كنت تعرضت في كتابي (المرأة واللغة) إلى ظاهرة ثقافية خطيرة وهي أن الحكايات النسائية تتعرض لعمليات تحريف وتشويه متى ما تم تدوينها، وذلك أن التدوين يتم على أيدي رجال رواة هم عادة من فحول الثقافة وحراس النسق، وهؤلاء عادة يتدخلون في تحوير الروايات حتى لتبدو المرأة في القصص المدونة وكأنما هي حمقاء أو مادة للسخرية والتندر حتى وإن كان الأصل في الحكاية أنها قصة نسائية تحمل بطولة مؤنثة، ولكن البطولات المؤنثة تتحول إلى مادة للسخرية والاستهزاء، ولقد رأينا في مقالة سابقة كيف أن تحايل المرأة لحماية شرفها وصيانة عفتها قد تحول عند المدونين إلى وصف ذلك الفعل بأنه من كيد النساء، وهكذا يصبح العمل البطولي الشريفي كيداً لأن الثقافة الفحولية لاتسمح للمهمشين أن يخرقوا قوانينها، وهذا مبدأ نسقي عام فكل عناصر الهيمنة تجنح إلى وصف معارضيها بالخارجين المارقين، وإن كانوا لم يفعلوا شيئاسوى الدفاع عن أنفسهم وعن حقوقهم، وهذا موضوع أصيل في سيرة النسق ودفاع النسق عن وجوده عبر تشويه أي فعل خارج عليه. ومن الأمثلة الكاشفة هنا، ماجاء في (مجمع الأمثال) في تعليقه على المثل السائر الذي يقول: ( قطعت جهيزة قول كل خطيب) شرح المثل بأنه دليل على حماقة المرأة التي تقطع خطابة الفحول، بينما القصة المحكية للمثل، وكذلك منطقة الصريح توحي بقدرات عقلية ونفسية للمرأة إذ تمكنت من إلجام الفحول وقطع كلامهم، وهذه خطيئة كبرى في حق النسق الفحولي كان جزاؤها أن جرى طرد المرأة معنويا ونفسيا لتحويل ذكائها إلى حماقة ووصفها بأبشع الأوصاف. وفي الأساطير العربية حكايات كثيرة عن الزباء، والمعنى اللغوي للزباء أنها طويلة الشعر، وقد وردت حكايات كثيرة عن شعر هذه الملكة العربية الأسطورية، وقيل إن شعرها بلغ مبلغا خيالياً في طوله حتى إنها حينما تمرد عليها حصن مارد المعروف مكانه الآن في منطقة الجوف، حينما تمرد عليها وعز على قواتها اقتحامه، راحت ومدت شعرها حول أسوار الحصن وأطاحت به، وكذلك فعلت بالأبلق أيضا، وكانوا يروون في قصصهم أن شعرها الطويل هذا كان قوة جبارة في يدها تستخدمه وقت الضرورة، وهذه قيمة سردية جميلة وخيال محلق يمنح المرأة تفوقا معنويا حيث جعل إحدى سماتها الجمالية تبلغ مبلغا أسطوريا تتغير معه مجريات التاريخ. ولكن لننظر ما جرى لهذا الشعر في روايات المدونين الفحول الذين عز عليهم أن تبلغ الأنثى مبلغا تتحدى فيه أساطين التاريخ والثقافة من الرجال، وهذا ما حول الأسطورة الجميلة إلى مادة للهزء والتندر، فقد ورد عند عدد من المؤرخين ومنهم المسعودي روايات تقول إن ذلك الشعر لم يكن شعر رأسها ولكنه شعر يعود إلى أحد مواقع جسمها التحتية، وهذه لمحة ساخرة مغرقة في سخريتها وفي استهزائها بهذه القيمة التي أبى الفحول النسقيون إلا أن يحولوها من قيمة جمالية وأسطورية إلى مادة للتندر والاستهزاء على الرغم من قولهم إنها كانت تهد به الحصون، ولكن عز عليهم أن يكون ذلك رأسا وأرادوه سفليا وحقيرا. وفي قصة الزباء عبر كثيرة في تحويل انتصارات النساء إلى هزائم، وكلما حكت الكتب عن مجد لهذه الملكة الأسطورية راحت تسلب هذا المجد بأن تحولها إلى امرأة خائنة وغدارة تخون المعاهدات وتقتل الرجال واحدا تلو واحد، وذلك كله من أجل تعميق الحدث ثم إنهائه بجعل الزباء تقع ضحية لخدعة فحولية جبارة حيث تمكن رجل حقير وبسيط من أن يحبك لها مؤامرة تاريخية وبلاغية حينما تظاهر هذا الرجل واسمه (قصير) على الزباء للثأر منها لقتلها ملوك زمانها ولا تفوتنا هنا المفارقة الدلالية بين الزباء طويلة الشعر وبين هذا القصير حيث ينتصر الرجل القصير مع بساطة شأنه على المرأة الأسطورية وشعرها الطويل وينتصر القصير على الطويل لفارق التفحيل والنسقية، ولقد احتال قصير هذا بأن أظهر لها الود والنصح حتى تمكن من كشف أسرارها والتعرف على مفاتيح حصونها وجاءها يوماً بجمال محملة بالبضائع ظاهريا وهي تخبئ الرجال في أحمالها وهذه حيلة لاقتحام القصر لمحاصرة الزباء وقتلها، وقد صار ذلك حيث وقعت الزباء في مصيدة الفحول وتم القضاء عليها تاريخيا وثقافيا لتظهر ثقافة الرجال منتصرة ومتفوقة ليس في قوة الجيوش فحسب بل أيضا بقوة الحيلة والدهاء العقلي، بانتصار القصير على الطويل، ولم يقل التاريخ إن هذا كيد وخيانة، ولكنه مر على كتب التاريخ ليكون حادثة بلاغية وأدبية تولد عنها عدد من القصائد والأمثال السائرة والطرائف الفردية حسب لغة النسق وثقافة الفحولة، ولم يرد شيء عن الشعر الأسطوري الطويل وكيف لم ينقذ صاحبته لحظة الضرورة الحاسمة. وتنتهي قصص الجمال والبهاء الأنثوي ومعها العقل والدهاء وكل عناصر السرد الأسطوري، تنتهي كلها لأن الثقافة تريد أن تعاقب امرأة تطاولت على الفحول وتملكت وتفوقت ولكن المدونين كانوا لها بالمرصاد حيث حرفوا القصة ليجعلوا أفعال النساء مادة للسخرية مهما بلغت من القوة والنجاح المادي والعقلي. ولقد أوردت في كتاب (المرأة واللغة) قصة إعلامية كبيرة صارت في فرنسا حيث تمكنت فتاة صغيرة من مقاومة بعض المجرمين الذين اختطفوها وحجزوها في شقة عالية في إحدى العمارات، ولكن الفتاة الصغيرة تمكنت من عمل حبال من الشراشف وربطتها في الشرفات حتى تمكنت من الفرار في عمل بطولي خارق وجرئ من طفلة غرة تتعود على الخشونة ولا على الخوف والخطر. ولقد صار هذا على مشهد إعلامي كبير، أن أجهزة الإعلام في فرنسا لم تحتفل بهذا التصرف البطولي، ولم يفت هذا على الباحثات حيث استخدمت هذه الحادثة للتدليل على فحولية ونسقية الخطاب الإعلامي وقد علقت إحدى الباحثات الفرنسيات قائلة لو أن الفاعل رجل أو صبي لكان لذلك صدى إعلامي واحتفالية كبيرة به، ولكنه . مر دون اكتراث لأنه عمل مؤنث. وهذا تعليق تصادق عليه وقائع الثقافة في قديمها وفي حديثها حيث يتولى النسق إدارة ردود الأفعال وتلقين المواقف بما يتفق مع شروط الثقافة النسقية، مهما كان القائل والكاتب حداثيا أو تنويريا، ولكن المضمر النسقي أقوى وأمضي، والأمثلة على ذلك تؤكد هذه المقولة وتعززها جيلا بعد جيل وثقافة بعد ثقافة. ٭ ملاحظة نسقية أبلغني الأستاذ رجاء العتيبي أنه تصفح تعليقا على الإنترنت حول مقالاتي هذه يقول كاتبه إن الغذامي أكبر من هذه الحكايات وطالبني المعلق بالعودة إلى مستوى كتاباتي المعتادة، وهذا دليل على النسقية الثقافية التي تحتقر ماهو نسوي وحكائي، ولقد قالوا من قبل عن كتاب ألف ليلة إنه لايصلح إلا للجهال والتافهين والنساء والأطفال، وقد ظل الكتاب محتقرا في الثقافة العربية إلى أن تغير الوضع بعد أن صار له شأن عالمي كوني بما أنه من أهم وأخطر القصص الكونية- انظر المرأة واللغة ص 65- وأنا لا أستحي من هذه الحكايات ولايقل شأنها عندي كما لا أستحي من الوقوف على أدب المهمشين وقضاياهم سواء بالتنظير أو بالكتابة الحرة. وأجد لمقالاتي هذه ردود فعل تأتيني كل أسبوع من أصناف عديدة من القراء حتى من باريس ولندن، ومن رجال مثلما من نساء، ولاشك أني لن أتخلى عن قضية هؤلاء ولكني أركز بالإشارة إلى مفعول النسق وكيف يخدع حراسه حتى ليصور لهم أن مثل هذه المقالات حقير وقليل الشأن ولايليق بكاتب كبير، وهذا هو صراخ الفحولة بكل خداعها أو ما أسميه بالعمي الثقافي. وشكرا للصديق رجاء العتيبي إذ لفت نظري لهذا الملحظ النسقي.