كان على أبي مصطفى غداة وصوله إلى سورية، أن يغامر مجدداً بالذهاب من بلدته في ريف دمشق إلى العاصمة لينهي معاملة "التخلف عن السوق" لأحد أبنائه المكلف بالخدمة الإلزامية بالجيش، والذي تخلف عن الالتحاق بوحدته بسبب الظروف الأمنية ومخاطر التنقل بين المدن. فهو يدرك أن "اللعب" مع النظام العسكري للأسد ليس مسألة يمكن التهاون فيها، خصوصاً أنه حرص على مدى 40 سنة على بث سياسة الخوف وسط الشعب. وكل سوري يعرف أن لا كلمة تعلو فوق كلمة قوات النظام، وهذا ما يدأب الإعلام الرسمي خصوصاً التلفزيون على بثه ليظهر للناس مظاهر العزيمة والروح القتالية العالية للجيش والتماسك بين أفراده، لكن أبا مصطفى اكتشف في رحلته هذه أن هذا الأمر لم يعد حقيقياً إنما هو مجرد فقاقيع إعلامية كذر الرماد في العيون. حقائق التجنيد ويقول أبو مصطفى في حواره الطويل مع "الوطن": شاء الله أن ألتقي في الإدارة العامة للتجنيد بدمشق ضابطاً كبيراً برتبة عميد اسمه بشار كنت أعرفه من قبل، وهو الآن يتولى مسؤولية أساسية في هذه الوحدة. وكان العميد كعادته لطيفاً خلال اللقاء فطلب مني الجلوس في مكتبه وأنه سيتكفل بمساعدتي على إكمال معاملة ابني المتعثرة". بادر أبو مصطفى بدفع "إكرامية" للعميد الذي شكره بدوره، وشكا له حاله الاقتصادية الصعبة هذه الأيام. ثم بدآ يتبادلان الحديث عن أوضاع البلد وعن فقدان الأمن، فما كان من العميد إلا القول: "نريد أن ننتهي، والله غدونا نخشى الخروج من منازلنا". وهذا ما دفع أبا مصطفى إلى القول إن "سورية واحدة بجميع أبنائها مهما اختلفت طوائفهم ومناطقهم وقومياتهم، وإن من يقتل سورياً فإنما هو عدو لكل السوريين". هنا - يقول أبو مصطفى في سياق روايته وحديثه مع العميد القائم على رأس العمل - صفق العميد باب مكتبه، وراح يحدث ضيفه همساً، وقال: "والله مو بإيدنا يا ابن الحلال". القوات المتدهورة ثم راح يتحدث عن الوضع المتدهور في صفوف القوات المسلحة، قائلاً: "أكثر من 93% من المكلفين بأداء الخدمة الإلزامية (التجنيد الإجباري) رفضوا الالتحاق بقطعهم العسكرية ولم تستطع الشرطة العسكرية أو مديريات التجنيد إجبارهم على الالتحاق بسبب عدم قدرتها على الدخول إلى أحيائهم، بل بلغتهم بضرورة الالتحاق عن طريق المكالمات الهاتفية وهم بدورهم رفضوا ولم يتجاوبوا مع تلك التبليغات". وأضاف العميد: "معظم الذين يلتحقون بالجيش يقبض عليهم عنوة من قبل عناصر المخابرات أثناء مراجعتهم لإحدى الدوائر الحكومية لإنجاز معاملاتهم ويتم سوقهم للخدمة من هناك إلى قطعهم العسكرية"، مؤكداً أن "الجيش بات مفككا ومنهكا وغير قادر على التماسك، وأن الذين يقاتلون الثوار لا يبلغ تعدادهم أكثر من 50 ألف جندي من طوائف موالية للنظام". وقال العميد أيضاً: "النظام يلجأ في هذه الظروف للاحتفاظ بالمكلفين الإلزاميين بالخدمة حتى بعد انتهاء مدة خدمتهم، ومعظم المكلفين أمضوا أكثر من 10 أشهر إضافية فوق مدة خدمتهم ولم يتم تسريحهم بعد"، مؤكداً أن "كل من يرفض تنفيذ أوامر القتل يتم تنفيذ حكم الإعدام بحقه بمحاكمة عرفية". معنويات الثوار ولفت إلى أن "المعلومات العسكرية المهمة أصبحت تتداول داخل الفروع حتى لا ينهار الكيان العسكري بسرعة كبيرة". وأضاف أن "الثوار استطاعوا خلال الشهر الماضي الحصول على صواريخ م ط ( مضاد طيران)، كما استطاعوا تحقيق إنجازات مهمة في أرض المعركة وروحهم القتالية عالية ولم تستطع إلى الآن الآلة العسكرية أن تنال من عزيمتهم بفضل عقيدتهم القتالية وجهوزيتهم بأسلحة حديثة مضادة للطائرات، وجراء ذلك استطاعوا أن يسقطوا مروحيتين عسكريتين متطورتين". وهنا تجرّأ أبو مصطفى على أن يطرح على العميد بشار سؤالا "محرجا" وقال: "أسألك بالله، هل ما يفعله الجيش يتصوره عقل أو يقبله ضمير؟". فأجاب: "أنا والله غير راض عن ذلك، وأنا والله لست معهم كما أنني لست خائفاً على نفسي، لكن خوفي الأول والأخير على عائلتي وأولادي". وتابع: "هل تعرف أن الجيش أطلق رصاصتين على والدي لأنه رفض أن يدلي بتصريح مفبرك لإحدى القنوات التلفزيونية عن أحد أشقائي المنشقين عن الجيش؟ أنا أفكر مليا بالانشقاق عن جيش الأسد الظالم خصوصاً أنني عانيت كثيرا من الظلم خلال خدمتي العسكرية إذ إن السطوة الكبرى للدورات التدريبية والمنافع كانت تمنح لطائفة الرئيس من العسكريين وليس لأحد غيرهم". التخفي والتزوير وأكد العميد بشار أن "نسبة المنشقين عن النظام تجاوزت حتى اللحظة ال14 بالمئة وسط تكتم إعلامي وهي قابلة للزيادة كل يوم مع تفاقم الأوضاع". وعن كيفية تنقله بين مكان عمله ومنزله، قال العميد إنه يفعل ما يفعله كثير من الضباط أي يتجولون بملابس مدنية ولا يحملون مسدساتهم "لئلا يقبض علينا الثوار"، كما يحملون رخصة القيادة وجوازات سفر ويخفون هويتهم العسكرية بملابسهم الداخلية، إَضافة إلى أن كثيرين منهم رشوا موظفين في الأحوال المدنية ليستصدروا لهم هويات شخصية (بطاقات أحوال) خصوصاً أن هذه البطاقات يحتفظ بها في القطع العسكرية لدى الالتحاق بالجيش. وأضاف: "لكن كل هذا لم يعد نافعاً، فالجيش الحر استطاع أن يحقق اختراقا أمنيا كبيرا تمثل بالدخول إلى قاعدة البيانات العسكرية وأصبح قادرا على معرفة المعلومات الكاملة عن العسكريين، وهذا ما يدفع بكثير من الضباط إلى الإقامة في الأماكن المحروسة أمنياً لأنهم لا يستطيعون المبيت في مدنهم ومنازلهم". عملية جريئة وعن تعامل زملائه معه في العمل وهم من طوائف مختلفة؟ أجاب العميد بحرقة: "ليس هناك سوى تعامل العمل، وعلى الرغم من ذلك فأنت تخاف من أن يقتلك أحد زملائك وينشق". وأضاف: "هل تعلم أنه بالأمس قُتل أحد المنشقين بعد قيامه بعملية لو قدر لها أن تنجح لكانت صفعة قوية للنظام؟ لقد استطاع أحد أفراد فروع الأمن الحصول على مفتاح مخزن أسلحة فنسخه ثم أعاده إلى مكانه، وفي اليوم التالي دس السم في طعام زملائه لكن أحدهم استطاع أن يقبض عليه وتم إعدامه في اليوم نفسه". وتابع: "هل تعرف أن الجيش أصبح تجمعات طائفية، فأبناء طوائف الأقلية أصبحوا يخافون أن يناموا في خيمة واحدة مع الطائفة العظمى. ولم تعد الثقة موجودة بينهم، فكثير من الجنود حاولوا إخبار زملائهم بعزمهم على الانشقاق فما كان من زملائهم إلا أن وشوا بهم وتمت معاقبتهم، وفي هذه الأيام أصبحت الطريقة الوحيدة للانشقاق هي أن يغادر العسكري قطعته بإجازة لمدينته وعندما يرى المأساة التي يمر بها أهله والتدمير الذي لحق بمدينته يقرر أن لا يعود إلى قطعته العسكرية أبدا". هاجس الانشقاق ويضيف العميد بشار: "هل تعلم أن العميد الذي تم القبض عليه أول أمس من قبل الجيش الحر، تم التحايل عليه عن طريق سائقه الخاص الذي نسق مع الجيش الحر واتفق معه أن يتعمد تعطيل السيارة في مكان ما ليقبضوا على العميد، وبالفعل تمت العملية بنجاح كبير". وأكد أن "النظام أصبح مهووسا من فكرة الانشقاق في صفوفه، فهم لا يدعون مجالا لأي عسكري أن يغادر في إجازة إلا كل ستة أشهر أو ما يزيد على ذلك، كما أنه يرفض الإجازات الاضطرارية مهما كانت طبيعتها وحساسيتها". وأردف قائلاً: "إن القدرات المالية والقتالية للجيش تتناقص، إذ إنه لا يقدم للجنود ما يصبرهم ويقوي من عزيمتهم. فلا رواتبهم تكفي لسد الرمق ولا حياتهم اليومية أصبحت تطاق إذ يعيش الجنود في غرف أسمنتية جاهزة دون وقود يحميهم من برد الشتاء ويأكلون وجبات لا تصلح للاستهلاك البشري، وفوق هذا كله عليهم أن يرضخوا ويعلنوا الطاعة لرئيس بلادهم". وسأل: "هل تعلم أن سلك الشرطة أصبح رهنا لمكان العمل؟ أنت الآن لا تستطيع أن تنقل مقر عمل أحد أفراد الشرطة من مكان إلى آخر خوفا من رفضه الانصياع للأوامر، خصوصاً أن كثيرا من الحالات قد حصلت عندما حاولت قيادات الشرطة نقلهم إلى المناطق المشتعلة، فكانوا يرسلون خطابا لقيادتهم يطلبون به الاستقالة، معلنين فيه رفضهم تعريض حياتهم للخطر في تلك المناطق. في كثير من الأحيان يحاول الجنود تغيير مواعيد مغادرتهم للقطع العسكرية حتى لا يتم استهدافهم من قبل الجيش الحر. وبالرغم من كل هذه الأحداث التي أرويها لك، ما زالت المحسوبيات والإكراميات حاضرة في كل وقت وزمان فكثير من الضباط يحصل على مبلغ 20 ألف ليرة من الجندي مقابل التستر عليه لشهر كامل وإرساله إلى منزله. عدا عن المازوت (الديزل) المخصص للجيش والذي يتم بيعه لبعض أصحاب الشاحنات". يدا روسيا والصين تنهد العميد بشار وعدل جلسته وقال لأبي مصطفى: "ماذا أحكي لك وماذا أبقي في جعبتي؟ كله نصب في نصب. والله لو أن روسيا والصين ترفعان يديهما عن النظام يوماً واحداً فقط فلا تجد ضابطاً واحداً مع النظام. الأخبار التي يبثها النظام للناس، كلها روايات وخيال، الأسلحة الموجودة لدينا لا تستطيع أن تقاوم يومين مع إسرائيل وهم يدعون أنهم يستطيعون غزو أميركا. هل تعرف على سبيل المثال، أن معظم الأسلحة أصبحت متهالكة لولا أن روسيا سلحت النظام بأسلحة جديدة واستلمت ثمنها أطناناً من الذهب من المخزون الاحتياطي للبلد والموجود في البنك المركزي". وتابع: "إذا أردت مني أن أخبرك أكثر من ذلك، فإنني أقول لك إنني أعرف شخصية مرموقة في دمشق تعود في قرابتها إلى رامي مخلوف (نسيب الأسد)، وكان هذا الشخص معتاداً على قضاء معظم وقته خارج دمشق ولكن مع اشتداد الحصار على أقرباء النظام تم منعه من مغادرة منزله وهو الآن لا يغادر بيته إلا لمكتبه ويعود إليه ويستقل سيارة خاصة بديلة عن السيارة الدبلوماسية التي كانت مسلمة له. الجيش غارق في نزاعات طائفية وقومية، فكيف لعسكري أن يقاتل ومدينته تدك يوميا بمئات القذائف. والجيش يعاني من تسرب معلومات مهمة عن طريق الضباط المنشقين وأصبحت معاناته مضاعفة مع الخطط التكتيكية للضباط المنشقين الذين تدربوا في الجيش النظامي ويعرفون خططه الهجومية ويقابلونها بخططهم الدفاعية المصممة وفقا للنظريات التي سيتبعها الجيش في مواجهتهم". ساقط لا محالة وجزم العميد بشار أن "الجيش ساقط لا محالة. دعني أثبت لك ذلك: خلال الفترة الماضية أعلنت وزارتا الدفاع والداخلية عن رغبتهما بتطويع جنود وضباط وشرطيين في سلكيهما فلم يتجاوب مع هذه الإعلانات إلا نسبة ضئيلة من الفئات القليلة وهذا ما خالف توقعاتهما. كما أن وزارة الدفاع استدعت كثيرا من الشبان للاحتياط الذي يستدعيه الجيش في حالة الحرب ولم يلتحق من الذين تم استدعاؤهم أكثر من 4%، علاوة على ما أشرت سابقا فإن نسبة المنشقين ارتفعت ونسبة المكلفين الملتحقين بالجيش ضئيلة جداً، فضلا عن أن من تدفع بهم إلى المناطق المشتعلة هم من أبناء طوائف الأقلية ولا يزيد عددهم على 50 ألفاً وقد زادت نسبة القتلى فيهم إلى حد كبير وأصبح الامتعاض باديا على هذه الأقليات نتيجة زجها بقتال مع أبناء بلدها. فأصبحت جنازاتهم مظاهرات عارمة ضد النظام. كما أن المكلفين الذين لا يزال الجيش محتفظا بهم بعد انتهاء مدة خدمتهم أصبحوا مستائين وناقمين على الجيش. كل هذه المعطيات تشير إلى أن الجيش سيتفكك كأحجار الدومينو وسيسقط الكيان العسكري بين ليلة وضحاها كما قال أحدهم ننام على شيء ونصحو على شيء آخر". واختتم العميد حديثه قائلاً: "ماذا ترجو من عزيمة جنود أصبحوا يلقمون أسلحتهم ويوجهونها بوجه المدنيين لدى تجوالهم في المدينة؟". ودع أبو مصطفى العميد وقال له "نلقاك على خير"، فأجابه "الله أعلم هل ألقاك أم نلقى ربنا في زيارتك المقبلة".