظر الى الثلاثين سنة الأخيرة من هذا القرن منذ غياب عبدالناصر 1970 والى يومنا هذا، من وجهتين مختلفتين، وربما متناقضتين، في تقويم ما حدث وما يحدث خلال هذه الحقبة الأخيرة:
1- فمن زاوية يمكن القول: في ضوء هذا العنف والصراع المتفجر حالياً في مجتمعات المنطقة بين النقائض المجتمعية المختلفة، ألم يكن عبدالناصر محقاً عندما حاول بالحاح "التوفيق" بين هذه النقائض في مشروعه الشامل؟ ألم تكن هذه النقائض الدينية والمذهبية والاقليمية القطرية تتعايش وتجتمع، بشكل أو بآخر، تحت مظلة المشروع القومي الناصري؟
الذي يتضح من التجربة وبشهادة الواقع المعاش أن المشروع الناصري بمظلته الواسعة كان أقدر من الاتجاهات القطرية والدينية والمذهبية السائدة حالياً على تجميع تلك التعدديات المشرئبة في التكوين العربي؟ وبالتالي: أليس ما يماثل المشروع القومي الناصري - بعد تطويره - هو الأقدر اليوم على تخطي هذه الحروب الأهليه ومشاريعها في المنطقة العربية؟
2- أما من زاوية مقابلة فيمكن التساؤل: أليس ذلك التجميد والجمع، غير المستند إلى تمييز منهجي، بين النقائض والاضداد تحت مظلة المشروع الناصري "الوسطي" هو الذي فجر هذه الصراعات المجمدة والمؤجلة، والتي تم التهرب من ضرورة مواجهتها في الحقبة الناصرية، وبقيت جمراً تحت الرماد، الى أن اشتعلت؟ وانه لا بد في النهاية - تجاوزاً للمشروع الناصري كله - تعميق مراحل الصراع الاجتماعي - التاريخي - الحضاري - الفكري في مجتمعات المنطقة العربية للوصول الى "مندمج" جديد من خلال الصراع الحقيقي، وليس من خلال التوافق المصطنع؟ فهكذا _ شئنا أم أبينا _ يسير قطار التاريخ!
نترك لمؤرخي المستقبل مسألة "الحسم" بين هاتين النظرتين... أو ربما "التوفيق" بينهما بصورة تتجاوز هذا الطرح الاشكالي الضدي! أما نحن فنستطيع القول، في ضوء ما حدث، ان النهج التوفيقي بما له من تأثير عميق على العقل العربي والمجتمع العربي، هو المسؤول أصلاً عن "توليد" المشروع الناصري الذي استمد أسس تفكيره من تيارات توفيقية أساسية منذ مطلع النهضة، أمدته بالصيغ الفكرية التصالحية التي استعان بها نظرياً على وقف عملية "الجدل الاجتماعي" ومنع تحت تسويغها وتبريرها "أية مواجهة جدلية بين الأضداد".
وفي قلب هذه الاشكالية - اشكالية الاحتواء التوفيقي للجدليات المحظورة - كان يقف عبدالناصر بطلاً تراجيدياً متوتراً في باطنه، وقد لبس قناع التوفيق السعيد المتفائل. فلقد كان الرجل ثائراً ومحافظاً، عنيفاً ومسالماً، مقدماً ومحجماً، محرراً ومستبداً، مؤمناً ومتسائلاً، مكملاً وناقضاً، الا ان هذه الثنائيات لم تأخذ امتدادها الصحي الكامل في حومة الصراع الفعلي، وفي دائرة الوعي المحلل الناقد، ليتغلب ما هو ايجاب على ما هو ما سلب.
وظل البطل متوازناً فاعلاً طالما استطاع الحفاظ بحذق على تعادله الدقيق بين الاضداد الذاتية والموضوعية. فلما اختل التوازن تكشّفت التوفيقية الحاذقة في ساحة الفعل عن خيبة ومأساة. وسقط الفارس التراجيدي على الأرض تاركاً دروعه التوفيقية فارغة فوق ظهر الجواد السائر على حبل معلق بين الأرض والسماء: أرض "الاشتراكية العلمية" وسماء "الرسالات القدسية". والواقع ان هذا التوتر التراجيدي في النظام الناصري لم يقتصر على القائد وحده، فقد شمل قطاعات فكرية ووطنية لا يستهان بها.
ولعل في العبارة التالية حدة متناهية لكنها تعبر عن حقيقة هذه التراجيديا: "انني أحس بشيء غريب يكوي أعماقي أصارحك به. هو أن تأييد هذا النظام يشعرني أنني خائن، كما ان معارضة هذا النظام تملأني بنفس الشعور بالخيانة، فهل أنتحر؟ "ذلك ما أورده غالي شكري على لسان مواطن غداة الهزيمة 1967 وعلق عليه بقوله : "تلك هي البطولة التراجيدية حقاً، نصفك مع، ونصفك ضد.." - كتابه: "مذكرات ثقافة تحتضر"، ص 401.
غير ان هذه النتيجة يجب ألا تكون موضع استغراب. فقد برزت الناصرية أصلاً كما ألمحنا - لاحتواء خطر الانشطار بين النقائض والسيطرة عليه بصيغة أكثر مرونة وأقدر على الاستيعاب.
لهذا لم تستطع، بطبيعتها، الحسم بين الأضداد وتعميق المراحل التالية من الصراع - التي رافقت مسيرتها - وايصالها الى نتائجها الحاسمة المتجاوزة لهذه التراجيديا الحائرة. هذا على رغم انها اثارت جوانب معينة ومحددة من الصراع ووسعت اطار المعادلة التوفيقية بإدخال المسألة الاشتراكية في صلب اهتماماتها. ولذا تجب الاضافة ان التوفيقية الناصرية - بحكم التوتر المضمر في المعادلات التوفيقية - كانت أميل الى الثورة منها الى المحافظة، والى التجديد والتغيير منها الى التقليد والسكون. ولهذا السبب فقد تنامى في المرحلة الأخيرة 1964- 1967- 1970 جنين جدلي ضمن الاطار التعادلي العام للناصرية ينزع للنقض والنفي والحسم، أي أن الناصرية أخذت تقترب بالفكر والمجتمع - الى ذلك الحد الفاصل بين التوفيقية والجدلية، وكأنها مقدمة على نوع من الحسم التاريخي، والاختيار المصيري الناجز بما يتخطى دورها التوفيقي الذي اضطلعت به في الأصل.
ولكن يبدو أن مثل هذا الحسم المصيري، في هذا الشرق "الأوسط" تقف عوامل عدة داخلية وخارجية ضد امكان تحقيقه، فلدى هذا المنعطف الخطر والمهدد للتوفيق العربي والوفاق الدولي، تلقت الناصرية ضربتها القاصمة في حزيران 1967 وهي على وشك أن تخرج على وسطيتها وتتحول الى ما يشبه الثورة الجذرية. ولم يمكّنها هيكلها التوفيقي المنهك من حماية جنينها الجدلي الثوري الذي أجهض.
وسرعان ما استعاد عنصر المحافظة فيها قوته فجذب محور المعادلة الى جانبه، وبدأت عملية اعادة التوازن التقليدي - بمنأى عن امكانات الحسم السياسي والفكري الحضاري - في "دولة العلم والايمان" التي تولاها أنور السادات الرئيس أنور السادات، "ورقة أكتوبر"، أيار/ مايو 1974.
وهو شعار ما زال يلتزم النهج التوفيقي لحركة 23 تموز يوليو 1952 وان يكن بصيغة شديدة المحافظة.
واذا كانت هذه "الصيغة" ما زالت شائعة في الخطاب العام، فإنه حتى هذه التوفيقية المحافظة التي تبناها السادات سرعان ما انشطرت - على صعيد البنية المجتمعية التحتية، إلى صراع ظاهر بين الأصولية والعصرية أو العلمانية بحكم شدة الجدل في القاعدة العامة للمجتمع، وخاصة بين القوى الريفية التقليدية، والنخب المدنية العصرية - تكوين العرب السياسي ولعل اغتيال الرئيس السادات في جانب مهم منه كان انعكاساً لذلك الصراع المستعاد.
وعلينا أن ننتظر لنرى، ان كانت المؤسسات الحديثة للدولة ستقيم "توفيقية" جديدة، أكثر تطوراً، أم ان "حسماً" لا سابق له في التاريخ المعاصر سيحدث هذه المرة "الفكر العربي وصراع الأضداد".
* كاتب وأكاديمي ووزير سابق بحريني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.