ومن نقد السيرة في «فن السيرة» إلى كتابة السيرة في «بدر شاكر السياب: دراسة في حياته وشعره»، كان من السائغ أن تكون الخطوة الثالثة أن يكتب إحسان عباس سيرته الذاتية، وهذا ما حدث حينما أصدر «غربة الراعي: سيرة ذاتية عام 1996م، وكان قد أمضى من العمر - آنذاك - ستة وسبعين عاماً، أنفق الجانب الأعظم منها في البحث والترجمة والتأليف والتحقيق والتدريس في غير جامعة عربية وأجنبية، أي أن حياته قد اكتظت بجملة من التجارب التي تصلح أن تتحول إلى سيرة ذاتية. وضع إحسان عباس شرطين لكتابة السيرة الذاتية، ف«الناس مهما يطل عليهم الأبد وتختلف أحوالهم هم أحد رجلين: رجل وصل إلى حيث يؤمِّل وانتصر على الحياة وصعابها، وأحسن التخلص من ورطاتها وشعابها، ورجل كافح حتى جرحته الأشواك وأدركه الإخفاق. وكلا العاملين، أعني الوصول والخيبة، يبلغان بالتجربة حد النضج على شرط واحد: هو اكتمال التصور لأطراف هذه التجربة ورؤيتها عند التطلع إلى الماضي، على أساس نظرة ذاتية خاصة، ولولا هذا الشرط لكان كل إنسان قادراً على أن يكتب سيرة حياته. وإنك لتستمع إلى أشخاص يقصون عليك قصصاً من أحداث حياتهم، يمتعك سماعها ويبعث فيك شيئاً من النشوة، ولكنهم يعجزون عن أن يكتبوها سيرة كاملة، لأنهم يعجزون عن أن يروا مكانهم من الحياة» (فن السيرة، ص102). غير أن ذلك وحده لا ينهض لكتابة السيرة الذاتية، فثمة عوامل أخرى يسوقها إحسان عباس بين يدي السيرة، لتصل السيرة الذاتية إلى غايتها من الفن والتميز، من ذلك أن يكون صاحب السيرة شخصاً ذا تميز واضح في ناحية من النواحي، وأن يكون صاحبها ذا صلة دقيقة بأحداث كبرى، أو أن يكون ممن لهم مشاركة في بعض تلك الأحداث، أو أن يكون ... ذا نظرة خاصة إلى الحياة وحقائق الكون (فن السيرة، ص104). وإحسان عبّاس، في تاريخه العلمي وجهاده في البحث والترجمة والتأليف، تحوَّل إلى شخصية كبرى في الثقافة العربية المعاصرة، فهو أثير لدى طائفة كبيرة من المثقفين العرب، رضي عنه اليمين واليسار والوسط، وينطبق عليه وصفه للشخص الذي يسوغ له أن يكتب سيرة ذاتية، حين قال: وكاتب السيرة الذاتية قريب إلى قلوبنا، لأنه إنما يكتب تلك السيرة من أجل أن يوجد رابطة ما بيننا وبينه، وأن يحدثنا عن دخائل نفسه وتجارب حياته، حديثاً يلقى منَّا أذناً واعية، لأنه يثير فينا رغبة في الكشف عن عالم نجهله، ويوقفنا من صاحبه موقف الأمين على أسراره وخباياه؛ وهذا شيء يبعث فينا الرضى، وقد يأسرنا فيحوِّل أنظارنا عن نقد الضعيف والواهي في سرده، ويحملنا على أن نتجاوز له عن الكذب، ونتقبل أخطاءه بروح الصديق (فن السيرة، ص101). وحقاً كانت حياته العلمية وإخلاصه للعلم والبحث والتأليف والتدريس باعثة على الرضا والاعجاب، فالرجل، منذ الصدر الأول من شبابه، نذر نفسه للعلم، فتألفت ثقافته الموسوعية منذ ذلك الحين، ويكفي أن نعرف برنامج دراسته في الكلية العربية بالقدس لنظهر على تلك الثقافة التي هُيئت له ولأقرانه في الكلية، فمن الدراسة المعمقة للغة العربية وآدابها، إلى اللغة اللاتينية، والتاريخ اليوناني، والتاريخ الروماني، وتاريخ الفلسفة، وحينما يفرغ إلى نفسه، وقد ازدحم برنامجه العلمي، فهناك الاستماع إلى الموسيقا الكلاسيكية. (ص ص128- 129) ولك أن تعرف أنه حينما التحق بثانوية صفد معلماً فيها أسند إليه تدريس التاريخ والجغرافيا واللغة العربية، وحين استقال معلِّم اللغة الإنجليزية أسند إليه تدريس هذه المادة (ص ص146 - 147)، وأنه اتقن اللغة الإنكليزية في سن مبكرة، وحين وجد الفرصة لتعلُّم اللغتين الإيطالية والإسبانية لم يفوتها، ولعله من المدهش أنه حين ذهب إلى القاهرة للاختلاف إلى جامعتها، كان يحمل مسودة ترجمته عن الإنكليزية لكتاب أرسطو «فن الشعر» ومسودة كتابه الآخر عن «أبي حيَّان التوحيدي»، وكان آنذاك في السادسة والعشرين من عمره، وكانت سنته الأولى في القاهرة كفيلة بأن يعمق صلته بالأدب والنقد الإنكليزيين، وأن يبرز أمامنا إحسان عباس ذلك الناقد والعالم والباحث والمحقق والمترجم والمؤرخ والأستاذ الجامعي المبرز، وأن يزيد ذلك الولع بتتبع المعجبين به - وما أكثرهم - دقائق حياته وأحداثها. كانت كتابة إحسان عبَّاس سيرته الذاتية مشروعاً غير مفكر فيه، أو مشروعاً مؤجلاً، ولم يدر في خلده أن يكتب سيرته إلا حينما طلب إليه مجموعة من أصدقائه أن يكتب سيرته الذاتية (غربة الراعي، ص5) وعلى الرغم مما حفلت به حياته العلمية، وضربه في الأرض يمله بلد إلى آخر، فإن أخاه بكراً لم ينصحه بذلك، فحياة إحسان عباس، كما يرى أخوه «تخلو أو تكاد من أحداث بارزة تثير اهتمام القارئ وتطلعاته»، وهو ما يؤكده إحسان عباس نفسه قائلاً: كان ما قاله أخي وصديقي بكر صحيحاً، فأنا أعرف أنني لم أشارك في أحداث سياسية، ولم أتولّ مناصب إدارية، ولم أكن عضواً في حزب، ولم أكن مسؤولاً عن مشروعات اقتصادية؛ إلى آخر ما هنالك من نشاطات تعرض الفرد للمسؤوليات الاجتماعية والوظيفية. (ص5). وإذا كان ما قاله إحسان عباس عن حياته صحيحاً، فإن واقع السيرة الذاتية ليس كما ذكره، فهناك مجموعة من الأعمال السير ذاتية لم يكن لأصحابها مهام سياسية أو حزبية أو وظيفية، ومع ذلك حققت سيرهم الذاتية جانباً كبيراً من المتعة والفن، وهذا ما يعرفه إحسان عباس نفسه، وقد كتب في نقد السيرة الذاتية، من أعمال طه حسين، وأحمد أمين وسواهما، وهو ماتؤكده كتابات أخرى لمفكرين ومثقفين وأدباء، كعمر فرّوخ، وزكي نجيب محمود، ومحمد حسن فقي، وعزيز ضياء، وكمال صليبي ... وآخرين. ومع ذلك كتب إحسان عباس سيرته الذاتية، وكان المسوغ الذي حفزه على السرد، اقتران حياته بالعلم، فهو «يمثل تجربة إنسان حاول في كل خطواته أن يخلص للعلم بصدق ومحبة» .. (ص5)، إلى جانب النفعي والعملي من سيرته، حيث يستطيع أن يستمد منها الدارسون معلومات صحيحة عن حياة مؤلف هذه السيرة وشيء من عصره». (ص6). لم يحفل إحسان عباس في الجانب الأعظم من سيرته الذاتية بتوخي بناء فني بعينه، وإنما ألمح في مقدمة عمله هذا أنه سيختار أسلوباً بسيطاً كأنه حكاية ممتدة، مراعياً إلى حد كبير التدرج الزمني، لاعتقادي أنني لا أنوي أن أقدم للناس رواية، حيث يستبيح الكاتب لنفسه أن يتلاعب بالزمن فيقدم ويؤخر؛ ويطلق العنان لخياله في بناء شخصيات لم تعش على هذه الأرض». (ص6). وهو يقدِّم تسويغاً لاتخاذه السرد المباشر والتدرج الزمني مطية للسرد، أنه - وهو العارف بالأساليب السردية - يقدم عملاً قد يفيد الدارسين، لكن هناك مسألة أخرى لعلها أن تكون سبباً كامناً في توخيه هذه الطريقة، وهي حالة «التشاؤم» التي ألقت بكلكلها على نفسه، ل«حلول الشيخوخة وامتلاء النفس بألوان من المرارة والخيبة». (ص7). واحتلت الطفولة مساحة مهمة في «غربة الراعي»، وكان استعمال ضمير الغائب«هو»، ثم ضمير المتكلم «أنا» حداً فاصلاً بين الذاكرة الواعية والذاكرة المتخيلة، وكانت الطفولة المبكرة، في تناوله، جملة من «الرموز» التي انقسمت على «رموز الخوف»، و«رموز الطمأنينة»، حيث ضمير الغائب «هو»، و«ما قبل الرموز»، و«ما بعد الرموز» حيث ضمير المتكلم «أنا»، ولم يكن توزيع السرد، في تلك الحقبة، بين «هو» و«أنا» إلا انسجاماً مع القدر الذي تستطيع «الذاكرة» الوصول إليه، فكان من السائغ حينما تتعثر الذاكرة أن يحضر الضمير «هو» منشئاً مجالاً ل«التخييل»، ومبرحاً لما يمكن عده «ميلاد الذاكرة»، التي تسبق، في السرد، الميلاد الحقيقي للبطل، الذي سيتأخر، سردياً، ويعبِّر عنه بالضمير «أنا»، أي في «ما قبل الرموز»، ويكون استخراج جواز السفر ذريعة سردية لذكر سنة الميلاد ومكانة وطرف من أصل الأسرة وفصلها: «حين حاولت استخراج جواز سفر لأول مرة (سنة 1946) ذهبت إلى دائرة النفوس في مدينة حيفا واستخرجت شهادة ميلاد، فعرفت أني من مواليد شهر كانون الأول (ديسمبر) سنة 1920م(أو على وجه الدقة 2/12/1920م)... أما مكان الميلاد فهو قرية عين غزال وتقع على أحد امتدادات الكرمل إلى الجنوب من حيفا مسافة تقارب 25 كيلومتراً، وينبسط أمامها السهل الساحلي الذي يمتد على موازاة البحر». (غربة الراعي، ص21). وتقوم «غربة الراعي» - فيما عدا الانتقال بين رموز الخوف ورموز الطمأنينة - على ذاكرة استعادية ذات طبيعة تقريرية تسجيلية من شأنها تقديم «قصة» البطل كما هي، منزوعة عن «التخييل» و«التلوين» السردي، وكأنها تحرص على الوفاء ل «الصدق التاريخي» وتقديم حياة إحسان عباس بصفتها «سيرة» تحتذى فالغاية، من ورائها تتصل ب«مضمون» السيرة، لا «شكلها»، ذلك المضمون الذي يقدِّم بين يدي السيرة، سيرة رجل نذر نفسه، منذ نعومة أظفاره، للعلم والبحث والتأليف، وكان لحياته المعجونة بالغربة، والفقد - فقد الوطن والأهل - والفقر، والجوع، ثم تغلُّبه على كل تلك الصعاب - أثر في قارئها، فنحن، مع إحسان عباس، أمام شخصية فذة، مبهرة، تسرد نجاحها وتفوقها العلمي والبحثي، دون أن تُشعر القارئ بالاستعلاء أو التبجح، وإنما بلغة تنزل منزلها من الصدق والاعتدال، وتصل إلى ماضيها بأيسر مذاهب القول وطرقه، وكأن إحسان عباس، هنا، يطبِّق ما كان قد ذكره في كتابه «فن السيرة» حين قال: «والغاية الأولى التي تحققها السيرة الذاتية هي الغاية المزدوجة التي يؤديها كل عمل فني صحيح، أعني تخفيف العبء على الكاتب بنقل التجربة إلى الآخرين، ودعوتهم إلى المشاركة فيها، فهي متنفس طلق للفنان، يقص فيها قصة حياة جديرة بأن تُستعاد وتُقرأ» (فن السيرة، ص107). يتبع