حالة الاحتقان الراهنة بين أطياف المواطنين تدل على أن إستراتيجية الحوار الوطني لم تؤت ثمارها. لن نقول إنها فشلت، لأننا لم نستنفد كل محاولات التحاور ولم نركز على الشريحة المعنية بالضبط. ربما لا يكفي أن يجتمع نفر من النخبة وراء الأبواب المغلقة ليتحاوروا.. ولا أن تصل دعوات حضور لمجموعة منتقاة من المواطنين. فأزمتنا ليست مع النخبة.. إنها مع الجُموع. إن الحوار الوطني يهدف في النهاية لخلق مواطن أفضل وأكثر وعياً. في حين أن النخبة الإعلامية والفكرية، التي هي «ليبرالية» بالمفهوم المحلي السائد، قد ثبت قصورها عن تشكيل عقلية المتلقي السعودي وفي استقطابها. أما الفريق الآخر المناوئ لتلك النخبة والمتلفع بعباءة الشرعي أو القبَلي. فإن محاور هذا الحوار الوطني لا تعنيه.. بل وقد تتناقض مع أساسيات طرحه. لأن المواطن عنده يجب أن يكون على شاكلة واحدة.. ووفق «استاندرد» موحد. فكيف هو السبيل للوصول لملايين وملايين المواطنين العاديين ممن يمثلون القطاع الرئيسي الذي يفترض أن يستهدفه أي برنامج توعوي نهضوي تنموي؟، كيف يمكن وضعهم أمام محاور الحوار الوطني التي تتم مداولتها خلف الأبواب المغلقة؟، كيف نوصل لهم رسالة التعددية والتنوع التي هي قوام تشكيلة هذا البلد.. التي تتناقض بفجاجة مع خرافة التماثُل الراسخة؟، يبدو أننا سنضطر مجدداً للاستنجاد بالحكومة، وبأسلوبها في التلقين الجمعي على النمط الذي خلَّده (جورج أورويل) وأسماه ب»الأخ الأكبر». ونحن عندنا خبرة عظيمة في التعامل مع هذا الأسلوب التلقيني وعايشناه طويلاً. فقبل عشرين سنة، كان رجل الشارع السعودي مقتنعاً أنه يعيش في دولة عظمى.. وأن أمريكا ودول غرب أوروبا تنظر له بعين الغبطة بل والحسد. كان السعودي مقتنعاً بأنه يعيش في دولة صناعية ذات إنجاز خارق تقف حائرة إزاء إعجازه أعظم عقول التخطيط الإستراتيجي ولا يحد حدوده سور. كان السعودي مقتنعاً بأن المواطن النرويجي والأسترالي يفكران بجدية للهجرة إلى بلده، وبأن ثمة برنامجاً فضائياً سعودياً.. أو شيئاً من هذا القبيل.. سيصل بنا قريباً للمريخ! كل هذا العالم الجميل صنعه إنتاج كثيف من نوعية (إعلام الأخ الأكبر)، كبرنامج (سعودي) الذي حمل شعار شركة (آرا) وكلله صوت ماجد الشبل رفع الله عنه. برامج كتلك تسمرت أمامها الأسر السعودية فأعادت برمجة فهمها للعالم، في استعادة لذكرى أحمد سعيد مع صوت العرب، أو حفلة أم كلثوم الأسبوعية في الستينات. ومعاذ الله أن يُفهم أننا نريد من يغسل وعي المواطن ويشحنه بالأفكار المغايرة لقناعاته! فبدائل القنوات أكثر من أن تحصى.. والإعلام الجديد بنفوذه الكاسح يجعل الفكرة ذاتها مبتذلة. لكن الحكومة إذا تبنت مشروعاً، فإنها يجدر بها أن تعتمد كل وسائل إشهاره وإيصال فكرته. كلما كان التهديد فادحاً كانت التوعية ألزَم. في ذروة أيام (الأخ الأكبر) كانت هناك برامج (قف)، و(سلامتك).. وتم شن حملة توعوية شرسة ضد المخدرات خلال التسعينات كما نذكر. فما بالنا نتهاون ب»الخلاف الوطني» الذي لأجله نتحاور ونحاول، بلا نتائج كبرى للآن، أن نصل لنتائج. ألا يستحق إنجاح هذا الحوار أن تعمَد مُطلِقته الحكومة لتحديد أجنداته التي نوقشت حتى الآن وراء الأبواب المغلقة وتدشن لأجله حملة إعلامية منظمة لإيصال الفكرة لكل الشرائح الشعبية. ألا يحق لصغارنا الذين تتسمم عقولهم بأفكار التحريض العنصري وتخرصات النقاوة أن يطالعوا برنامجاً على نسق (افتح يا سمسم) يشرح لهم كم هي هذه الأرض متصالحة مع التاريخ ومتداخلة مع تفاصيله القديمة. إنها لم تكن كلها معزولة ولا منبوذة عن متون الحضارات على الدوام؟ وأن سواحلها كانت ولاتزال موائل للتعددية ونوافذ على العالم الرحب؟ ألا يمكن أن تنتج ماكينتنا الإعلامية، المتهمة دوماً بالجمود والإملال، سلسلة تثقيفية على غرار (سعودي) بصوت ماجد الشبل أيضاً.. عن رجالات هذا البلد؟ عن الشخصيات المنسية التي عاشت هنا وأثرت الوجود قبل قرنين أو ثلاثة؟ أو أن هذا التأريخ يناقض العنوان؟ يخرج بنا عن الإطار الزمني الرسمي؟ هل هناك بالفعل تسمية بهذا المعنى؟ أليست مشكلة حوارنا الوطني.. أزمتنا الحوارية الحقيقية التي نعيشها كمواطنين عاديين في البيوت والمدارس ومقار العمل.. هي في كوننا لا نرى أنفسنا كسعوديين إلا من خلال تعاريف «الحمولة» و»الخصوصية» وعقود النفط والاستقدام؟ أننا صدّقنا الكذبة الصغيرة.. بل القزمة.. في معيار التاريخ. كذبة عمرها أقل من خمسين سنة جعلناها معياراً لأفضلية هشة أنستنا الصورة الحقيقية الحافلة بعوامل الدهشة والحظ. المطلوب هنا أن نصحح هذه الغلطة ونشن حملة إعلامية توعوية بنفس الكثافة القديمة التي جابهنا بها تهديدات المخدرات والسمنة لترسيخ قيم الحوار الوطني. لترسيخ معاني التاريخ الصحيحة.. لإقناع المواطنين على اختلاف مشاربهم وأصولهم بالحقيقة التي يصدّقها الواقع: أننا مختلفون ومتنوعون وأنه ليس أحدنا سعودياً أكثر من الآخر.. هكذا يقول الأخ الأكبر فاسمعوا له!