في مضي المسلم لربه بالآصال والبكور، وفي سيره لمولاه في جميع الأمور، لا غرو أن تنتابه التؤدة والفتور، والنمطية عبر الشهور، بل لربما الترة والقصور في العبادات والقيم وشتى المجالات، من أجل ذلك -وما أعظم ما هنالك- خصنا المولى -جل اسمه- بأزمنة مباركة، ومواسم بالخيرات والمنح نواسم، اكتنزت حكما لاستنهاض النفوس مقصودة، وغايات باهرات للتشويق لميادين الطاعات معقودة، ومن تلك الأزمنة المشوقة، شهر عظيم شانه، شريف زمانه، تبدى ببهائه إلينا، وأقبل برائع محياه علينا. فيه تدرك النفوس ألق الإحسان، ونداوة اليقين وحلاوة الإيمان، إنه شهر رمضان المبارك الميمون أقبل ليجدد لنا في كل يوم مسرة وبشرى، وينفحنا أريجا طاب عرفا ونشرا، ويزكي القلوب بالرحمات وقد أصارها لديه أسرى، وكم شد بالتراويح والتهجد منا أزرا وأسرا، وأدلج بنا في أمداء الطهر وأسرى. أيها القراء الأفاضل: إنه شهر الصيام والقيام أقبل ليوقظ فينا جمال الرجاء، ولذة الدعاء، وشوق التبتل الصادق الهتان، وتباريح التضرع الفينان، بين يدي الرحمن، وقال ربكم ادعوني أستجب لكم، ولننهل من كوثره الرقراق كؤوس الهدى الدهاق، فيحيل -بإذن الله- أرواحنا أزهارا ممرعة بسيوب الغفران، أشبه بخمائل الرضوان. فأهلا بشهر التقى والجود والكرم... شهر الصيام رفيع القدر في الأمم نفوس أهل التقى في حبكم غرقت... وهزها الشوق شوق المصلح العلم إن ضيفكم الكريم، هو الفرصة السانحة، والصفقة الربانية الرابحة للتزود للدار الآخرة بالأعمال الصالحة، وليس إلى مرضاة الرحمن -بحمد الله- كبير مشقة واقتحام عناء، إن راقب المسلم نفسه وأولاها الحزم والاعتناء، وبادر إلى الطاعة دون تلكؤ أو وناء، معتبرا بمن كانوا بيننا في العام الماضي، وقد سرت بهم المنايا القواضي، فالبدار البدار إلى فضل الله الممنوح قبل فوات الروح، واجهدوا أنفسكم أن يكون عهد التواني منسوخا، وزمن التسويف مفسوخا. وفي مأثور الحكم: من أشد الغصص فوات الفرص، ومن أخلد للتواني حصد الأوهام والأماني، وخير الدرر ما صح عن سيد البشر: فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره" رواه مسلم. ومن شمر عن ساعد العبادة والجد، انصرف بمديد الفوز والجد. يا أمتي استقبلوا شهرا بروح تقى... وتوبة الصدق فالتأخير إغواء توبوا إلى ربكم فالذنب داهية... ذلت به أمم واحتلها الداء أيها الإخوة الأعزاء: في رمضان يفتح الحبور للصائم بابه، ويفوز يوم يؤتى باليمين كتابه، وإذا لقي ربه وفاه حسابه، عن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم "للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه" رواه البخاري ومسلم، وما دعا ربه إلا أجابه، ولم يوصد دونه بابه، يقول عليه الصلاة والسلام:"إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد" أخرجه ابن ماجة وغيره. "وإذا كانت أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، ونادى مناد يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة" أخرجه ابن ماجة والترمذي وابن خزيمة وصححه، الله أكبر، ما أكرمه من عطاء، وما أعظمه من حباء. وكم له من نفحات خير... بمقدمك السعيد أخا السناء فكم خشعت قلوب ذوي صلاح... وكم دمعت عيون الأتقياء فيا باغي الخير أقبل، حيهلا بمن اختار الخير من نواحيه وأطرافه، ولزم المعروف من قواصيه وأكنافه، وكان ديدنه: الذكر والترتيل والصدقة، والاستغفار والتوبة والنفقة. القراء الأماثل: طوبى لقوم يلقون قلوبهم إلى القرآن بالتدبر والسمع، فتفيض أعينهم من الوجل بالدمع، أزلفهم الله إليه وأرضاهم، وأكرم قلوبهم بالقرآن وأحظاهم، يقول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان. أخرجه الإمام أحمد والطبراني بإسناد صحيح. وتلك وايم الله ثم وايم الله حقيقة القلوب والأجساد التي ما فطرت إلا لعبادة رب العباد، ولتتملى منح البر الودود في محاريب الطاعات والسجود. فأين المشتاقون لجنات الخلود؟! ألا فلتجعلوا معاشر القراء النبلاء: -رحمكم الله- لجوارحكم زماما من العقل والنهى، ورقيبا من الورع والتقى، حفظا للصيام عن النقص والانثلام، فأي غناء في أن يدع بعض المسلمين طعامه وشرابه ثم يركب الصعب والذلول للآثام والموبقات، والمعاصي والمنكرات، لا يرده من الدين وازع، ولا ينزع به من حرمة الشهر نازع. وتحذيرا للوالغين في هذا المكرع الآسن وتنبيها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر" أخرجه ابن ماجة والنسائي، وهل مقاصد الصيام العظام يا أمة خير الأنام عليه الصلاة والسلام إلا تهذيب النفوس وترقيتها، وزمها عن أدرانها وتزكيتها، وتقويم جنوحها، وسوس شماسها وجموحها، وذلك هو المراد الأسمى والهدف الأسنى من شرعة الصيام، ألا وهو التقوى، قال تعالى:(يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون). أي: تحقيقا للتقوى ورجاء، وغاية وابتغاء. فهل يعي ذلك من غفلوا عن مقاصد الصيام الحقيقيه وكرعوا في المقاصد الدنيوية الدنيئة من أهل الجشع والطمع والهلع وزيادة الأسعار وإغلاء السلع أو من أرباب الشهوات القميئة ممن يتسمرون أمام القنوات والفضائيات. وفي الختام: فإني أوجه الدعوة الحراء للقائمين على وسائل الإعلام كافة أن يتقوا الله، ويحسنوا استقبال هذا الشهر الكريم ومراعاة مكانته وحرمته والصيام عن كل ما يخدش روحانيته وبهاءه من عفن القول والعمل، عندئذ سيبتسم الأمل –بإذن الله- في قطوب اليأس، ويومض فجر انكشاف الغمة، في دامس الظلام، وتؤوب أمتنا المباركة إلى علاء الريادة والوحدة والقوة، ومعاقد عزتها المتلوة. وما ذلك على الحق –جل جلاله- بعزيز، ولكي يتحقق ذلك فإن الأمة مطالبة بجد وإلحاح، وهي تستقبل الشهر الكريم في كل أمورها ومجالات حياتها بالتوبة والإنابة، والأوبة والاستجابة، قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾. يا من عدى ثم اعتدى ثم اقترف... ثم انتهى ثم ارعوى ثم اعترف أبشر بقول الله في آياته... إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وأبلغ من ذلك وأعز قول المولى جل وعز: ﴿وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون﴾.