صديقي “كمال” مغرم ومفتون بالأعشاب. وعاشق متيّم بكلّ ما تنبته البراري، حتى أنه تمنّى يوماً لو كان “خروفاً” يرعى في المروج وينام قرير العين في الحقول. وكان من بعض عاداته “الحميدة”، وبصفته المسؤول الأول “المنتخَب” لجمعية تحسين نسل الأعشاب العربية، أن يجمع باقات الزهور بعد كل مناسبة يُدعى إليها، فيجففها لتصبح “زهورات” صافية مائة بالمائة وجاهزة للشرب. وبلغتْ شدّة هوسه بالأعشاب حدّاً ملأ عليه كل وقته وتفكيره، فبدأ بشَكْلٍ جِدِّي يعظ ويرشد الناس – كأي أصولي مُعْشَوْشِب – إلى الطريق القويم في التثقف وزيادة المعلومات عن مزاياها وفوائدها في إزالة الأوجاع واقتلاع الأمراض. وفي أحد الأيام قمتُ بزيارة “كمال” في بيته، فاستقبلني كعادته بلطفٍ وودّ صادقين. دخلتُ فإذا كل الممرّات وغرف النوم والصالونات تعجّ بالرفوف التي تتكدَّس عليها آلاف الأغصان والأوراق، وقشور ولحاء الأشجار، ومرتّبة بحسب أصنافها وأشكالها وأعمارها. وتوجّهت ناحية الحديقة الخلفية لأفاجأ بها “مزنّرة” على الداير ب”مَعَالِف” عدّة، وأمام كل “معلف” رَبَض خروف بلدي من ذوي “الإلية”.لم يدعني “كمال” لحيرتي، إذ سرعان ما شرح لي مبتسماً، بأنها خرفان تجارب، أي أنه يختبر بواسطتها جميع أنواع الأعشاب التي يقدّمها لها ك”عَلَف”، دارساً بنتيجتها كل العوارض والتأثيرات. ولهذا فقد وضع فوق كل “معلف” لوحة بيضاء تحتوي على خطوط بيانية تشير إلى المعلومات والتفاصيل المستجدة على كل خروف وكل نعجة! ليطبقها بعد ذلك على بني آدم. وللحقيقة فقد بهرني وأدهشني هذا العمل العلمي المنظم، ووجدتُ نفسي – من دون مبالغة – في دائرة “معالف” كبيرة! وفجأة “طَبْطَبَ” كمال على كتفي قائلاً: يا صديقي إن ما تراه الآن ليس إلاّ البداية، فعالم الأعشاب واسع، وأحاول أن أضع له نظريات وقواعد. ولقد اكتشفت منذ زمن بعيد مفعول نبات ذي لون “كمّوني” غامق وله شكل سنبلي، لم أوفّق حتى الآن بإيجاد اسم له. وهذا النبات من شأنه أن يعطيك بعد تجفيفه وغليه جيداً شراباً مميزاً، يقضي على آلام المعدة والرأس والظهر والبطن والكلى، ويزيل وجع الحواجب وآلام الحذاء الضيق، ويخفف من ثقل الدم والغلاظة، ويوسّع الشرايين ويشحن الذهن بالبراهين. وهنا قاطعته قائلاً: أين هي هذه النبتة السحرية؟ فأجاب ضاحكاً مزهواً مبتهجاً لاكتشافه الفريد، بعد أن تناول رزمة صغيرة منها متدلية ومنشورة لتجف كلياً، وقدّمها لي متابعاً: تفضل هذه هي النبتة العجيبة! أخذت سنبلة منها وتأملتها جيداً فيما تابع صديقي: منذ عشرين سنة وأنا أشرب ماء هذه النبتة بمعدل ثلاث “كاسات” حجم كبير في اليوم الواحد. رجعت وتأمّلت النبتة من جديد وابتسمت لصديقي وقلت له: لا تتعب نفسك بالتفتيش عن اسم هذه النبتة، فهي معروفة ومشهورة، إنها نبتة “زهر المُكْنُس” التي تصنع من “المكانس” الناعمة المنتشرة في كل البيوت! وتعرفها كل النساء والسريلانكيات من دون استثناء! وفجأة فَغَر “كمال” فاه، وأُسقط في يده! إذ كيف غابت عنه هذه الحقيقة طوال عشرين سنة، فأطرق ساهماً… ثم هَمَس ذاهلاً: معك حق… مضبوط… ولكن، متل ما قلتلّك، هيدا شراب شافي… يعني بيشيل وبيقشّ، و”بيكنّس” كل شي! وانفجرنا سوياً بضحكة مدويّة اهتزت لها كل الأعشاب على الرفوف، وجَفَلتْ منها فزعاً كل الخرفان أمام “المعالف”.