ثلاثون عامًا قضاها الدكتور محمد أبوبكر حميد باحثًا في أدب علي أحمد باكثير محاولاً إنصافه لإعادة الاعتبار إليه باعتباره رائد الشعر الحر العربي، فأسهم من خلال سعيه في توحيد جهود رابطة الأدب الإسلامي العالمية والاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب لعقد مؤتمر موسع ليناقش أدب باكثير.. وينتظر حميد افتتاح متحف باكثير في اليمن ليعلن من ثمّ انتهائه من البحث في زواياه، ليوجه دفته إلى مبدع آخر طاله التعتيم وظلم عطاؤه.. “الأربعاء” استطاع “اقتناص” الدكتور أبوبكر برغم أنه يبدو دائمًا مرتبطًا بموعد مع صحيفة أو قناة إذاعية أو لديه لقاء فى مطبعة للترتيب لكتاب مقبل عن باكثير حتمًا.. فكان هذا الحوار.. اهتمام بالمظلومين * لماذا كل هذا الاهتمام بأدب باكثير دون غيره.. هل هي عنصرية المواطنة أم سعيًا لأديب يستحق؟ كثيرًا ما أُسأل هذا السؤال.. إرتباطي بباكثير ليس لأنه ولد في موطني بحضرموت ولكنه الأديب العربي الوحيد الذي عانق قضايا الأمة العربية والإسلامية من خلال أدبه، وتابع كفاح كل دولة فاجتمعت في شخصه كل صفات العالم الإسلامي في مسرحياته ورواياته، ولا يوجد أديب عربي استطاع أن يغطي كل الدول العربية وما كان يحدث فيها، ولا أستطيع أن أنسب باكثير إلى جنسية عربية واحدة، لأنه ينسب لهذه الأمة؛ فقد كتب عن فلسطين خمسين مسرحية وعن مصر عشرين، وعن المغرب العربي عشر مسرحيات، لذلك من الصعب أن نقول إنه مصري مثلاً رغم أنه يحمل الجنسية المصرية، هذا سر اهتمامي بباكثير، والنقطة الأخرى هي إني مهتم بالكتاب الذين ظلموا، لذلك نعيد له الاعتبار في مؤتمر اتحاد الكتاب العرب ورابطة الأدب الإسلامي. عودة باكثير * وهل تعتقد أن المؤتمر استطاع أن يعيد أدب باكثير إلى الواجهة الثقافية؟ نعم.. وأنا سعيد بما حدث.. لأنه الأديب العربي الوحيد الذي أحتفي به على هذا المستوى، بالتعاون بين رابطة الأدب الإسلامى العالمية والإتحاد العام للأدباء والكُتّاب العرب، لا أتصور أن يكون هناك احتفاء بأديب عربي آخر يأتي على نفس القدر، حتى وإن كان نجيب محفوظ الذي وجد احتفاءًا كبيرًا عندما حاز على نوبل وأتى الاعتراف به من الغرب، ولم يقدر داخل مصر وظل كاتبًا عاديًّا حتى جائزة نوبل ثم رفع على الأكتاف، هل يجب أن يعترف الغرب بعظمائنا حتى نعرف لهم قدرهم، والجميل هنا أن باكثير جاءه التكريم من الداخل ولم يأتِ من الخارج ورغم قامة نجيب محفوظ فإن أعماله كلها مصرية سواء الأعمال الرمزية، المرتبطة بالوضح السياسي في مصر أو القضايا الإجتماعية، من الصعب أن تعقد مؤتمرًا في اليمن أو المملكة عن نجيب محفوظ، لكن أعمال باكثير موجودة على المستوى العربي والإسلامي وحتى الأعمال الرمزية منها تنتمي لقضايا الأمة العربية كلها وليس بلدًا معينًا، وأيضًا معالجته لقضايا مصر كانت أمرًا طبيعيًّا، لأن مصر وما يحدث بمصر لابد أن يكون له تأثير على بقية الدول. المؤتمر أعاد الاعتبار كاملاً لباكثير إعلاميًّا وأدبيًّا، والأبحاث التى وصلتنا صالحة للعرض لذلك طبعت في مجلدين، وأيضًا الحضور المبهر في المناقشات، كنت أتوقع أن الجلسة قد يحضرها عشرة أفراد على الأكثر ولكننا وجدنا القاعة مزدحمة، وهذا دليل على أن باكثير عاد، وأن لديه ما يجب مناقشته، وكانت هناك مناقشات بآراء مختلفة وأفكاره ظلت موجودة مما يعنى أنه لم يكن رجعيًّا تجاوزه الزمن، الكلام الذي قيل على هامش الحوارات يؤكد أن باكثير حاضر الآن، والعجيب أن يتم الاحتفاء به في ذكرى أضخم حدث مر بتاريخ الأمة "5 يونيو"، والهزيمة التي رفضها باكثير ودعا إلى تجاوزها يحتفي به فيها، وهذا انتصار، والحدث الآخر اعتداء إسرائيل على أسطول الحرية المتجه إلى غزة، جعلت ناس يتذكرون موقف باكثير من فلسطين ووصلتني أكثر من 150 صفحة منشورة في الصحف، ولم يستطع الموضوع السياسي أن يطغي على الاحتفال بباكثير فعاد من خلال المؤتمر للحياة منتصرًا بعد أن مات مقهورًا. سطوة النسيان * البعض يشير إلى أن الذاكرة العربية مثقوبة.. فهل يمكن أن يطمر النسيان كل هذا الحراك الذي صنعه المؤتمر؟ نعم.. قد ينسى ولكن ستبقي الأعمال الكاملة لباكثير موجود بعد أن طبعها المجلس الأعلي للثقافة بمصر، وستعيد اليمن طبعها في ديسمبر المقبل حين تحتفل بذكرى ميلاد باكثير وافتتاح منزله الذي عاش فيه في حضرموت وتحوله إلى متحف بأمر من رئيس الجمهورية، بعد أن نقلت إليه متعلقاته الشخصية ومكتبته من القاهرة، وسيتحول هذا المكان إلى مركز للباحثين مفتوح للزيارة في احتفال كبير تدعى إليه كافة الرموز العربية. الأمل الوحيد *كيف تقرأ تأثير فترة إقامة باكثير في المملكة عليه وعلى إبداعه؟ المرحلة السعودية في حياة باكثير رغم أنه لم يقم في المملكة سوى لعام واحد لقد خرج من حضر موت عام 1932 مقهورا فكريا وعاطفيًا بعد أن توفت زوجته، ووصل عدن ونصحه محمد رشيد رضا أن ينتقل إلى السعودية قبل أن يتجه إلى مصر، ونتيجة إعجاب باكثير بالملك عب العزيز الذي كان يرى فيه العروبي الإسلامي، لأنه منذ بداية الحرب الثانية عام 1939 وحتى قيام دولة إسرائيل عام 1948لم تكن هناك دولة عربية مستقلة إلا السعودية واليمن، ولم تكن اليمن مؤهلة لقيادة العرب لإنها كانت تحت حكم الإمام والأوضاع السياسية كانت سيئة، ولم يكن أمامه سوى الملك عبدالعزيز الذي وحّد الجزيرة العربية وتابع معارك التوحيد التى خاضها لإنشاء المملكة من خلال قصائده في حضرموت وعدن، فكان الملك عبدالعزيز هو القائد الوحيد الذي علّق عليه باكثير الأمل في توحيد الأمة وتحريرها عندما قابله في الحجاز ألقى أمامه قصيدة طويلة من 160 بيت يحثه على التوحيد، قال في مفتتحها: لا ينهض الشرق حتى تنهض العرب ونهضة العرب الكبرى لها أهبُ عبدالعزيز كبير العرب أنت لها ضاق بنا الحال وأصطكت بنا الركب وكانت من الرؤية السياسية الاستشرافية عند باكثير أن قال للملك عبد العزيز عام 1934 أنه ستشتعل حرب كونية فليتك توحّد العرب حين يكون العالم منشغلاً بالحرب فيقول في بيت من القصيدة: سوف توقد حرب الكون شاغلةً فليت شعري في أثنائها نثبُ ولهذا أحبه الملك عبدالعزيز، وطلب أن يراه عندما زار مصر في عهد الملك فاروق، وهذا ما جعلني أخرج كتابي “باكثير والملك عبدالعزيز” في 400 صفحة وكتابي “صفحات مطوية عن علاقة الأدب بالسياسة في الجزيرة العربية”. ظلم اليسار *في فترة حياته بمصر تعرض باكثير لمضايقات من اليساريين ولكنك قلت من قبل إن عبدالناصر سانده.. فكيف ذلك؟ من حظي أني إلتقيت بأمين هويدي عام 88 في اليمن ودعيت لإلقاء محاضرة عن باكثير في سهيون بحضرموت وقلت إن باكثير ظلم في عهد عبدالناصر، بعد الندوة خرج أمين هويدي وطلب الكلمة وقال: “أريد أن أصحح بعض المعلومات، لأن عبدالناصر كان يحب باكثير ويقدّره” وسرد شهادة عن عبدالناصر أنه أنقذ باكثير مرتين من الاعتقال المرة الأولى عام 54 عندما حدث صدام بين الإخوان ورجال الثورة، ووقتها كان باكثير يكتب كل أسبوع مسرحية في صحيفة الإخوان، وجاء اقتراح باعتقال باكثير، وقال عبدالناصر: لا يعتقل لأنه ضيف في مصر ومواطن عربي اختار مصر ليقيم فيها وأصبح مواطنًا -حصل على الجنسية المصرية عام 51 -. كنت أقابل باكثير في بيت الإخوان المسلمين وكنت أتردد على بيت الإخوان وكلنا كنا نشجع أفكار الإخوان واختلفنا معهم، ويظل باكثير صاحب رأي، وأيده محمد نجيب، وعام 66منح عبدالناصر باكثير وسام العلوم والفنون وجائزة الدولة، وحينها قال له عبدالناصر “لا أنسى أن الرواية التي تأثرت بها بعد "عودة الروح" لتوفيق الحكيم هي "واإسلاماه" لأنها عبّرت عن حاجة الأمة إلى زعيم يقودها نحو الوحدة والحرية"، ورأى عبدالناصر في نفسه شخصية قظر، وفي عام 66 جاء خبر في الاستخبارات أن سيد قطب زار باكثير متخفّيًا في رأس البر فرد عبدالناصر باكثير هو ليس عضو في الإخوان وسيد قطب صديقه وانتهت شهادة هويدي، لكنني أعرف أن باكثير كان في تلك الفترة مكروهًا من اليسار المسيطر على المسرح القومي واجتمع اليساريون في وزارة الثقافة مع ثروت عكاشة والكُتّاب القوميين المعتدلين ليس لهم مكان، وحدث توازن بفتح المجال للكُتّاب القوميين في مسرح التلفزيون وعرضت مسرحية "جولفدلن هانم لباكثير، وفي التسعينيات زرت ثروت عكاشة في منزله وقال إنه لم يندم على شيء في حياته، وقال لي "لا تثق في شيوعي في حياتك" ولكنه جبن أن يكتب هذا الكلام وأرسل لي رسالة بخط يده، يكشف ماذا فعل اليساريون بباكثير، ولدي علامة استفهام كبيرة كيف يخاف رجل بحجم ثروت عكاشة أن يهاجم اليسار ورفض أن أنشر مثل هذا الكلام. لم يغير ملابسة وكلمته * أدباء كثر ظلمهم التاريخ.. فلم قضيت كل هذا العمر لإنصاف باكثير؟ كثيرون هم الذين ظلموا ولكني اعتبر باكثير شيخ المظلومين، وأشهد له أن أصحاب المبادئ يدفعون الثمن غاليًا، باكثير منذ أن دخل مصر وهو يتعرض لمضايقات، وكتب محمد عبدالحليم عبدالله مقالاً في الهلال بعد وفاة باكثير عنوانه "مأساة المعداوي وباكثير" قال فيه "المعداوي كان يطلق النار في وجوه قاتليه، أما باكثير فهو غريب دخل مصر الحبيبة فكان يسير إلى جوار الجدار وهم يطلقون عليه النار فيحاول أن يختفي ولكنه لم يغير جلده ولا ملابسه ولا كلمته منذ أن دخل مصر إلى أن مات". ورأى الناس يغيرون أفكارهم مثلما يغيرون ملابسهم بنفس السهولة، باكثير صمد، لأن مبادئه واضحة. قضيتي مع باكثير أنه الأديب العربي الوحيد في اثناء جيله الذي حمل هموم الأمة كلها ابتداءًا من مصر وفلسطين وهما أكبر قضيتين في حياته إلى كل الوطن العربي. أي دولة عربية ناضلت للحصول على الحرية والاستقلال لها في أدب باكثير ذكر، أي قائد عربي قاد بلاده إلى الحرية غنّى له باكثير شعرًا وخلّد كفاحه في مسرحية وفي الوقت الذي كان فيه توفيق الحكيم غارقًا في التأملات الفلسفية في برجه العاجي ويكتب الرباط المقدس، كان باكثير غارق في هموم أمته، في حين غرق الآخرون في الأفكار المجردة، فلسطين كانت تضيع وتحترق ويهجّر أبناؤها، وكان معظم كُتّاب مصر مشغولين بكتابة قصص رومانسية أو أفلام أو تاريخ لا علاقة له بما يحدث للأمة الآن وكان باكثير يكتب كل أسبوع مسرحية تسجيلية وهو رائد المسرح التسجيلي، تحكي قصة التآمر الدولي ضد فلسطين في الأممالمتحدة، لم يترك شخصية غربية تحالفت مع اليهود وأيدت قيام الكيان الصهيوني إلا ومرغ بها التراب، ويستطيع طالب أن يكتب رسالة ماجستير عن تشرشل في أعمال باكثير، مسح به البلاط، هات لى كاتبًا غير باكثير فعل كل ذلك. رؤية كونية * دار نقاش عريض في المؤتمر عن اتجاه باكثير لأسلمة التاريخ العربي في أدبه كأحد المآخذ عليه.. فماذا عن ذلك؟ لا يزال هناك الكثير ليقدم عن باكثير، رجل صعب أن تربطه بحزب أو جماعة أكبر من رابطة الأدب الإسلامي لأنه رجل مستنير، جمع بين الثقافة العربية الأصيلة وبين الفكر الإسلامي المستنير، إنه تلميذ المدرسة السلفية المستنيرة، ومدرسة الحرية، العروة الوثقى جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ابن وربيب فكري لمدرسة المنار محمد رشيد رضا، وصديق محب الدين الخطيب، خريج قسم اللغة الإنجليزية وليس خريج الأزهر، يتقن لغتين، استوعب معنى التصور الإسلامي للأنسان والكون وعبّر عن هذا التصور في كل ما كتب، قال “إن الله رب العالمين وليس رب المسلمين” من هذا الأفق الواسع عانق باكثير الإنسانية. ليس العالم الإسلامي وحده وقال: نحن المسلمين لسنا وحدنا في هذا الكون، وعندما دخل مصر "تعجب كيف يخرج هذا الشاب الحضرمي أن يخرج أول عمل له فرعوني وهو شاب متدين إسلامي، وواضح من أشعاره، عام 1934 كانت هناك معركة محتدمة بين الفرعونيين والعروبيين، في هذه الفترة خرج محمد رشيد رضا بمقال كتب فيه إن الفراعنة من بقايا قوم عاد قدموا من شبه الجزيرة العربية، فوجد باكثير صلة بين أصوله وبين مصر، فألقى قصيدة في الجامعة في ذكرى المتنبي وقال: أبوكم أبي يوم التفاخر يعرب وجدكم فرعون أضحى بكم جدي الحضارات التى قامت قبل الإسلام من حق شعوبها أن تفخر بها لأنها قامت على أرضها قبل الإسلام ومنها الفرعونية، وكتب باكثير مسرحية "اخناتون ونفرتيتي" وقال إن اخناتون كان يدعو إلى التوحيد مثلما ذكر في التاريخ، المشركون في الجزيرة العربية كانوا يعبدون الأصنام وهذا التفسير الإسلامي للتاريخ، لأن الاسلام دين الإنسانية، ولا ينطلق من الأفق الضيق. أنا مع هذا اليهودى * في ضوء ما تقول.. هل يمكن أن نطلق الصفة الإسلامية على نوع من الأدب وننفيها عن نوع آخر؟ نعم.. محمد سلماوي قرأ على الناس كلمة ألقاها باكثير في مؤتمر الأدباء العرب في 69 ببغداد" وقال إن هذه الكلمة تصلح أن تقال في أي مؤتمر قادم، باكثير قال "إن العروبة ليست الكتابة باللغة العربية، الأديب يكون عربيًّا، عندما يكون عربيًّا بشعوره وتفكيره وانتمائه لأمته وقضاياها"، وهذا هو التعبير الصحيح، كثير من الأدباء العرب اليوم ليس لهم من العروبة والإسلام إلا الأسم ولكن فكرهم وما يعبّرون عنهن ليس عربيًّا، كيف أستطيع أن أقول إن هذا أديبًًا عربيًًّا، وللأديب الإيرلندي "جون ميلينتون سي" مسرحيتان هما الراكبون إلى البحر للفكر، ومسرحية "مركب بلا صياد"، وقال إن هاتان المسرحيتان تنتميان بعمق إلى الأدب الإسلامي أكثر من انتماء أعمال لكُتّاب عرب ومسلمين لهذا الفكر، الأدب الإسلامي انتماؤه الحقيقي بالفكر الإنساني، وعبّرت عن رأيي هذا في كتاب لا يرضى عنه رئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية، بها وكوني عضو بالرابطة لا يعني أني اتفق مع كل أدبيات الرابطة، الكاتب يملك الحرية ولا يقيده انتماء سياسي أو حزبي، وكون أنه يلتقي مع اتجاه معين وفي قواسم مشتركة لا يوجد مشكلة، أنا مع كاتب يهودي يتفق معي في القواسم المشتركة الإنسانية ويقول إنه من حق الفلسطينيين أن يكون لهم وطن مستقل.