في كل عام يلتقي أعمدة الفن الفوتوغرافي بالقطيف لحضورالكرنفال السنوي الذي تتألق فيه جماعة القطيف للتصوير الضوئي في معرضها الخامس عشر وما يصاحبه من فعاليات تتدفق نحوها أشعة الضوء من كل صوب ، وتتآلف خيوطها الساحرة ، لتكوّن نسيجا مدهشا من فكر ونور، عبر المحاضرات والندوات وورش العمل والنقاشات الفكرية والتأملات النقدية ؛ بإثراءاتٍ تحوّل جنبات المكان إلى خلية ضوئية يرتشف الزائرون منها رحيق التأمل والفن والإلهام. وفي كل عام نتواعد مع الدهشة التي تثير ماوراء الحواس الخمس فنلمس ونتذوق ونشتم عبق الصور! يُعدّ معرض الجماعة غذاء بصري نضجت فيه تجارب الفنانين الفكرية والقصصية ونحَتْ في بعضها منحى "البورتفوليو" وهو وجه من وجوه التصوير الفوتوغرافي حيث لا يعتمد على الصورة الواحدة بل على سلسلة من الصور يربطها عامل مشترك إما أن يكون الفكرة أو الحدث أو الزمن أو العناصر أو العاطفة أون تكون الفكرةأ روح واحدة تجمعهم أو أشياء أخرى .. إنه عالم أخاذ ومتشعب يأخذنا إلى الفوتوغرافيا السينيمائية أو الفوتوغرافيا القصصية التي تهتم بإخراج الصور كقصة داخل سلسلة ضوئية مترابطة تشدّ الإحساس قبل النظر. كما أن بعض التجارب عكست نضج تجربة المصور. كل هذا في جو أحادي ازدانت الأعمال بتوحد اللون الأبيض بالأسود . رحم الله الشاعر العربي عمر بن أبي ربيعة الذي قال: فالوجه مثل الصبح منبلج والشعر مثل الليل مسود ضدان لما استجمعا حسنا والضد يظهر حسنه الضد التجربة الضوئية حبيب علي : تمنيت من كل واحد أن يأخذ نفساً عميقاً يصل إلى أطراف طفولته التقينا بعدد من المشاركين في هذا الكرنفال الضوئي بدأنا بالفنان علي أبو عبدالله أحد أعمدة الجماعة وعضو لجنة التحكيم والفرز ليعطينا رأيه في أعمال " التجربة الضوئية " في المعرض يقول : عندما سلّطنا الضوء في المعرض على التجارب الضوئية، كنّا نعني بالتجربة ذاتها " بمعنى موضوع أو عمل فني اختبره الفنان أكثر من مرة ليخرج بنتيجة مقنعة له ومرضية للمتلقي" . والحقيقة لم نكن نقصد بالتجربة " سلسلة الأعمال"، وإنما نقصد نتاج الفنان لموضوع معين ، كما لو أخذنا موضوع " النخلة" وتناولها الشخص من عدة زوايا فوتوغرافية، أدبية، بيولوجية، أو اجتماعية .. أو نتاجه لفترة زمنية أو مرحلة، كما المرحلة الزرقاء أو الوردية لبيكاسو، أو حدث أو رحلة أو مرحلة حياتية كاملة كما لو قلنا تجربة مايكل أنجلو في النحت. ويضيف أبو عبدالله : لازلنا في مواقع ومنتديات التصوير نناقش أنواع الكاميرات وجودة العدسات بينما فن التصوير هو رسالة قبل كل شيء نستطيع أن نوصلها حتى بكاميرا الجوال . ولكن يبقى السؤال الحقيقي : مَن منّأ صاحب رسالة ليكون فعلاً صاحب تجربة ناجحة. الاطلاع على تجاربهم فن التصوير هو فن تشكيلي أدواته الكاميرا والكمبيوتر أو الورق والمحاليل بدلاً من الفرشاة ومعاجين الألوان . والتصوير ليس فقط ما نتداوله في مواقعنا الإلكترونية من جودة الصورة من حيث شدة الوضوح أو تشبع الألوان أو حتى معايير التصميم ! وإن كانت هذه العناصر قد تستخدم في الفن، وإنما التصوير أعمق من هذا ببحور ! نأمل أن نعيد مراجعة أنفسنا للوقوف على حقيقة الفن بالإطلاع على تجارب الفنانين عبر العصور. ثم يختم حديثه بلمسة وفاء رقيقة فيقول : وهنا أتذكر الدكتور طارق الجهني رحمة الله تعالى عليه، الذي اجتهد كثيراً لينير لنا الطريق لنشر هذا المفهوم وأنا شخصياً تشرفت بحضور محاضرتين من محاضراته وهذه في الحقيقة كلمة وفاء لهذا المرحوم العزيز. التنقل بين المدارس الفنية يوسف مسعود : التجربة القصصية تخلق نوعاً من التحدي بين المصور وذاته كما التقينا كذلك برئيس جماعة القطيف للتصوير الضوئي الأستاذ محمد الخرّاري ليحدثنا عن فلسفته الفنية نحو مشاعر الإنسان : كما هو الحال في كل الفنون، أن يشتغل الفنان داخل إطار مدرسة فنية واحدة محاولاً تطوير نفسه فيها ، وهناك من الفنانين من يحاول التنقل والتدرج في أعماله ليس على مستوى الأدوات والمدارس الفنية المتنوعة فحسب، بل حتى على مستوى الأفكار والرؤى التي يُقدمها، وشخصياً أجدني أنتمي إلى القسم الثاني المتنقل بين أكثر من مدرسة حيث كانت مشاركاتي في محور الطبيعة الصامتة واضحة، بعدها انتقلت إلى تصوير الإنسان بتفاصيله ومشاعره وتعبيراته. ومازلت منجذباً نحو الإنسان ومشاعره ولكني أحاول تناولها بطريقة مختلفة. طاقة الأنثى والثوب الأبيض أما رباعية الخرّاري الحالمة فهي قصيدة مغنّاة صامتة يسمعها الإحساس وتذيبها الوجدان في لذة اكتشاف المجهول بانسياب حريري يسري بالشعور دون معرفة ماهيته ، يقول الخرّاري عن تلك التجربة : بالنسبة لتجربتي الخاصة في هذه الرباعية، جاءت في سلسلة تتناول سرد حكاية قصصية بصورة مفاهيمية (Conceptual Photography) ومفتوحة الدلالات. والتي تقبل التأويلات المتعددة وفقاً لاختلاف الثقافات لدى المتلقين وأيدلوجياتهم وحالاتهم النفسية . وكل عنصر أو مكوِّن من مكونات العمل الفني يجب أن يخدم فكرة العمل ويسهم في إيصال رؤية وفكرة الفنان، وفي هذا العمل وجدت أن عناصره كفيلة بتحقيق ما أردت ، فالأنثى والبياض والستار وغياب بعض الأجزاء وحضور بعضها وما يستتبع وجود الأنثى تحت الستار وبحركات إيحائية معينة تسهم في تكوّن الفكرة أو تعطي إشارات ومفاتيح لدى المتلقي للدخول للوحة. ولذا اخترت تلك العناصر لإنجاح عملي وإتاحة الفرصة الأكبر للمتلقي لقراءته الخاصة. فلسفة ورؤية خاصة محمد الخرّاري : انجذب نحو الإنسان ومشاعره وأحاول تناولها بطريقة مختلفة ويتيح الخرّاري مساحة للمتلقي للاقتراب من فلسفته الخاصة فيقول : قد تُقرأ هذه السلسلة على أنها تتناول طاقة الحياة في داخل الأنثى التي لا تستسلم للحجب وللأستار، أو عن جمال الأنثى بما هي أنثى والذي يبرزه الستار أكثر مما يحجبه أو عن مشاعر الخوف والحيرة والشرود إلى ما إلى ذلك من التأويلات، طبعاً هذه بعض القراءات المتاحة أمام المتلقي وجانب من جوانب التجربة ! ويضيف : على كل فنان أن يعكس رؤيته الخاصة في أي عمل ينفذه فضلاً عن التميز في إتقان عمله، ولا شك أن الأمور التي تثير الفنان وتحركه تعتبر جزءاً من رؤيته الخاصة، وفي هذا العمل أنا أعبر عن رؤيتي الخاصة تجاه موضوع العمل، هذا لا يعني أن يتقيد المتلقي بتجربتي الخاصة أثناء قراءته للعمل ، بل يمكنه أن يقرأ العمل منفصلاً عني، وهذا ما يحدث غالباً في عالم الصورة. الفن المفاهيمي ويختم الخرّاري حديثه بلمحة عن الفن المفاهيمي فيقول : هذا النوع من التصوير الفوتوغرافي والذي يندرج كما أسلفنا تحت التصوير المفاهيمي (Conceptual Photography) الذي يُعرّف على أنه حالة تحويل فكرة ما وجعلها ملموسة، أي أن الفن بهذا المفهوم يركز على ( الفكرة ) ويطرحها للمتلقي، شأنه شأن أي قضية فكرية أو اجتماعية أو إنسانية أخرى. بهذا يكون الفن ليس في غايته البحث عن الجمال أو القبح من خلال العمل الفني، كما هو في المدارس الفنية التقليدية وحتى المعاصرة. ويضيف : نجد أن المفاهيمية أخذت مساحة كبيرة في الأعمال الفنية بشكل عام والفوتوغرافية بشكل خاص. فظهرت حتى في الصور الإعلانية، ولا يتسع المجال هنا لاستعراضها والتحدث عنها. ولكننا ما دمنا تحدثنا عن المفاهيمة فحريّ بنا أن نذكر الفنان العالمي " ميشا جوردن Mish Gordin " والذي تميّز بجدارة في هذا النوع من التصوير. أطفالا نخرج للدنيا علي أبو عبدالله : نأمل أن نعيد مراجعة أنفسنا للوقوف على حقيقة الفن الطفولة – الابتسامة - البراءة – الشقاوة – الماء – الطين ، كلها تثير إحساسيس يتفرد بها الطفل.. وفي داخل كل منا طفل صغير ! هذا ما تشعر به حين تقف على تجربة الفنان والشاعر الضوئي حبيب علي صاحب أفضل تجربة في المعرض يقول : كنت أستهدف الطفل الذي لانريد له أن يكبر في دواخلنا، من خلال أجواء الطفولة المحضة وما تكتنزه من صفاء ومرح وطُهر يشي به وجوه هؤلاء الصبية ويشي به الماء والطين اللذان هما حقيقة الإنسان في صورته المجردة. ويتمنى أمنية لا تكون إلا لشاعر : "تمنيت من كل واحد منا ؛ أن يأخذ نفسا عميقا جدا يصل إلى أطراف طفولته حين وقوفه على هذه التجربة" ضحك وماء وطين يحكي شاعرنا عن تفاصيل تجربته القصصية التي اختطفتها الصدفة فيقول : هذه اللحظات كانت هي اللحظات التي عاشها هؤلاء الصبية قبل حضور الكاميرا وحين حضور الكاميرا وبعد حضورها. لم أكن حينها إلا مقتنصا تمنى أن يعبر حدود الكاميرا إلى حدود الماء والطين مع هذا الزخم الهائل من الضحكات والمرح. ويأخذنا إلى مكان قصته فيقول : أُخذت هذه اللقطة في منطقة ريفية جبلية في أندونيسيا يونيو الماضي كانت مزرعة من مزارع الأرز الذي تحتاج زراعته الكثير من الماء والطين، كنا مررنا على هذا الحقل في الصباح الباكر حين كانت تحرثه الجواميس في مشهد فاتن، أعتقد أنها كانت الفرصة الوحيدة لأن يستمتع هؤلاء الصبية في حمام الطين هذا بعد فراغ الجواميس من الحراثة قبل بدأ غرس نبتات الأرز فيه وكان من حسن حظي أننا رجعنا من الطريق ذاته عند المساء لأصادف هذه الفرصة التي كانت أكبر من أمنياتي . ويضيف : لم تكن هناك زوايا صعبة سوى عبوري الحقل الطيني الذي كلفني غسل الحذاء والبنطال لم أحتج للإقتراب كثيرا منهم فقد منحتني العدسة المقربة 70-200 2.8 فرصة جيدة وكأنني في قلب الحدث. وعن تأثير تلك التجربة القصصية الفريدة يقول الحبيب علي : قال لي أحد زوار المعرض: حين وقفتُ على تجربتك شممت رائحة الطين و خشيت على ملابسي من البلل. كان ذلك تماما غاية ما تمنيته من هذه التجربة. ويختم شاعرنا بأبيات شعر تناسب روح التجربة قد كتبها في لقطة شبيهة فينشد : وأنا فتحتُ حيال هذا المشهدِ الوسنانِ سِفر طفولتي، سافرتُ يسكنني الهوى والإفتتانْ. أتصفَّحُ الطرقات بين أزقة البلد القديمة، هاهنا اللحظات تسحرني ويسحرني المكانْ. كنا، إذا احتَدَمتْ بنزوتنا المعاركُ نمتطي السعفاتِ كلُّ جَريدة تَعبى ينزُّ بها حصانْ. نتقمّصُ الأدوارَ أطعنُ صاحبي طوراً ويطعنني فنضيعُ في صَخبِ الطِعانْ. سلسلة بموضوع واحد اللحظات الإنسانية التي تخاطب شعور المتلقي تؤثر به أيما تأتير وهذا ما أبرزه الفنان المبدع يوسف المسعود في تجربة ضوئية إنسانية مميزة حازت على تقدير وإعجاب الكثيرين وهي تصوير الطباخ الشعبي في القطيف فيبدأ حديثه بعبارة دائما يرددها : " أنا أصور ما بداخلي من شعور تجاه الموضوع " والتجربة هي عالم مختلف وصعب من حيث النضج والفكرة, كما أنها تتيح للمصور سرد قصة متسلسلة وهي بدورها تصقل وتطور مستوى الفنان، حيث تخلق نوعاً من التحدي والإصرار بين المصور وذاته لإنتاج سلسلة من الأعمال بنفس المستوى في موضوع واحد . كما أنها تُحفّز المصور للعمل بصورة جادة لإقامة معرض شخصي من خلال توحيد الموضوع والفكرة. حرارة واستمتاع ونعيش مع المسعود تفاصيل التجربة التي يعلل اختياره لموضوعها : اخترت هذه التجربة لما تحمله من معاني وقيم تتوارثه الأجيال. وقمت بتصويرها في مناطق مختلفة، كان النصيب الأكبر لمنطقة الأوجام والنصيب الآخر لمنطقة الكويكب في محافظة القطيف. وهي عبارة عن عملية طبخ الأرز بطرق تقليدية باستخدام الخشب بدلاً من الغاز، ورغم اندثار هذه العادة وهي الطبخ بالخشب، إلا أنه لا زالت هاتان المنطقتان محافظتين على هذا التراث الشعبي المتوارث، بالرغم من توفر الأدوات الحديثة للطبخ كالغاز والكهرباء والتي تكون أقل ضرراً على الطباخ من تلك الأدخنة المتصاعدة من لهيب الخشب إلا أنهم لا يزالون يصرون على هذا الموروث بتفاصيله القديمة. ويختم بلفتة فنية لا تخلو من إنسانية لطيفة فيقول : رغم كثافة البخار المتصاعد وحرارته إلا أن ما جذبني هو استمتاع هذا الرجل بعمله وانغماسه وكأنه لا وجود للحرارة والبخار الكثيف فأحببت أن يشاركني المتلقي هذا الشعور. الصورة وثيقة تراثية وبإعجاب وتقدير لم تمسّه الحضارة ولم يغيره الزمن يقول المسعود : رغم مرور السنين إلا أن هؤلاء الناس لا يزالون يمارسون هذا العادة القديمة الموروثة من آبائهم وهم بدورهم ينقلونها للأجيال القادمة، وهذا ما أحببت توضيحه من خلال هذه السلسلة التي نلاحظ فيها اختلاف الأعمار بدءًا من الشيخ الكبير ونزولاً إلى الطفل الصغير، كما أن السلسلة توضح مراحل الطبخ حتى التوزيع . كانت هذه الأعمال ومجموعة كبيرة في مناطق مختلفة من محافظة القطيف كما أسلفنا وهي نتاج للعام الفائت 1432ه، وأنا أتطلع لزيادة ثقافتي أكثر في هذه التجربة للخروج بمعرض شخصي أن شاء الله . ويختم حوارنا بخلاصة تجربته الإنسانية فيقول : في الحقيقة تعلمت أشياء كثيرة من خلال هذه التجربة البسيطة التي خضتها تعلمت الإصرار، العزيمة ، التضحية ، القيم ، المحافظة على العادات ، كل هذا قرأته في أعين الطباخين الذين كانوا يضحون بوقتهم من أجل المحافظة على موروثهم. وبكل التقدير نحن كذلك نختم حوارنا في ردهات معرض جماعة القطيف للتصوير الضوئي. والحديث يطول والتجارب ثرية تستحق أضواء وأضواء في قصائدنا القادمة بإذن الله. تجربة يوسف المسعود