لا شيء في الغرفة الواقعة في الطبقة الأرضية من مبنى صغير في أحد أحياء أنطاكيا، يدل على أنها، أو غيرها من الغرف، جزء من مركز صحي أو «مستوصف». فلا معدات طبية ظاهرة أو أكياس مصل أو إجراءات تعقيم. بل مجرد غرف طليت حديثاً تسبقها إليك رائحة التبغ إليها. الأسرّة البيضاء الصغيرة، ألصق بعضها ببعض لاحتواء عدد أكبر من النائمين تشبه تلك التي توضع في غرف الأطفال. لكنها هنا، تحتضن رجالاً بالغين تقوقعوا على أنفسهم وقد تدثر بعضهم بغطائه لئلا يرى أحداً، أو يراه أحد. التصاق الأجساد في تلك الأسرّة وتقاسم الوسادات والأغطية وعطف الأكبر سناً على الأصغر، إضافة إلى اللباس الموحد المؤلف من بذلة رياضية سوداء بخطوط بيض أعاد الرجال إلى حالة طفلية قاربوا معها أولاد دور الأيتام. لكنهم ليسوا أي رجال. إنهم ثوار مقاتلون من «الجيش الحر» نقلوا إلى الأراضي التركية لتلقي العلاج من إصابات تعرضوا لها خلال القتال وينتظرون شفاءهم بفارغ الصبر للعودة إلى المعركة. فهنا يتملكهم شعور قوي بأن ثمة ما يفوتهم في الداخل، وأنهم ببقائهم مستلقين على هذه الأسرّة يتقاعسون عن أداء الواجب. أما ذلك اليتم البادي عليهم، فليس إلا بعضاً من مرارة وغضب لتخلي «السياسيين والدول الكبرى» عنهم وعدم اتخاذ قرار حاسم بتسليحهم كما يقولون. يمضي نهار الشباب كما ليلهم في تلك الغرف المعدة ل10 أشخاص كحد أقصى، فيما هي في الواقع تستضيف نحو 15. يتقلبون من جنب إلى جنب، يشعلون سيجارة «الحمرا» تلو الأخرى في سلسلة لا تنتهي، يشربون المتّة ويسترقون النظر إلى الشارع من طرف ستارة بيضاء. «ممنوع علينا فتح الستارة أو النافذة تفادياً للاحتكاك مع السكان» يقول أحدهم «لكننا في حاجة لرؤية الناس وشم الهواء، فقد مضى على وجود بعضنا هنا أسابيع كاملة». الشارع خلف الستارة نابض، يضج بباعة سوق الخضار وزبائنهم. حياة كاملة وطبيعية لعائلات وأطفال وشباب وفتيات وتجار وحمالين وسائقي أجرة وعمال نظافة تجري خلف تلك الستارة. لكنها ليست كلها حياة مرحبة بالوافدين من المقلب الآخر خصوصاً أنهم مقاتلون. فالمنطقة الحدودية التركية تضم عدداً غير قليل من العلويين المتعاطفين مع نظام الرئيس بشار الأسد وغير المؤيدين للثورة ضده ولا سيما لموقف أنقرة من احتضان الثوار. وإذا كان الموقف قابلاً لأن يلين تجاه المدنيين والعائلات، فإنه يصبح أكثر تصلباً مع المقاتلين من «الجيش الحر». لذا، فالحيز الوحيد المتاح لهؤلاء الشباب هو البقاء ضمن هذه «المراكز الصحية» لحين شفائهم فيتخذون القرار بالبقاء أو العودة. الحدث الوحيد الذي يجري في نهارهم هو ما تبثه الشاشة من أخبار عن سورية. من التقرير الإخباري يتعرف أحدهم إلى بلدته في منطقة إدلب ويروح يشرح بحماسة عنها محركاً ذراعيه صعوداً ونزولاً متناسياً إصابة في الكتف تحتم عليه عدم الحركة. ينهره الممرض الذي «انشق» بدوره من مستشفى حكومي في اللاذقية وبات يساعد اليوم في الإشراف على هذا المستوصف حيث يناديه الجميع «دكتور». قال «أنا كنت مساعد جراح، ولست طبيباً، لكن هكذا قرروا مناداتي». الألقاب والأسماء هنا تفصيل لا يستوقف الشباب، ذاك أن غالبيتهم ترفض الإفصاح عن اسمها، خوفاً على ذويهم واستعداداً للعودة بدورهم. يقترحون استعمال أسماء عامة مثل «مصطفى أو أبو مصطفى. أحمد أو أبو أحمد... لا فرق، أي شيء» يقولون تاركين لك أحياناً حرية اجتراح اسم. أحد هؤلاء يبلغ 22 عاماً من «الحفة» في اللاذقية. يرقد منذ نحو أسبوعين نتيجة إصابة في الفخذ. قال «أصبت خلال اقتحام جيش الأسد المنطقة. كان إطلاق النار كثيفاً من أنواع الأسلحة كافة وبطريقة عشوائية، مع العلم أنه لم يكن أحد يتظاهر. وهذا ما يفعلونه عادة. يمطرون منطقة ما بالرصاص والقذائف ثم يقتحمونها بالدبابات ويبدأون بحملات التصفية والاعتقال». ويتابع: «أنا كنت مطلوباً وهارباً مع 7 شباب إلى الأراضي الزراعية خارج البلدة، وكان بدأ الاقتحام. انتبه الجنود إلى حركتنا فأطلقوا قذائف هاون ورشاشات. استشهد منا 2 وجرح الباقون فظنوا أننا متنا جميعاً فتركونا ورحلوا إلى أن جاء الأهالي لإنقاذنا». بعد الاقتحام الدموي خرج الجيش النظامي من البلدة مخلفاً قتلى وجرحى ودماراً كبيراً، وهو على ما تبين تكتيك يعتمد في دخول المناطق لترويع سكانها حتى في غياب التظاهرات أو النشاط الميداني في وقت يمتنع الجرحى عن التوجه إلى المستشفيات. خوف من التصفية لم يتجرأ الأهالي على نقل المصابين إلى المستشفى خوفاً من تصفيتهم بل تم إسعافهم في مستشفيات ميدانية وعلى يد أطباء متطوعين يعملون سراً، حتى وصلوا إلى أنطاكيا بعد 4 أيام من التنقل. ويشرح «الدكتور»: «المستشفيات تحولت بؤراً للتعذيب الممنهج والتصفية، وحتى المستشفيات الخاصة ملزمة بتقديم تقارير للأمن عن الحالات التي تصلها. لذا، فإن غالبية الجرحى تفضل المستشفيات الميدانية أو البيوت. وأحياناً يموت البعض نزفاً من جروح قابلة للشفاء بسهولة لو أن الإمكانات متوافرة». وفي وقت منعت الجنازات، وأبقيت الجثث في المستشفيات من دون تبليغ أصحابها، يخاف الأهالي حتى من السؤال عن المفقودين لئلا تتفتح العين عليهم. ويضيف «الدكتور»: «هربت وغيري من الطاقم الطبي لأننا ما عدنا نتحمل ما نراه. الأطباء يتعرضون للتهديد من طاقم التمريض، والجثث تترك لتتعفن أحياناً في براد المشرحة، فيما أدخل بعض الجرحى إلى البرادات وتركوا ساعات بين الجثث لترويعهم». وعقب الشاب الجريح «لا مجال للتطبيب في الداخل مجرد إيقاف للنزيف بانتظار قطع الحدود. وهذه بحد ذاتها مهمة شاقة إذ يقوم بها شباب أشداء يحملون الجرحى على أكتافهم مسافات طويلة بين الجبال والأراضي الحدودية الوعرة». والواقع أن شباب «الجيش الحر» يعملون في كل ما من شأنه «مقاومة» الجيش النظامي. من حمل السلاح، ونقل المؤن، إلى حماية المتظاهرين وتهريب المدنيين وصولاً إلى نقل الجرحى على الأكتاف عبر الحدود السورية - التركية. «الحمالات الطبية ثقيلة أحياناً وجامدة بما لا يسمح رفعها للعبور في ممرات ضيقة عبر الجبال» يقول أحد العناصر الذي يعمل في نقل الجرحى. ويضيف: «نعمل ضمن مجموعات صغيرة ونتناوب على حمل الجريح بلا حمالة وننقله ليلاً لإيصاله إلى أقرب نقطة استشفاء في الأراضي التركية». ويقول الرجل رافضاً الكشف عن اسمه «لا تنقصنا القوة أو العزيمة، لكننا نحتاج لمناظير ليلية تسهل عملنا لأننا أحياناً نمشي في طرقات حفظناها لكننا لا نرى في مسيرنا شيئاً». «أبو سالم» من إدلب عرف عن نفسه بصفته القائد الميداني لكتيبة القعقاع، أصيب في المعركة بأربع طلقات في ساعده ويتماثل للشفاء في أنطاكيا. قبل الثورة كان أبو سالم متعهد بناء ورب أسرة، ومع اندلاعها صار متظاهراً سلمياً، ومع اشتداد وتيرة القتل حمل أبو سالم السلاح وتحول مقاتلاً، وقائد مجموعة. قال «كم يمكن المرء تحمل الموت من حوله؟ قتل أقربائي ورفاقي وجيراني ومن أجل هؤلاء رفعت سلاحي وسأعود لأرفعه فور شفائي». ويبدو واضحاً من إصابات الشباب أنهم حملوا السلاح على غفلة ومن دون تدريب كاف أو حد أدنى من مستلزمات الحرب. فحتى المتاريس بدأ بناؤها في الآونة الأخيرة نظراً إلى بقاء غالبية الثوار المسلحين خارج الأحياء السكنية وفي خراج البلدات. وإذا احتفظ الجنود المنشقون بخوذ أو سترات واقية، وتمكنوا من تهريب أكثر من قطعة سلاح، إلا أنهم لا يستطيعون تأمين تلك المعدات لرفاقهم المدنيين الذين يتعرضون «للإصابات السهلة». ويقول شاب جلس على طرف سريره «قال لي أحد الجنود المنشقين إنني أصبت لعدم معرفتي بكيفية حماية نفسي وإنه كان بإمكاني تفادي الإصابة لو أنني مدرب أو أن سلاحي قادر على صد الهجوم عني. واليوم تعافيت ويمكنني السير لكن لا أعرف متى أعود أو ماذا أفعل، أنتظر الفرج وهذا دوائي» مشيراً إلى علبة السجائر. تشكيل الكتائب ويشرح عبدالسلام دلول، قائد كتيبة «الأحرار السوريين» كيفية تشكيل المجموعات المسلحة فيقول «غالبية الثوار من المدنيين حملوا سلاحاً للدفاع عن أحيائهم ومناطقهم وعائلاتهم ويعملون بتنسيق عام مع الجيش الحر من دون أن يكون هناك هيكلية قيادية مباشرة. صحيح أن بعض الجنود المنشقين ينضمون إلينا، لكن غالباً المنشق يأتي إلى تركيا. وكل مجموعة قتالية تتشكل يكون فيها ضابط إما لأنه ضابط في الجيش وأعلى رتبة من البقية وإما لأن المجموعة اختارته، وهو ينسق مع قيادات الجيش الحر الموجودين هنا في تركيا». ويضيف «نعمل على التدريب في الجبال، والسلاح القليل الذي بحوزتنا لا يستلزم تدريباً كبيراً. فالعسكري المنشق مدرب والمدني يحتاج القليل ليتذكر لأنه أصلاً خدم في التجنيد الإلزامي». وتتنوع أسماء الكتائب وأعدادها بحسب المنتمين إليها في تلك المراكز الصحية المنتشرة في أنطاكيا. ففي مركز واحد جرحى من كتائب الحق، وكتائب درعا الشمال، وحمزة الخطيب، والقعقاع وأبو بكر الصديق وعين البيضا والحورية والهرموش وغيرها ممن قادتهم جروحهم وإصاباتهم إلى هنا. ويقول دلول «عدد الكتائب لا يمكن إحصاؤه لأن كل بلدة تشكل كتيبتها وهناك قرى بالآلاف في كل المناطق. لكن الكتائب تنسق في ما بينها عبر مجالس عسكرية محلية ويتواصل قادتها قدر المستطاع مع القيادات هنا». «ديبلوماسية» دلول في وصف التنسيق مع قادة الجيش الحر في تركيا، لا يوافق عليها الجنود أنفسهم. فيقول نبيل إبراهيم من كتيبة أبو بكر الصديق والذي أصر على نشر اسمه كاملاً كنوع من التحدي، إن مجموعته لم تتلقَّ أي دعم مادي أو معنوي. وقال «لم يرسلوا حتى الطلقات! نقاتل منذ 7 أشهر على الأرض ويعيشون في مخيمات 5 نجوم مع عائلاتهم. وكل عملية ننفذها يقطفون ثمارها مع أننا نحن من يحمي الثورة». ولا يخفي دلول ذلك الواقع وإن كان يغلفه بشيء من حكمة القائد فيقول «بالفعل هناك مشاكل كثيرة بين القاعدة العسكرية والقيادة بسبب الوعود التي لم يتم تلبيتها ونحن بدأنا نواجه هذه المشكلات كقادة ميدانيين. فالشباب الذين يقاتلون ويجرحون ويقتل رفاقهم، كانوا واثقين بأن الدعم سيأتي قريباً، لكن الآن ما عادت الصورة واضحة والوعود بقيت وعوداً. نحن نعي تماماً أن الدعم هو قرار دولي لكن الجنود المتحمسين لا يقنعهم ذلك». وفي وقت رشحت من اسطنبول معلومات عن اقتطاع بعض أموال المساعدات لتخصيص رواتب لعناصر الجيش الحر، ما من شأنه أن يشجع على مزيد من الانشقاقات، يقول دلول «نحن ثوار مؤمنون بقضيتنا. والشباب لا يريدون شيئاً إلا السلاح. مضى عام على الثورة والعنف يتصاعد ولا يمكننا مواجهته بما نملك. لو أعطونا السلاح منذ البداية لكان بشار انتهى. هو يتلقى دعماً من روسيا والصين وإيران ونحن نحتاج الدعم للدفاع عن أنفسنا ولا أحد يدعمنا إلا بعض الأصدقاء المعارضين أو المهاجرين المتمولين وهو دعم محدود لا يكفي». والواقع أن القيادة الأعلى من دلول مدركة هذه الهوة مع المقاتلين في الداخل. ففي معسكر الضباط في بخشين، قال قائد الجيش الحر رياض الأسعد ل «الحياة» «نحن نعي هذا العتب لكننا نعمل لتوفير الدعم اللازم إلى الداخل وهذا أيضاً مرتبط بقدرتنا على التحرك والاتصال كما أنه قرار سياسي وليس فقط عسكرياً أو ميدانياً. ونحن ننسق مع قادة المجموعات، ونتابع العمل في شكل يومي من طريق الإنترنت ووسائل الاتصال الحديثة». حماية المدنيين ويصف دلول الجيش الحر بأنه أقرب إلى «اللجان الشعبية لحماية المدنيين» فيقول «مثلاً كتيبة «أحرار سورية» تشكلت في البداية لنقل الجرحى والعائلات النازحة والعساكر والضباط المنشقين وإيصالهم إلى الأراضي التركية. كنا نخرج بتظاهرات سلمية في اللاذقية وجسر الشغور وعندما لم يتجاوب النظام وبدأ القتل والاعتقال والتهجير اضطررنا لحمل السلاح». وإذ تشكلت كتيبة «أحرار سورية» بالتدريج منذ سنة تقريباً فإن تسليحها جاء تدريجاً أيضاً كغيرها من الكتائب. فتبدأ المشاركة أولاً في التظاهرات بعشرات الأشخاص يتنقلون عبر البلدات ليرفعوا أعداد المتظاهرين فيها خلال جنازة أو تجمع معين، ثم تنمو المجموعة المحلية حتى تبلغ بضع مئات فلا يعود هناك حاجة لخروجها من منطقتها. هنا يأتي التسليح أداة لحماية المجموعة ومحيطها المدني. ويقول دلول «بدأنا بنحو عشرة أشخاص ونعد اليوم أكثر من 150 شخصاً، لا يتجاوز عدد المسلحين بيننا 50 إذ يتم التبديل على استخدام السلاح لقلته ولإراحة المقاتلين فسلاحنا غالبيته من الجنود المنشقين. إما يحملون سلاحهم ومن يأتي إلى تركيا يترك لنا سلاحه، أو نشتري من بعض العسكريين». ويتنقل دلول مع بعض رجاله عبر الأراضي السورية والتركية بانتظام، فيحمل معه المؤن، والأدوية والإمدادات وينقل رسائل بين العائلات كما يلتقي بالقادة في معسكر الضباط لتنسيق سير العمليات. ويستفيد دلول من خبرته السابقة للثورة كتاجر في تلك المنطقة الحدودية التي يعرفها ويعرف أبناءها. ويقول «أكثر ما نفتقده الخبز والمياه والآن نشرب من الينابيع لكن إذا بدأ الحر، فسنواجه مشكلة حتى مع تأمين المياه». ويضيف «الشريط الحدودي كله صار تحت سيطرة الجيش الحر من كسب وصولاً إلى دير الزور، تتناوب عليه المجموعات المسلحة لذلك تدخل عائلات بالمئات بأمان». ويسخر دلول كما غيره من شباب الجيش الحر من الأحاديث عن «تدين» المسلحين ويعتبرونها من دعايات النظام لمنع الدعم عنهم. ويقول «يقولون إننا متشددون وننتمي إلى تنظيم «القاعدة» ولكن غالبيتنا ليست متدينة أصلاً. واللحى سببها أننا نعيش في الجبال ولا وقت لدينا للحلاقة والاعتناء بالمظهر لدرجة أننا أحياناً لا نملك عدة الحلاقة. ثانياً نحن لسنا جيشاً نظامياً، فحتى هندامنا وأحذيتنا لا تتناسب مع مهامنا لماذا التوقف عند اللحية دون سواها؟». ويقر دلول بأن مظهر بعض الشباب يثير الشبهات لكونهم أطلقوا لحاهم وحلقوا شواربهم لكنه يرجع ذلك إلى «المناكفة والتمرد». وقال «يرون في تصرفهم نكاية كأي شاب يريد أن يتمرد على سلطة. لكن الحقيقة أن لا شاب هنا إلا وفقد صديقاً أو قريباً أو أخاً أو أباً، ويقاتل من أجله وليس من أجل أسامة بن لادن». أما «قمة السخرية» وفق هؤلاء الشباب فالاتهامات باقترافهم تجاوزات بحق المدنيين وتعذيب من يلقى القبض عليه من جنود الجيش النظامي. ويتفق المقاتلون، قادة وعناصر على أن من يقوم بتلك الأعمال من شبيحة النظام الذين يريدون تشويه صورتهم. يرفضون رفضاً قاطعاً الخوض في هذا النقاش، لأنه وفقهم تأكيد لحملات النظام ضدهم. ويقول دلول «كيف يمكن الثوار أن يقوموا بانتهاكات ضد المدنيين وهم يعيشون بينهم وكل كتيبة مؤلفة من رجال البلدات والأحياء؟ أيعقل أنهم يعتدون على أنفسهم؟». وفي السياق نفسه يقول الأسعد «ربما يوجد عناصر شاذة، لكن هذه ليست السمة العامة للجيش الحر ولا وقت الآن لملاحقتهم لكننا قررنا محاسبة كل من تثبت إدانته في أقرب وقت ممكن». نقاء الثورة وحسن نواياها لا يضمنان بالضرورة نقاء الثوار وحسن سلوكهم. هي قاعدة بسيطة يعاد اختبارها عند كل مفترق، لكن الحكمة البسيطة منها تتلخص في سؤال ذلك الشاب الذي قتل قائده ب30 طلقة. قال «لو ضربتك ضرباً مبرحاً وتسنى لك صفعي، فهل تترددين؟ ولو فعلت هل تكونين أنت مخطئة وأنا على حق؟». يهبط ليل ومطر غزير على أنطاكيا، فتبدو اسطنبول وحراكها السياسي ووجوهها الإعلامية أبعد بأضعاف المسافات عن هذه الحدود وروايات مقاتليها. يرتشف دلول ورجاله آخر شفة قهوة في «فندق الصحافيين» المطل على العاصي، ويجمعون هواتفهم للانسحاب باتجاه الجبال التي تفصلهم عن سورية... هناك حيث يعودون عسكريين «مستعدين للقتال ولو بالحجارة».