جاءت الثورات العربية كمرحلة لافتة نعيشها الآن في المنطقة، لتفتح الباب على مصراعيه للجماعات والحركات الإسلامية، ولتنقذها ليس من الملاحقة الأمنية والتهميش والاضطهاد والتمييز فحسب، وإنما حتى من انهيارها من الداخل بسبب جمودها وضعف مشاريعها، وخفوت توهجها وقصور نظرة بعض عناصرها للديمقراطية. على أن الحديث عن حركات الإسلام السياسي يفرض نفسه في الوقت الراهن، لاسيما بعد تلك التحولات التي غيرت ملامح المشهد السياسي، ودفعت بها للظهور على الساحة بقوة، ومع ذلك فإننا لا نستطيع أن نجمع كل هذه الحركات في سلة واحدة، لتنوع رؤاها ولاختلاف تصوراتها وبرامجها، وإن كان القاسم المشترك بين اغلبها هو مرجعية الدين الإسلامي، حيث عُبر عنه في سياقات متنوعة وإن ظل هناك تفاوت وتباين بين مجتمع وآخر، فضلا عن اختلاف الغايات والأهداف، فطبيعة عمل منظمة حماس على سبيل المثال، يختلف عن ممارسة حزب النهضة في الجزائر أو الجبهة القومية الإسلامية في السودان. الجماعة توصلت إلى حل وسط اعتقاداً منها بأنه يحسم الإشكاليات بطبيعة الجماعة، وحيرتها ما بين الدور السياسي والعمل الدعوي ، لتخلص إلى أن يقوم الحزب بالدور السياسي ، في حين تتمسك الجماعة بمبادئ التنظيم ومنها الدعوة. وفي تقديري أنها معالجة ميكافيلية من أجل الوصول للسلطة بدليل وجود تناقض ما بين المرجعية والممارسة غير أن دخول هذه الحركات معترك العمل العام وتحديدا السياسي منه، جعلها تتحول لعنصر مؤثر في مكوّن النظام العربي السياسي في مرحلة من المراحل، إلا أن المقال هنا يركز على وضعية الإخوان المسلمين الراهنة، ومحاولة قراءة استجابة الجماعة للتحول السياسي. وعلى الرغم من تواجدها في الساحة منذ أكثر من ثمانين سنة، وتحديدا منذ أن تشكلت النواة للتنظيم بلقاء حسن البنا بثلة من العمال في الإسماعيلية المصرية داعيا إياهم إلى مواجهة الإنكليز، ومشددا على "الدعوة إلى الله ونصرة الدين"، إلا أنها عاشت في صراعات ومواجهات مع السلطة إلى حين حلها ومصادرة أموالها واعتقال أعضائها عام 1948. ومع ذلك بقيت في الساحة، وامتد حضورها الفكري ونفوذها ليتجاوز حدود الجغرافيا، ويصل إلى دول عربية وإسلامية، غير أن الانتقاد الموجه دائما لهذه الحركات على تنوعها هو افتقادها قدرة التعاطي مع الواقع الجديد رغم ما يحمله من دلالات وملامح وصعوبة التأقلم واستيعاب ضرورات المجتمع ومعطيات العصر. على أنه من البديهي، عندما تقبل أية حركة سياسية الاشتراك في العمل السياسي، فإنها بذلك تنتقل من مرحلة الفكر والتنظير إلى مرحلة الممارسة والتطبيق، ما يعني أنها قبلت بقواعد ومنطق اللعبة الديمقراطية، ولكن هل تنطبق هذه الرؤية على جماعة الإخوان المسلمين؟. عندما تقرا لائحة التنظيم، يذكر الباب الثاني أن "الإخوان المسلمون هيئة إسلامية جامعة تعمل لإقامة دين الله ... وبالسعي إلى تجميع المسلمين جميعا، وقيام الدولة الإسلامية التي تنفذ أحكام الإسلام وتعاليمه عمليا". هذا النص يحدد مرجعية الجماعة وأهدافها، فهل يتيح لها لعب دور سياسي، أو على سبيل المثال إنشاء حزب يضم مصريين غير مسلمين؟ الإجابة: قطعا لا، ولكنها تحظى بتأييد شعبي طاغ، إلا أن الإشكالية في تقديري تكمن في تناقض خطابها وممارستها العملية، فالمشروع والبرنامج السياسي شيء، وممارسة الفعل السياسي شيء آخر. وهو ما يدعم مقولة أن الحركات الإسلامية تعاني من ضآلة المنتج الفكري والخبرة السياسية، ما يؤكد حساسية الممارسة السياسية، حيث يقتضي الظرف والزمان أحيانا اتخاذ مواقف قد لا تتفق مع المرجعية الفكرية. ورغم بروز التنظيم منذ عقود إلا أن هناك من يرى بأن تراجعه في مصر في الثمانينيات والتسعينيات ربما يعود لأسباب داخلية تتعلق بمواجهة السلطة من جهة ، ومن جهة أخرى ظهور تنظيمات اخوانية أخرى في عدد من الدول تميزت بقدرتها على توفير الدعم والتمويل فضلا عن بروز أسماء قيادية لها حضور فكري وشرعي كالغنوشي والترابي وغيرهما. غير أن اللافت والجديد يكمن في توجه جماعة الإخوان لانشاء حزب مستقل ودعوة مجموعة من الأقباط للانخراط فيه، بعد أن ظلت هذه الفكرة بعيدة عن أجندتهم طوال العقود الماضية، وإعلانهم عن تخليهم عن شعار «الإسلام هو الحل» الذي رفعوه منذ 24 عاماً. هذا التوجه يأتي بعد مطالب قوى سياسية من أحزاب ليبرالية واشتراكية وناصرية بعد ثورة 25 يناير باستبدال الشعار. وقد برر احد القياديين ذلك القرار على اعتبار أن الرؤى الحزبية بشرية، وليست لها قداسة. وأضاف قيادي آخر، بأنهم لم يعودوا في حاجة لمثل هذا الشعار لان الحرية الآن متاحة للجميع. على أن هناك 93 قبطيا من مؤسسي الحزب، واختير المفكر القبطي رفيق حبيب نائباً لرئيس الحزب، وهو ما يتناغم مع ما يرددونه بأن حزب الحرية والعدالة "ليس حزبا دينيا، وإنما هو حزب مدني". ويبدو أن خطوة ضم أقباط للحزب وإلغاء الشعار، يمثلان انقلابا على مبادئ الجماعة نفسها بغض النظر عن التبريرات التي يسوقونها، فضلا عن إرسالها تطمينات للرأي العام، لاسيما بعد التساؤلات حول حقيقة ما قاله بعض قيادات الإخوان حول عزم الجماعة تطبيق الحدود في حال وصولهم للسلطة. وهو ما يثير حفيظة البعض حول مغزى هذه الخطوة التي تأتي بمثابة جسر يقودها للاستيلاء على السلطة ومن ثم تنفيذ برامجها، ما يجعلها تقوم بتكتيك مدروس لتحقيق أجندتها السياسية ولو جاء تحت غطاء دعوي. معظم الكتابات التي ناقشت هذه الجزئية تشير إلى أن الهدف الأساسي للجماعة كان العمل الدعوي وفق رؤية البنا، الذي لم يكن متحمسا لإقحام الإخوان في العمل السياسي لما يعلمه من محاذيره ومخاطره، وهو الذي مارس العمل السياسي وخاض الانتخابات البرلمانية مرتين. غير أن الجماعة مضت منذ ذلك الحين في الانخراط في العمل السياسي، فكانت النتيجة الاصطدام مع السلطة. ومع ذلك هناك من يقول بأن الجماعة تعاني من خلافات داخلية عميقة وانقسام أجنحة في الداخل، ولكنها لا تظهرها للعلن عملا بأدبياتها التي تنزع لإخفاء الصراع. وفي هذا السياق جاء رصد للباحث القيادي السابق ثروت الخرباوي كاشفاً للازمات التي تتحكم في مستقبل الجماعة وهي: " مشكلة التنظيم من حيث شكله ومن حيث مقره، والانفصال بين الجيل القديم والجيل الجديد، والاهتمام بالعمل السياسي على حساب العمل الدعوي، وعدم قدرة الجماعة على قراءة الواقع السياسي". ويبدو أن الجماعة توصلت إلى حل وسط اعتقادا منها بأنه يحسم الإشكاليات بطبيعة الجماعة، وحيرتها ما بين الدور السياسي ،والعمل الدعوي ، لتخلص إلى أن يقوم الحزب بالدور السياسي ، في حين تتمسك الجماعة بمبادئ التنظيم ومنها الدعوة. وفي تقديري أنها معالجة ميكافيلية من اجل الوصول للسلطة بدليل وجود تناقض ما بين المرجعية والممارسة. على أي حال، الجماعة معنية اليوم بمراجعة خططها، وإن كان بإمكانها أن تلعب دورا مفصليا في المشهد المصري متى ما توفرت لديها الرغبة في أن تتخلص من إرثها القديم ، وتقود نقلة نوعية على الصعيدين الفكري والتنظيمي ، وتفتح صفحة جديدة مع كافة القوى السياسية وأن تتصالح مع الجميع بدءا بالدستور وأن تتعامل مع الجميع استنادا لمبادئ الثورة وتنسلخ من أساليب النرجسية والوصاية مغلبة مصلحة مصر على مصالحها الضيقة!