يعتقد الفيلسوف كيركيغارد بأن"أكثر الناس يكتفون بأن يلعبوا الحياة دون أن يطرحوا على أنفسهم أي سؤال" وهم باختيارهم هذا أحرارٌ بالطبع، لكن أن يصادروا حرية أهل العقل والتفكير فتلك مصيبة عانى منها كثير من أهل مقام السؤال اللحوح، ومحبي التفكر في كنه الوجود من عشاق الحكمة والبحث خلف الأسرار المقدسة.. الموقف الُمستدعى هو؛ لمعلمة دين في مدرسة أهلية من أشهر وأعرق المدارس في الرياض، كانت في إحدى الدروس تلقن الطالبات بعض المعلومات مجرد تلقين، يختصر العلم في القبض على السؤال ومحاصرة العقل من أن ينبس باعتراض أو مشاكسة أو تساؤل، فضلاً عن أن يطرح خيارات ويتحاور معها ثم يختار ويقنع.. لن ينقذ الدين من المعتقدات الباطلة سوى التنوير الحقيقي، فبذلك فحسب تصبح عبادة الله عبادة حرة. ولذلك بقدر ما يخلو الدين من الحرية يتقهقر من حيث لا يدري إلى براثن الوثنية؛ حيث يتم الاستغناء في آخر المطاف ليس فقط عن العقل بل عن المعرفة جملة وتفصيلاً في معرض شرح المعلمة درسَها عللت جمال الأجواء في بلدان الغرب "الكافر" بأنه ما هو إلا استدراج من الله، ذلك لأن "جنتهم في دنياهم"، لكن القلق الذي ساور الطالبة المتشككة من هذه المعلومة الدوغمائية المتنكرة لفيزياء وقوانين الطبيعة أخذ يشاغب حول اليقين الجاهز، فداخلت معلمتها "ولكن تركيا دولة إسلامية يا معلمة وأجواؤها جميلة وماطرة، وهواؤها عليل !. المعلمة أفتت والطالبة استفتت قلبها، فلم تسلّم بل ناقشت وجادلت فيما استنكره قلبها من بؤس النتيجة المقدمة بمنة الغيب المغفل للتحليل والمقارنة.. ولأن كل وعي حقيقي يأتي من الداخل كما يرى ذلك سقراط، فإن الطالبة اللحوحة في البحث المعرفي لم تستسلم للحكم القاطع، واصلت المعلمة شرحها بعد أن وبخت الطالبة على سؤالها الذي ينم عن استعمال ملكة - والعياذ بالله - التفكير، جلست الطالبة وأخرس اعتراضها، وفي خضم الفرح المساير للتنميط المعلوماتي المخادع حول المنن والمحن، ادعت المعلمة أن الله منّ على المحاربين في العصور البائدة بالغنائم الكثيرة والنساء، اعترضت "نورة" مرة أخرى، ليس فقط لأجل خداع المعلومة كسابقتها، بل لتردع وتدفع إهانة وجهت لكرامتها: "ولكن المرأة ليست غنائم، ليست مادة، المرأة إنسان". عندها أعلنت المعلمة درجة الاعتراض القصوى؛ فطردت الطالبة من الفصل.. معلنة بذلك عجزها الهارب من السؤال بالقدرة على الاستبداد.. المعلمة بدافع روح التعصب والكره، أنكرت نِعم الطبيعة، وزورت منهج السببية لأجل إرضاء عاطفة الكراهية " المعلومة الأولى"، والعاطفة إحساس لايجوز تحويله لعلم يناقش ويختلف حوله ويتَّخذ منه موقف جازم قاطع.. ذلك يعني أن الطبيعة لا هي معبّر عن الشر، ولا هي لها الفضل في خيرية الإنسان كي تُبرَّر تحت قبة الإيمان والكفر. فالإنسان وحده مسؤول عن خيره وشره عندما يستعمل حريته، وليست الطبيعة صدى لحركة عواطفه الإيمانية.. أما المعلومة الأخرى عن تشييء المرأة فمساهمة في تمرير الانتقاص الإنساني للمرأة "جنسها" بدافع التبعية الذكورية الحمقاء ونقلها من إنسان كامل الإنسانية إلى شيء يُستمتع به، ويعد مجرد لذة من الملذات ! والمعلمة في تعاملها مع الطالبة تتعمد تجاهل الرد أو الاصغاء لاعتراض الطالبة المعرفي والإنساني، مستعيضة بازدراء موجه لعقلها الغض البريء، الباحث عن أجواء تحتضنه لتنشط به مَلكة التفكير والنقد والتحليل قبل الوصول المباشر الجازم الناطق بالحكم النهائي، وبدل أن تتأسف للإهانة التي جرحت كبرياء معرفتها وإنسانيتها طردتها من الفصل، في موقف فاضح لفقدانها التام القدرة العلمية للإدارة الصفيّة.. فضلاً عن تغييب حقوق الطالبة كلياً. المعلمة في اعتقالها حرية السؤال تعتبر عملها هذا خدمة للدين، وهي تضره للأسف من حيث ظنت نفعه. يقول كانط"إن ديناً يعلن الحرب على العقل من دون تفكّر في العواقب سوف لن يتمكن من الصمود أمامه".. من أجل ذلك يقترح كانط أن نفتح العقل على الدين، والدين على العقل، وهي دعوة تتفق والمنهج القرآني في جل دعواته المنادية بالتفكر والتدبر والتعقل، ولا شك أن إعمال العقل يحرره من القيود ويعطي المساحة للتساؤل الباحث عن الحق والطمأنينة ليأخذ حيزه الزاهي، والقرآن يهدي لقصص المتفكرين في ملكوت الله، وسيرة رسولنا عليه الصلاة والسلام تنبئ عن إنسان يتبتل في غار بعيد يعيش وحدة متنبهة، متسائلة ومتأملة متحررة من أسطرة وأنمطة التفكير الأعمى المنقاد لعقيدة الآباء والأجداد.. لذلك فحق أحدنا إحسان التمييز بين إيمان "دوغمائي" يقدم نفسه بوصفه علماً جازماً، متكبراً متغطرساً على العالمين، وبين إيمان "متفكر" يخجل من الانزلاق في الخرافة والجهل، وتقديم الإجابات القاطعة المعادية للعقل.. ولئن كانت الحرية هي وحدها التي تقودنا على نحو لا مرد له إلى الأسرار المقدسة، فالسلفية والأرثوذوكسية التي تدعي احتكار التأويل والتفسير والحكم لاتفعل سوى خلق "تراتبية" كاذبة في الفهم وفرضها على أناس أحرار، لكن معركة الإكراه ومنع العقول من التفكير معركة خاسرة دوماً. فالذي يريد أن يكون حراً لن يمنعه أي مانع، ولذلك لايفعل الاستبداد في واقع الأمر غير" إعاقة الحرية الخارجية"، في حين أن حرية الإيمان الباطنة تظل دوماً سليمة تماماً، بذلك المعلمة لاتستطيع منع الطالبة من التفكير سراً وإن أرهبتها جهراً. لن ينقذ الدين من المعتقدات الباطلة سوى التنوير الحقيقي، فبذلك فحسب تصبح عبادة الله عبادة حرة. ولذلك بقدر ما يخلو الدين من الحرية يتقهقر من حيث لا يدري إلى براثن الوثنية؛ حيث يتم الاستغناء في آخر المطاف ليس فقط عن العقل بل عن المعرفة جملة وتفصيلاً.. ولأننا في واقع يحتاج لتصحيحٍ تنويري فالخطوة الاستباقية تتطلب الاعتراف بأن الذهنية العامة للتفكير لازالت تصنّم المعرفة والحقيقة، وتجبر العقل على الانصياع التام للتوثين، وهو واقع حزين قديم جديد، فعندما أبى العرب إلا وثنية الأجداد دافعوا عن تلك الوثنية دفاعاً مستميتاً، وهم في باطلهم ذاك كانوا يرونه قمة الحق الأرثوذوكسي، ولا زال التوثين المعرفي بغباره يكسو العقول ويدجنها ! رغم ذم القرآن لوثنية العرب المعرفية أيما مذمة ! إن القوامة المعمول بها توسعت في مجتمع ينفي التفكير بل ويثني العقول عنه بوصفه جريمة أو رذيلة أو بأقل التعبيرات حدة وقاحة، فجاء التشكل المعرفي لتلك المعلمة عن طريق التشبع بالجو الذي تنشره التصورات القائمة، أكثر منه بفعل اكتساب المعارف، وتحت تأثير قانون القوامة طالبت الطالبة بأن يسبق موقفها تفكيرَها، ويصبح الفصل الذي يتوقع أنه قاعة لاستنطاق السؤال مجرد دائرة تلعب في مجالها المغلق الإجابات الجاهزة المأهولة بالاستعلاء النمطي الهجين، الرافض لحركة العقل النشطة، ليحوّل - باستبداده - حرية الحوار إلى حتمية القرار، وهي للأسف الثقافة السائدة للوعي الاجتماعي بعامة.. يقول كانط في شأن التنوير الحقيقي "بأنه أمر لايمكن أن يتحقق بواسطة إصلاح متدرج طالما أبقي تأسيس المسلّمات غير نقي، فلا يكفي أن نصلح طريقة إحساسنا بميولنا ورغباتنا بل ينبغي القيام بثورة في طريقة تفكيرنا"، ولذلك عمليات التصحيح أو التطوير الساذجة فشلت فشلاً باذخاً، ولن ينقلنا من التعليم التقليدي ويعتقنا من استبداده إلا التنازل عن الاستهلاك النسقي للمعلومة المتوارثة، بإعادة ماء الحياة للعقل والمنطق والفلسفة.. تعني الفلسفة في أهم تعريفاتها محبة الحكمة؛ باعتبارها ميداناً مفتوحاً ومتميزاً لنشر قيم المعرفة، وأسباب تربية الإنسان الحر وترسيخ معاني التسامح الشجاع، وبها يمكننا أخذ مكاننا كأعضاء كاملي العضوية في نادي الإنسانية؛ منتجين للمواقف الفكرية ومشاركين بملكة الإبداع والابتكار لخدمة البشرية، وذلك لايتأتى إلا بإعادة فلسفة حب الحقيقة، وتجديد النظر في المنظومة المعرفية كاملة، والتطبيق الأمثل للأجواء الصحية المعرفية، وأهمها التركيز على المطالب التأسيسية في اختيار المعلمة؛ كالفردانية والعقلانية والتسامح، والقدرة على التوفيق بين العقل والوجدان، أي محبة الحكمة "الفلسفة" التي خصها تعالى في كتابه الكريم لمستحقيها (يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ). ولأن الحكمة ضالّة المؤمن يجمع ديكارت في تعريف الفلسفة بين معناها الجميل وفائدتها: بأنها" "معرفة الكائن الجدير بالكينونة" متفقاً مع روح الآية السابقة. نموذجُ المعلمة السابق نموذج معطِّل للتنمية والعلم، وإن كانت الوزارة اليوم لديها نية صادقة للتطوير فعليها أن تلتفت لدور المدرسة في إعادة صياغة الوعي الفردي والجماعي، بمراجعة نقدية صادقة لإنعاش السؤال الحر، وطريقة تلقف المعلومة وتدويرها بين عدة مناخات فكرية إثرائية تساهم في خلق بيئة صحية منفتحة على التعددية الفكرية وتنويع الخيارات، واختيار المعلم الكفء الذي لا يصنع الإجابات بل يحسن إدارة النقاش بالاعتماد على القوة التأملية للعقل وتشجيع حرية السؤال والتركيز على تنشيط الحاسة المعرفية" الحدس"، وإجادة فن الحوار.. إن حقوق الطالبة التي تؤكد عليها الوزارة في الفترة الأخيرة لا تكفي، وحق عقلها لازال في زوايا النسيان والإهمال، وألزم وثيقة يجب أن توقعها المعلمة هي وثيقة احترام عقل الطالبة، فتوهّم التغييرات الماسحة برفق على القشور وجلدة الكتاب هو أمر ليس جديراً بعقل طالبة اليوم، فعقل الطالبة الذي تم إسكاته سابقاً يتلقى اليوم كل الدعوات الحرة! للبحث والنقاش والانفتاح على كافة الثقافات.. لم يعد يجدي اليوم رهبنة المعرفة، والتزيّي بلبوس الزهد المعرفي، فشيخ المعرفة" جوجل" فتحها على الفضاء السبراني، والحل في إعتاق الفلسفة.. حكمة الختام "يجب أن نعرف كيف نقاوم، لكي نتعلم متى يتأتى لنا أن نطيع دون إجرام".