الجماهيرية كانت - ولا تزال - هي المعترك الحقيقي الذي من خلاله يكتب لفكرة ما النجاح أو الفشل. فتمثل الجماهير للأفكار، يعني أن هذه الأفكار قد أصبحت فاعلة على أوسع نطاق، أصبحت فاعلة، بصرف النظر عن مداها الإيجابي أو السلبي. والمراد بفاعليتها هنا، أنها أصبحت تتحكم في مجمل السلوك الاجتماعي، في المجتمع الذي تهيمن على وعيه، وأن لها القدرة على توجيهه في المسارات التي تؤمن بها، بعد أن ترسخ الإيمان بها لدى الجماهيري. لذلك؛ أصبح كل صاحب فكرة - يؤمن بجدارتها - يسعى لتعميمها جماهيرياً على أوسع نطاق تمتد إليه إمكانياته المتاحة، ولا يكتفي - مهما كانت سلبيته، ومهما كان تشاؤمه الفكري - بالاحتفاظ بها في مستودع الأفكار والعقائد لديه. إنه يراهن - دائماً - على الامتداد الأفقي للأفكار؛ لإدراكه أن (الإيمان) الواسع، هو الشرط الأولي للتمثل، ومن ثم للفعل المتعين. إنه يعي أن الإيمان ما دام محصوراً في دوائر نخبوية ضيقة؛ فسيبقى الفعل محصوراً كذلك. بل سيحاصر التيار الجارف (الجماهيري) تلك القيم النخبوية المعتزلة، حتى في معاقلها النخبوية، ومن ثم تظهر معالم الانفصام في سلوكيات النخب التي ستبقى تلوك مقولاتها؛ مهما تكن الحال، ومهما يكن الفعل الصادر منها. الامتداد الأفقي (الجماهيري) امتداد مؤثر في مجمل السلوك المتعين، وإن لم يكن حاداً وانقلابياً في أكثر الأحيان. أما الامتداد العمودي (النخبوي) فهو امتداد يؤثر - بعمق - في رؤى حامليه، ومن ثم في سلوكياتهم. لكن، تتلاشى النخبوية سريعاً؛ لأنه بناء فرد نخبوي، أي أنه ليس عملاً تلقائياً يقوم به المجتمع آلياً، بل كل فرد من أفراده يحتاج إلى إعداد خاص. إنها - أي الكائنات النخبوية - كائنات ترفض الاستنساخ الفكري، كائنات مختلفة ومتغايرة وثائرة على النمطي. بينما الجماهيرية - بعد اتساعها - تبدأ في التناسل الطبيعي، إنها تصنع نفسها، وتنتج أنماطها، والمجتمع يقدم لها المواد البشرية الخام على نحو تلقائي؛ لأن الأمور تظهر للجميع، وكأن هذا هو طبيعة الحال، أو مو يجب أن يكون. المجتمع المتحضر ليس هو المجتمع الذي ينعدم فيه المتخلفون تماماً. كما أن المجتمع المتخلف ليس هو الذي ينعدم فيه المتحضرون. الذي يحدد هوية المجتمع، من حيث التخلف من عدمه، هو روح المجتمع . روح المجتمع إلى أين تتجه هذه الروح؟. المجتمع الذي تتلبسه حالة إيمان عميق بالعلوم (العلم الحقيقي) وبقيم الحضارة، مجتمع متحضر؛ وإن وُجد الخرافيون والملقنون (الذين تتكلم منظومة التقليد من خلالهم) على هامش وفي مستنقعاته، لكنهم - وإن وجدوا - لا يمثلون وعيه العام. والمجتمع الذي تتلبسه حالة من الإيمان بالخرافة - الخرافة بأنواعها، وإن تمظهرت كعلوم - وينفر من قيم الحضارة، هو مجتمع متخلف؛ حتى وإن كانت تتخلله النخب العلمية، ما دام أن هذه النخب - موقعها منه في الهامش، من حيث تحديد مسارات الوعي العام. الخيار الذي تواجهه النخب التقدمية - بلا شك - خيار صعب؛ وإن لم يكن مستحيلاً. كيف تمتد تلك النخب الثقافية جماهيرياً، دون أن يكون هذا الامتداد الأفقي على حساب مستوى الفكرة التي تمثل رؤية، أي دون أن تفقد شيئاً من علائقها البنيوية التي تمثل جوهر نجاعتها واقعياً؟. الجماهيرية ضرورة لأية فاعلية، ولكن طبيعة الفكرة المتقدمة قد تكون الثمن الأول - وليس الوحيد - لهذه الجماهيرية، وبهذا تتحول الأفكار الناجعة - بعد تبسيطها لجمهرتها - إلى (مقولات) سالبة، تهدم ولا تبني، كما كانت الحال مع كثير من الأفكار. هل يكون النجاح في الخروج من الأمية القرائية - على ضرورته - نجاحاً كافياً للجميع بين الجمهرة وتقديم (النوعي) من الأكفار؟!. نحن على يقين من أن الأمية القرائية التي يعاني منها العالم العربي - والنساء منه على نحو أخص - مشكلة سرطانية، تكاد تشل كل حراك معرفي فيه، ولكن هل هي المشكلة الأساس التي تقف حائلاً دون جمهرة الفكرة التقدمية؟ إن محو الأمية القرائية، وبقاء الأمية الثقافية، لا يعني تحقيق شيء من التقدم النوعي، بل يعني أن أرض الوعي قد أصبحت خصبة لثقافة التسطيح وصناعة الغباء العام. بقاء الأمية الثقافية، يعني أن في الإمكانية تعلم الجهل وترسيخه ونشره على أوسع نطاق، بعد أن كان الجهل فطرياً (فضاء مفتوحاً) يمتلك الأرض الخصبة للتعليم الحقيقي. تعميم الجهل يتم بواسطة آلية قرآنية متواضعة لدى المتلقي، تمكنه من استهلاك الكتاب (الكتاب مجازاً) والكتيب الايديولوجي! والمطبوعات الوعظية والكاسيت، ومن بعد البرنامج القضائي. إنه يمحو أميته؛ ليستطيع استهلاك كل ذلك الغثاء. لهذا تجد النخب التي تمتلك الوعي الحقيقي بالعصر والمعاصرة غير قادرة على جمهرة أفكارها؛ لأنها تواجه أمية ثقافية تحول بينها وبين الذيوع. تقف حائرة؛ هل تستسلم لشرط الواقع، أم تنكفئ على نفسها وترضي بتنخوبها؟! أمران ليس أحلاهما مراً، وإنما كلاهما مر. هذا الواقع (الأمية الثقافية) الذي تسبب في تضاؤل أثر النخب التقدمية هو - نفسه - الذي سيمنح الحراك المؤدلج، من إسلاموي وقومي - فضلاً عن الشعبوي المتأقلم - بعداً فاعلاً في العمق الجماهيري. سيتم استغلال هذا الوضع البائس؛ لنشر ثقافة بائسة، تستمد ملهماتها وتصوراتها من عمق عصور الظلام والتخلف والانحطاط. الجماهير ستصفق بقلوبها - قبل أكفها - لثقافة التسطيح المريضة، وستصنع من دعاتها رموزاً (معرفية)، لا مجرد رموز للتهيج العاطفي المأخوذ بالآني والراهن! عندما يغيب المعرفي الحقيقي؛ فإن الأرفع صوتاً، والأقدر على الضرب على أوتار العواطف، هو الذي سيفوز بالقدر الأكبر من الجماهيرية العريضة. لكن المشكلة ليست هنا، أو - على نحو أدق - لا تنحصر المشكلة في هذه الالتفافات الجماهيرية الغوغائية حول رموز التهييج العاطفي، بل هي في تحويل هذه الرموز العاطفية إلى ما وراء العاطفي من حراكها، أي تحويلها إلى رموز معرفية، إلى قادة وعي ونهضة وتقدم، إلى صناع للمستقبل الواعد. الجماهيرية، والترميز لها من حيث المبدأ، تكون حيوي إيجابي. هناك أنواع من النشاط الإنساني تقوم على الجماهيري، أو أن تحقيق شيء من الجماهيرية عنصر رئيس في وجودها، أي أن الجماهيرية ترافقها كعنصر يرتبط بوجودها. وكل هذا لا ضير فيه، بل هو ظاهرة إيجابية من حيث العموم. تبدأ المشكلة الحقيقية عندما يتحول هذا الالتفاف الجماهيري إلى تحوّل في نوعية التصور عن طبيعة هذا الالتفاف. أي توظيف هذا التجمهر لغير ما هو له، ومنحه وظائف ليست من طبيعته كحراك، أو لا تملكها رموزه التي تتحكم في هذا التجمهر. وفي أكثر المجالات هناك مساحات واسعة للجمهرة. في الثقافة والإعلام والسياسة والاقتصاد والرياضة والفنون.. إلخ. هذا حراك طبيعي، ودلالة على حيوية المجتمع. لكن أن يصبح مايكل جاكسون - مثلاً - رمزاً ثقافياً، ومنظراً معرفياً لحراك التقدم الإنساني، فتلك كارثة على مستوى الوعي. هو - كرمز غنائي - لا وجود له بلا جماهير، بل الوضع الطبيعي، أن مستوى نجاحه يتحدد من خلال امتداده الجماهيري. مهنته جماهيرية. لكن عندما تستغل هذه الجماهيرية للترميز له - فيما لو حدث - في المجال الثقافي أو السياسي - أي في صياغة مستقبل أمة - فتلك المصيبة الكبرى. صحيح أن الرموز الجماهيرية في بعض المجالات تمتلك وعياً ثقافياً قد يفوق الثقافي المتخصص في الثقافة. لكن هذه الرموز لا تتقدم - جماهيرياً في الثقافة - ببعدها الرمزي في تلك المجالات. فمثلاً، قد يتجاوز رمز فني كثيراً من رموز الثقافة في الميدان الثقافي. لكن - وهذا هو المهم - هذا التجاوز لا يتأتى له من مجرد كونه فناناً فحسب، بل من كونه مثقفاً بالدرجة الأولى، حتى وإن وظف جماهيريته الفنية لخدمة الثقافي، بل هذا هو جوهر رسالته الفنية (الإمتاع بالثقافي) سواء كان مثقفاً بالأصالة أو مثقفاً بالنيابة. ومما يزيد الإشكال حدة وخطورة، أن هذا الالتباس بين الجماهيرية التي تؤدي إليها المحركات الوجدانية لا المعرفية، يظهر - أشد ما يظهر - في مجال الجمهرة الدينية التي تقوم بها الحركات الإسلامية المعاصرة، سواء ما أخذ منها طابعاً تنظيمياً أو ما كان شبه تنظيمي. الصوت الإسلاموي المعاصر - كحراك مؤدلج - هو الأرفع صوتاً والأقدر على اللعب على أوتار الجماهيري بأطيافه المتنوعة. ولا ضير في ذلك، لو كان هذا الحراك المتأسلم لا يتجاوز دوائره الحيوية، أي ميادين الديني الخالص. مصدر التأزم أنه يوظف الوجدان الديني لغرض آخر مختلف. يوظف التعاطف الديني الجماهيري لصناعة امتدادات حركية تمارس ضغوطها على المجتمع الذي تتموضع فيه. ويزيد الأمر سوءاً أن هذه الامتدادات الحركية لا تمارس ضغوطها فيما يخص الديني فحسب، بل تمتد به - لتمتد سلطتها تبعاً لذلك - إلى مجالات الثقافة والسياسة والاقتصاد.. إلخ. تبعاً لهذا الحراك المنظم أو شبه المنظم؛ تتم صناعة الرموز في هذا المجال. وهي رموز تطرح بوصفها الأشد إخلاصاً، والأعمق وعياً في الثقافي وفي السياسي وفي الاقتصادي، بل وفي الفلك والطب، وفيما كان وما سيكون!، بل تمتد مهاراتها إلى عالم الجن والشياطين!. إنها رموز تقفز فوق إمكانياتها الحقيقية، بل فوق طبيعة الإمكان البشري. الحقيقة التي يدركها الجميع، أن لا حراك مثل الحراك المتأسلم المعاصر في تقديسه لرموزه؛ إلا ما كان من ترميز الحركة (القومجية) قبل اندحارها وهزيمة العار الحزيراني. ومع أن الدجل الأصولي انكشف وتعرى بعد الحادي عشر من سبتمبر، واتضح للجميع تهافت منطقه، وأن رموزه بلا ثقافة أصلاً - فضلاً عن أن تكون رموزاً ثقافية - إلا أن العشاق القدامى لم يصدقوا بأحاديث الفراق. مازالوا عشاقاً هائمين يترنمون: «كم بنينا من خيال حولنا» دون أن يدركوا أن كل ذلك كان مجرد (خيال). لم ينتبهوا، حتى «بعدما زال الرحيق». ومع أنها كانت «يقظة طاحت بأحلام الكرى»، إلا أنهم - في أعماقهم - يقولون: «ليت أنّا لا نفيق»! ورحم الله ناجي. لكن، كيف استطاع هؤلاء - بكل تهافتهم الثقافي - أن يلتهموا وجدان هذه الجماهير البائسة؟. كيف أصبحت الجماهير تتراقص - بلهاً - على أنغامهم العدائية الناشزة؟ كيف استلوا من هذه الجماهير كل حيوية طبيعية للفعل الإيجابي، وحقنوها بمخلفات إمبراطورية الرجل المريض التي تبرأ منها أو يكاد؟. هل مجرد التمظهر بشكلانية معينة، وترديد مقولات تراثية عدائية جاهزة، والضرب على أوتار النرجسية المجروحة، كفيل بتحقيق هذا التجمهر الغبي؟! ربما! حدثني أحد العائدين إلى الله، قال: كنت قبل سبع سنوات أو تزيد مخدوعاً برموز كثيرة، جرى الترويج لها، لكن لا أدري كيف خُدع الكثير منا؟ يقول: من السهل أن تخدع فئة قليلة، ولكن أن يوظف لك هذا الخداع المكشوف - المكشوف؛ فيما لو خاطب وعياً - جماهيرية عريضة، فهذا ما يستعصي على الفهم. يقول: كنا في الجامعة نتجمهر حول فلان وفلان، لا لشيء إلا لأنه كان يثيرنا ببث روح العداء للآخر، الآخر الخارجي والآخر المحلي، دون أن يكون ذا خلفية معرفية حقيقية، حتى في مجال اختصاصه. قلت: حدثني بمثال. قال - ضاحكا -: قريبك فلان، كان أستاذاً لنا، وكنا نعده رمزاً، وكنت أريد أن أحدثك عنه من قبل، لكني كنت أستحيك لقرابتك منه، أما وقد أصبح ما بينك وبينه مقطوعاً، فلا حرج في الحديث عنه بإسهاب، قلت: بل باختصار! يقول هذا العائد إلى الله؛ بعد رحلة الضلال الحركي: أخجل كلما تصورت حالي في تلك الفترة، كم كان يجري استغلالنا؛ بعد استغفالنا. كنا - في المحاضرة الجامعية التي يفترض أنها محاضرة علمية - نقبع أمامه في حالة من الكسون الطقوسي. كان يردد علينا مقولات التراث في التفسيق والتبديع والتضليل والتكفير، ثم ينزلها على واقعنا المعاش. كنا نغضب لما نتصور عليه الواقع الذي لا نرى فيه ما يقول. كنا نقول - في أنفسنا - وإن لم نصرح بذلك كثيراً، كيف تنتشر البدع والضلالات في بلدنا؟، بل كيف يسمح ل(الشرك) بأن يمارس في بلادنا علانية؟!! ما دورنا؟! يقول: بعد مدة؛ أصبح كل ما يفعله المختلف عن إيديولوجيتنا الخاصة بدعة أو ضلالاً أو شركاً أو كل ذلك. يقول: صدقنا كل هذا (التخريف) الإيديولوجي الذي كان يجري في قاعات جامعية، يفترض أنها علمية. نتيجة لذلك التهييج الذي كان يحقننا به؛ اكتسب هو جماهيرية داخل الجامعة وخارجها. كان - بعد أن يردد علينا مقولات تراثية بشكل حماسي - ينظر في عيون الجميع، وكأنه مقبل على تنفيذ عملية انتحارية. يفتح عينيه واسعاً، يضم يديه بخنق، يرفع أنفه تقززاً... إلخ. بعد أن يرى أثر ذلك علينا، يبدأ في شتيمة الغرب، وأمريكا خاصة، يوحي لنا بأن أمريكا على الأبواب؛ لتلغي ديننا، ولتنتهك أعراضنا، ولتنهب ثرواتنا. يقول صاحبي: يتبع ذلك الهجاء للغربي بهجاء كل متعاون معهم، يعرض بالحكومة وبكل ما تفعله إلى أن يكاد ذلك التعريض يلامس درجة التصريح. كنا - قبل أن تفرض الفضائيات حريتها على الجميع - نشتعل حماسة بهذه الجرأة وبهذا التعريض الذي كنا نتصوره نوعاً من الشجاعة والتجرد. كان ذلك قبل أن تصبح بذاءة القول مهارة رعناء، يحسنها كل أحد في عالم الفضاء اليوم ..يقول: بعد أن يخرج من القاعة كنا نتبعه كأسراب الدجاج. البعض يسأله، والأكثرية تسير وراءه ببلاهة، لمجرد أن تتبع، مع أنه - كما بت أعي اليوم - كان هزيلاً في ثقافته، حتى في تخصصه الدقيق، ولذلك لا أدري عن ماذا كنا نسأله آنذاك؟!. المهم أن نلحق به ونبدي له حبنا واعجابنا وحماستنا. يقول: من المضحك المبكي أن أحد الأساتذة المتعاقدين غار منه؛ لما يرى من تجمهر الطلاب حوله في أروقة الجامعة. لذلك أصبح يقول لنا عندما نسأله داخل المحاضرة عن أي شيء: لا وقت لدي، أسألوني بعد أن أخرج. يريد هذا - أيضاً أن نتجمهر عليه، لكنه لم يكن يعرف أصول اللعبة، وحتى لو عرفها، فلن يجرؤ على ممارستها. يقول هذا العائد إلى الله: لكم أنا اليوم أحتقر نفسي وزملائي. من المسؤول عن وضعنا في ذلك السياق الذي اغتصبت فيه أرواحنا منا؛ لمجرد أن الذي أمامنا يتحدث إلينا بلسان الدين؟ ليس الأمر هيناً أو ظاهرة عابرة أو فردية كما يظن من لم يقع تحت طائلة هؤلاء. مازال كثير من زملائي في تلك الفترة على عشقهم القديم لمثل هذه الرموز التي تضخمت بقدرتها على استغلال عواطفنا الجياشة الصادقة تجاه ديننا استغلالاً انتهازياً لمصالحها الخاصة (الجاه والنفوذ، ولا يعني المال شيئاً في الغالب). والأيام لا تزال تنبئك بكل عجيب. قلت له: ذكرتني قصتك هذه - وهناك الكثير مما يدور في فلكها - بالخداع الناصري (القومجي) للجماهير العربية في الستينيات. عندما تعيد بعض الإذاعات أو القنوات الخطب الناصرية يتملكني العجب؛ كيف خدعت الجماهير العريضة - وفيها مثقفون - بمثل هذا الكلام العابث الطفولي. كيف انساقت الجماهير وراء تلك الزعامة، في الوقت الذي كانت فيه المعتقلات الناصرية تمتلئ بالإنسان المسحوق، من إسلامي وشيوعي وعلماني ومسيحي؟! من الكل. الجميع طالته يد العذاب الوحشي المسعور، الجميع جرد من إنسانيته، بل من حيوانيته، وتبقى الجماهير - بعد ذلك - تصفق للجلاد الكبير؛ لمجرد أنه ينادي بعداء الآخر، ولو على سبيل التمثيل. هل مجرد أن أقول: أنا أكره أمريكا والغرب، ثم أفعل ما أشاء؛ تأتيني الجماهيرية منقادة تجرر أذيالها؟!!! إن في ذلك لذكرى، ما يتذكر إلا أولو الألباب.