حقائق الواقع، ومحصلة التجربة التاريخية على مدى عقود من الزمن تفضحان بشكل صادم وموجع عدم قدرة النظام العربي السياسي على اجتياز عوامل التخلف، والانحطاط في بنية الأوطان، وصياغة الإنسان، وتشخيص معوقات التنمية، واستنبات الأفكار الخلاقة، وفتح حقول خصبة وثرية لإنتاج المعرفة، والوعي التنويري، والفعل الاستشرافي، والتعرف على مكامن الخلل في مسارات المحاولات المبذولة لتوطين الحداثة، والتحديث في كل المضامين، والآفاق الحياتية، والفكرية. ووضع الحلول، والأفكار، والرؤى المستقبلية لمعالجة مايثبت أنه خلل في ثراء التجربة، ونجاحها، وما أكثر الخلل، وأقسى المعوقات، وكلاهما ناتج - في الأساس - عن قصور فاضح في الثقافة السياسية، ومحدودية في الفكر القيادي الذي وصل إلى مواقع القرار، وصار مؤتمناً "وهماً" على صناعة الوعي الاجتماعي، وخلل في الفهم لوظيفة السلطة، ومعنى العقد الاجتماعي بينها وبين المواطن. ولهذا فإن المجتمعات العربية ظلت منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى تحلم بالتطور، وامتلاك المعرفة، والدخول إلى الحداثة، وتكريس عملية الإصلاح، لكنها أحلام لم تتحقق، إن لم نقل إن التخلف تحول إلى ثقافة تراكمية، والجهل سيطر بأدواته الفتاكة على كل مفاصل الحياة السياسية، والاقتصادية، والفكرية، والتعليمية، والتربوية، وربما برز سؤال الهوية، والانتماء العروبي، وانحسرت الأمنيات بأدوار فاعلة ومؤثرة في القرار، والتأثير الدوليين. بحيث أصبح العرب متفرجين لاصانعين، والأنظمة تتجه إلى تثبيت وجودها، وضمان استمراريتها في جنة الحكم، وهذا لديها غاية تبرر كل الوسائل المخيفة المنتهجة، وتحولُ بين ممارسة الحياة الديموقراطية، والتنمية الشاملة المتوازنة والمستدامة، ومشاركة الشعوب الواسعة في آلية صناعة القرار المصيري. في هذا الفكر، ومن خلال هذه الممارسة، كان الناتج الطبيعي أن يظل العرب في أوحال تخلفهم، ومستنقعات جهلهم، لأن فعل التنمية لم يوجد، ولم يكن في تفكير أصحاب القرار استهداف الإنسان كعقل، ومنتِج حضارة، وإبداع. ولإن النخب المثقفة في الوطن العربي اكتفت بالتنظير، والتواجد في المنابر لاستهلاك شعارات فضفاضة، ولم تأخذ زمام المبادرة في المواجهة مع التخلف، وصانعيه، ومنتجيه، والبارعين في تسويغه، وتبريره، وتسويقه لعقول البسطاء في الشارع العربي، وغابت مراكز البحث، والتحليل، وقراءة الواقع القاتل، واستشراف المستقبلات على ضوء المتغيرات، والمستجدات، والتحولات في مفاهيم العالم، والتي على ضوئها، وعبر مضامينها يستطيع العرب اقتحام التاريخ المعاصر، وإيجاد مكانة لهم في صناعته. فبدون القراءات العربية الواعية لأوضاع العرب، وأسباب انحسار أدوارهم، وتخلفهم، وقيام النخب بواجباتهم في التنوير، والبحث، لايمكن أن يصنع التاريخ. ستظل الأسئلة مفتوحة في انتظار تدفق الإجابات، وتكوّنها كسحب حبلى بأمطار الخصب، والنماء، تقضي على الجفاف، والتصحّر في الأرض العربية، حيث إن السؤال ظل مطروحاً منذ العام 1929، حين صرخ به الأمير شكيب أرسلان، وربما قبله كان بطرس البستاني عام 1859، حين سأل "أين كان العرب، وأين هم الآن..؟. وما زال السؤال قائماً، وبشكل ملح. ربما، نقول ربما.. أن الشارع العربي يشكّل الإجابة.. الآن.