منذ أيام ، رحل عن الدنيا رجل فاضل ، حزنت عليه الناس لأنه امضى حياته شاهدا على أحداث هامة مرت بها امتنا ، وكان وجوده الإنساني والثقافي موازيا لتلك الأحداث ، والسنوات . رحم الله ثروت عكاشة ، المثقف المصري العربي ، الذي امتلك يوماً أحلامًا كبيرة ، تحققت في مشاريع ، خدمت الثقافة ، وأقامت بنية أساسية في ربوع الوطن ، زمن الخمسينات والستينات من القرن العشرين . عاش ثروت عكاشة طوال عمره مؤمنًا بأن الثقافة هي وسيلة فاعلة لتحقيق التقدم ، والتنمية ، وإعلاء المثل العليا للحياة ، واعتبر طوال عمره أن الثقافة سعي نحو المعرفة ، وترسيخ لقيم المواطنة ، لتشيع روح التسامح ، واحترام حرية المعتقد ، وآمن بالعلم طريقًا للتقدم. كان أكثر وجوه ضباط حركة يوليه 1952 ،استنارة ، وفهما ومنذ بدأ العمل العام ، اختار الثقافة مجالا لتحقيق التنوع الثقافي الخلاق . ومنذ البداية وثروت عكاشة ، يتمتع برؤية متكاملة للفعل الثقافي ، الذي أنتج الكثير من المشاريع في زمن إدارته لتلك الوزارة. ينتمي ثروت عكاشة لتنظيم الضباط الأحرار ، تخرج من الكلية الحربية عام 1939، واشترك في حرب فلسطين عام 1948 ، واختاره عبد الناصر وزيرًا للثقافة مرتين في العام 1958 والعام 1966 ثم كان نائبًا لرئيس الوزراء في فترة من الفترات. لثروت عكاشة مشروعه الذي يدل عليه ، وله سؤاله الذي أجاب عنه في كثير مما أنجز من مهام. أسس ثروت عكاشة أكاديمية الفنون بمعاهدها المتعددة ، التمثيل والسينما ، والكونسرفتوار ، ومعهد الموسيقى العربية ، والنقد ، ومعهد البالية حيث درست الفنون المختلفة ، والتي ساهمت في تكوين أجيال جديدة اشتغلت بالعمل الثقافي في مصر وخارج مصر . أقام المجلس الاعلى لرعاية الفنون والآداب وكان مجمعا ذلك الحين لكبار الأدباء والمفكرين ، طه حسين والعقاد واحمد أمين ونجيب محفوظ ويحيى حقي ، هؤلاء الرواد الذين استعان بهم ثروت عكاشة لتأكيد قيم الأصالة والمعاصرة ، ومذاهب الفن الجديدة ، وتيارات الحداثة في الغرب . نبه ثروت عكاشة العالم للمصير الفادح لآثار النوبة التي سوف تغرقها مياه النيل ، بعد الانتهاء من استكمال مشروع السد العالي وبفضل هذا الموقف ساهم العالم في انقاذ ، معابد أبو سنبل ، ومعابد فيله في بلاد النوبة . وفي عهد ثروت عكاشة توفر الكتاب بسعر في تناول المواطن العادي ، وصدرت المجلات التي أسهمت في تقدم ثقافة مستنيرة ، مجلة "المجلة" التي رأس تحريرها يحيى حقي ، وشكري عياد ، وعبد القادر القط ، ومجلة الفكر المعاصر الذي رأس تحريرها فؤاد زكريا ، ومجلة الفنون الشعبية برئاسة تحرير احمد رشدي صالح ، ومجلات مثل المسرح والسينما والفن التشكيلي . كانت حقبة الستينات هي التي شهدت طفرة المسرح المصري ، وكان ثروت عكاشة الراعي الحقيقي لتلك الحركة ، التي شهدت العديد من المواهب ، كتابة ، وتمثيلا ، وشاهدنا أعمالا لتوفيق الحكيم وباكثير ونعمان عاشور والفريد فرج ويوسف إدريس ومحمود دياب ورشاد رشدي وميخائيل رومان. فترة ازدهار فن المسرح بقضاياه التي عبرت عن المواطن وعلاقته بالسلطة ، وعبرت عن المتغيرات الحدية زمن يوليه الصعب!! . وفي تلك المرحلة استطاع ثروت عكاشة أن يعزل الثقافة عن مجمل ما كان ينفذ حين ذلك من سياسات تجاوزت كثيرا حقوق الفرد ، ومصالح الجماعة بافتعال معارك كانت نتائجها وخيمة!! بعد انحسار الضوء عن الرجل ، وتغيرت الأحوال ، وانكسار الروح بعد هزيمة يونيه 1967 ، لم يستسلم ثروت عكاشة فأبدع مشروعه الإبداعي الهام "الأذن تسمع والعين تبصر" وفيه أرخ لتاريخ الفنون ، وترجم أمهات الكتب من الشرق ومن الغرب. ولدوره الثقافي ، ولانجازه تجربة طويلة في ساحة الثقافة العربية ، اختير نائب رئيس اللجنة الدولية لإنقاذ مدينة البندقية ، وكان أستاذا زائرا بالجوليج دي فرانسي ، كما انتخب الرجل رئيسا للثقافة الاستشارية بمعهد العالم العربي بباريس. يغيب ثروت عكاشة ، ولا يغيب دوره في الثقافة العربية ، بالرغم مما عشناه ونعيشه من تجاوزات السلطات الكثيرة التي تغيب الإنسان ودوره في الحياة.