لم تمضِ سنوات قليلة على تأسيس جماعة «الإخوان المسلمين» عام 1928 حتى دفع طموح مؤسسها، حسن البنا، في أن يكون لها امتداد في بلاد مسلمة أخرى إلى اتخاذ الخطوة الأولى في هذا الاتجاه، وهي إرسال دعاة من أعضائها إلى بعض هذه البلاد بدءاً بالأردن. كانت هذه بداية انتشار دعوة «الإخوان المسلمين»، ومن ثم تنظيمهم، في البلاد الأقرب إلى مصر جغرافياً والأوثق صلة بها ثقافياً، وهي بلاد المشرق العربي والسودان، ثم بلاد الخليج. ونظراً إلى أهمية «التأسيس الدولي» لتلك الجماعة في فهم طابعها ومنطقها والعوامل المنظمة لحركتها، يلقي كتاب «الإخوان المسلمون بين التاريخ والمستقبل: كيف كانت الجماعة وكيف تكون؟» للدكتور وحيد عبدالمجيد (عن «مركز الأهرام للنشر والترجمة والتوزيع» في القاهرة)، ضوءاً على بداية تجاوز الجماعة حدود مصر، ويناقش قضية تدويلها انطلاقاً من افتراض أن انتشارها في العالم لم يحدث أثراً كبيراً في اتجاه تنظيماتها في البلاد المختلفة نحو الداخل، بما يعنيه ذلك من أن ما يجمع هذه التنظيمات على امتداد العالم العربي خصوصاً والعالم في مجمله عموماً هو أقل بكثير مما يفصل بينها. فالجامع الرئيس في حركة «الإخوان»، هو فكرة عامة وانتماء فضفاض وشعور بالتضامن والتساند وحلم في رفع الراية المشتركة في سماء بلاد الأمة على امتدادها. أما الفاصل الأساسي بين تنظيمات «الإخوان» فهو السياسة بمتغيراتها وتحولاتها وتقلباتها، والمؤثرات الداخلية التي تختلف من بلد إلى آخر، والقضايا التي يتعين التعامل معها على تنوعها وتباينها من حالة إلى غيرها. لذلك لم يحدث في أي وقت أن كانت هناك سياسة عامة ومواقف مشتركة لتنظيمات «الإخوان»، ناهيك عن أن تكون موحدة، تجاه القضايا المختلفة، ربما باستثناء الموقف العام تجاه قضية فلسطين على سبيل الحصر. وهذا استثناء لا يعول عليه، لأن المشتركات فيه جمعت الكثير من القوى والتيارات السياسية والفكرية، وليس فقط تنظيمات «الإخوان». غير أن التباين بين تنظيمات «الإخوان» لم يقف عند غياب المشتركات السياسية. فقد أدى الاختلاف في بعض الحالات إلى تناقض في الاتجاهات، وإلى صدام في المواقف، وصولاً إلى اتهامات متبادلة على نحو يثير التساؤل عن مغزى، وربما جدوى، المشتركات العامة بينها، وعن سلامة الاعتقاد في أن عبارة «الإخوان المسلمين» ما زالت تحمل معنى وجود حركة واحدة حتى بأكبر قدر من العمومية. ويثير ذلك قضية أبعد من التنظيم الدولي ل «الإخوان المسلمين» الذي أنشئ رسمياً في تموز (يوليو) 1982، وإن سبقته أطر أخرى مثل (المكتب التنفيذي للإخوان في الدول العربية). ولا يمكن فهم حرص التنظيم الدولي على الابتعاد عن القضايا الأكثر إثارة للخلاف بين أعضائه من دون الإلمام بتجربة «المكتب التنفيذي للإخوان في الدول العربية» في ستينات القرن الماضي، والذي لم يستمر سوى لأقل من عقد من الزمن. وتفيد الروايات المتوافرة عن تلك التجربة أنها شهدت خلافاً بين تنظيمات «الإخوان» حول دور المكتب التنفيذي، وهل هو إطار قيادي يتخذ قرارات ملزمة، أم إطار للتنسيق والتعاون في ما يتم الاتفاق عليه فقط. ولم يتغير هذا الوضع كثيراً بعد ذلك على رغم تطورات كثيرة حدثت في حركة «الإخوان» في عدد متزايد من البلاد العربية وفي الظروف التي يعملون فيها. لذلك لم يحاول التنظيم الدولي القيام بدور فاعل في العلاقة بين أعضائه إلا في حدود ما يتيسر له. كما لم يتطلع إلى أن تكون له سلطة على تنظيمات «الإخوان» التي تنضوي تحت رايته. وظل النمط العام للممارسة في هذا التنظيم الدولي هو الاستماع إلى تقارير عن أوضاع التنظيمات القطرية وتوجيه النصح إلى تنظيم أو آخر، وتقديم مساعدات لتنظيمات أقل قدرة من غيرها. واستندت هذه الممارسة إلى حرص على تماسك التنظيم الدولي وحذر من أن تؤدي محاولة إلزام هذا التنظيم القطري أو ذاك موقفاً معيناً أو سياسة محددة إلى تمرده أو تفاقم خلافات في داخله. غير أن العامل الأهم وراء اقتصار دور التنظيم العالمي على المتابعة العامة هو غياب منهج شامل ورؤية كلية سواء سياسية أو فقهية تتجاوز الشعارات العامة. حزب الإخوان ليس غريباً أن أول مشروع طرحه «الإخوان المسلمون» عام 2007 لبرنامج حزبهم، الذي لم يقرروا تأسيسه بعد، أثار جدلاً واسعاً. كان هذا هو أول برنامج يقدمه «الإخوان» منذ عام 1953، عندما بدأوا في إعداد برنامج مقتضب لم يسعفهم الوقت ولا أتاحت الظروف فرصة استكماله بسبب التدهور السريع الذي حدث في علاقاتهم مع ثورة 1952 وصولاً إلى اتهامهم بمحاولة اغتيال جمال عبدالناصر وشن حملة أمنية واسعة ضدهم. لذلك، كان هناك شوق عارم إلى معرفة رؤية «الإخوان» للحاضر والمستقبل في صورة متكاملة وليس عبر الشذرات التي كانت تتناثر هنا وهناك، وفي وثيقة واحدة وليس في تصريحات وبيانات لم تخل من تعارض بينها في بعض الأحيان، وفي شكل واضح بمنأى عن الغموض الذي ظل يكتنف توجهاتهم تجاه بعض القضايا لفترة طويلة. وفضلاً عن الاهتمام الواسع بالمشروع، شهد الجدل الذي أثاره انتقادات حادة لبعض ما جاء فيه، وهجوماً شديداً تجاوزه إلى الطعن في أهداف الجماعة ونياتها. ولكن على رغم أن بعض ما ورد في مشروع البرنامج بدا صادماً بالفعل حتى بالنسبة إلى بعض من حاولوا على مدى سنوات طويلة فهم منهج جماعة «الإخوان» وتفهمه وحرصوا على التواصل معها وشاركوا بعض قادتها وكوادرها في نشاطات مشتركة، تقتضي الموضوعية تسجيل ملاحظتين أوليتين قبل مناقشة المشروع وتحليل الخطاب الذي ينطوي عليه وتحديد أوجه القصور الأساسية فيه. الملاحظة الأولى أن ما طرحه «الإخوان» كان مشروعاً مقترحاً لبرنامج وليس برنامجاً نهائياً. أما الملاحظة الثانية فهي أن إقدام «الإخوان» على إعلان برنامجهم كان خطوة إيجابية، بصرف النظر عن أي اختلاف أو اتفاق. فأن تكون أفكار «الإخوان» على المائدة لهو أفضل من أن تُخفى تحتها أو بعيداً منها. وأن تكون هذه الأفكار مطروحة في شكل واضح لهو خير من أن يحجبها الضباب. وفي ضوء ذلك، يناقش وحيد عبدالمجيد في الكتاب الذي يأتي صدوره عشية الانتخابات البرلمانية المصرية المقرر إجراؤها أواخر الشهر المقبل، القضيتين الأكثر إثارة للجدل وللغضب أيضاً في معظم ردود الفعل على مشروع برنامج «الإخوان» لعام 2007، وهما طبيعة الدولة وعلاقتها بالدين، وموقع الأقباط والنساء فيها. وهما بالفعل قضيتان حاكمتان يتوقف عليهما مدى استعداد «الإخوان» للاندماج في نظام سياسي ديموقراطي يتطلع إليه الكثير من النخب السياسية والثقافية والإعلامية في مصر، والتوافق مع الأحزاب والقوى الأخرى على مقومات أساسية لهذا النظام الذي يعتبرونه هم هدفاً أساسياً، بل وضعوه في صدارة الفصل الثاني من الباب الأول في مشروع البرنامج وهو «الأهداف»، وبصيغة يمكن أن تمثل قاسماً مشتركاً بين مختلف دعاة التحول الديموقراطي وهى: (تحقيق الإصلاح السياسي والدستوري وإطلاق الحريات العامة وإقرار مبدأ تداول السلطة طبقاً للدستور الذي يقره الشعب بحرية وشفافية واعتبار الأمة مصدر السلطات... الخ). المرجعية الدينية استثنى مشروع برنامج حزب «الإخوان المسلمين» رئاسة الدولة في النظام الرئاسي ورئاسة الحكومة في النظام البرلماني من مبدأين عامين أقرهما وأكدهما، وهما مبدأ المواطنة، ومبدأ المساواة وتكافؤ الفرص. واتسم المشروع بالحسم القاطع في تعبيره عن هذا الاستبعاد، وبمثله في تأكيد مبدأي المواطنة، والمساواة. فقد وضع كلاً من القاعدة، والاستثناء منها، بالمقدار نفسه من القوة والصرامة على نحو يوحي بازدواج منهجي، فكأنك أمام ذهنيتين يؤمن كل منهما بفكرة تعارض الأخرى أشد التعارض. هذا المشروع، استثنى الأقباط والنساء من أحد أهم حقوق المواطنة. ويعود هذا الاستثناء، الذي لا يتسق مع الإيمان بالمواطنة والمساواة، إلى عجز «الإخوان» عن التحرر من أسر فكرة الوظائف الدينية للدولة بصورتها التقليدية القديمة قابعة في «العقل الإخواني». فالاستثناء القبطي، هنا، مرده إلى أن للدولة وظائف دينية يفهمها «العقل الإخواني» على النحو الذي كانت عليه قبل أن يعرف البشر مبادئ مثل المواطنة والمساواة وتكافؤ الفرص. والمشكلة، هنا، ليست في أن تكون للدولة وظائف دينية من عدمه، وإنما في تكييف هذه الوظائف وطريقة أدائها. فمن الطبيعي أن يكون لجماعة «الإخوان المسلمين» ما يميزها من الاتجاهات والقوى السياسية والفكرية الأخرى التي ترى أن الدولة لا تقوم بوظيفة دينية في شكل مباشر، وإنما ترعى الأديان وتُمكن المؤسسات الدينية من أداء وظائفها على أساس من الحرية والمساواة. ولكن إذا كانت الدولة في عالم اليوم تختلف عما كانت عليه في مراحل سابقة، فمن الطبيعي أيضاً أن ينسحب ذلك على وظائفها عامة وعلى أدائها لهذه الوظائف، بما في ذلك ما هو ديني منها بالنسبة لمن يؤمن بأن للدولة وظيفة أو وظائف دينية. غير أن غياب هذا المعنى عن «العقل الإخواني» أدى إلى استثناء ينطوي على تناقض في بنية مشروع البرنامج. فلما كانت للدولة وظائف دينية، من بينها وظيفة جهادية ينظر إليها «العقل الإخوانى» كما لو أنها محصورة في شؤون الحرب والقتال، على النحو الذي كانت عليه من قبل، فلا يمكن أن يُعهد بها إلى غير مسلم وفق ما ورد في البرنامج. كما استثنى مشروع البرنامج النساء أيضاً من رئاسة الدولة. ولذلك فهو ينطوي، هنا، على تناقض في بنيته مماثل لذلك الذي يظهر في موقفه تجاه الأقباط، وبالمخالفة أيضاً لما نص عليه صراحة من رفض الإقصاء والاستبعاد. يذهب وحيد عبدالمجيد إلى أنه إذا أردنا تشخيصاً موضوعياً لمشكلة «الإخوان» الأهم والأكبر في اللحظة الراهنة، انطلاقاً مما ورد في مشروع برنامجهم، فعلينا أن نبحث عنها في المنهج، وبالتالي في الفكر. فأزمة «الإخوان» الأهم هي في عجز فكرهم السياسي وعدم قدرته على أن يسعفهم بما يعبر عن رغبتهم في التطور. فالمشكلة ليست في أنهم يضمرون غير ما يعلنون بخلاف ما يعتقده من يظنون فيهم الظنون. المشكلة هي في أزمة العقل الأصولي السُنّي حين يتصدى لمسألة الدولة والنظام السياسي من دون أن يمتلك الأدوات اللازمة للتوفيق الخلّاق بين ما لا يستطيع أن يتجاهله وما لا يقدر على تجاوزه. فلا هو قادر على تجاهل ضرورات السياسة العصرية وأسسها الديموقراطية، ولا في إمكانه أن يتجاوز موروثات دولة (أو بالأحرى دول ودويلات وإمارات) الخلافة في مرحلة ما قبل الديموقراطية. ويجوز أن نلخص جوهر أزمة «الإخوان» على هذا النحو، وبقدر من الاختزال، في العجز عن بلورة صيغة توفّق (ولا تلفّق) بين سيادة الأمة التي تقوم عليها أي دولة حديثة، وسيادة الشريعة بالمعنى الموروث الذي أصابه الجمود لفترة طويلة بسبب غياب الاجتهاد. هم مرتبكون بين مبدأ الحكم للشعب ومبدأ الحاكمية لله. يتقدمون خطوة إلى الأمام ويعودون أخرى إلى الوراء، لأسباب أهمها عدم القدرة على الارتقاء إلى المستوى الذي تتطلبه مواجهة معضلة كبرى على هذا النحو. فقد تعاملت جماعة «الإخوان» معها - يضيف عبدالمجيد - بطريقة أقرب إلى التلفيق منها إلى التوفيق الخلّاق الذي ينتج عنه مركب جديد يجمع بين مبدأي الحكم للشعب والحاكمية لله، ولكن انطلاقاً من أن السيادة النهائية هي للأمة صاحبة الحق في اختيار حكامها ومساءلتهم ومحاسبتهم وانتخاب من ينوبون عنها ويستمدون سلطتهم منها وليس من أي هيئة أو جهة غيرها. ولا مخرج من هذا المأزق الكبير إلا إعطاء أولوية قصوى لبلورة رؤية للعلاقة بين الدولة والدين تقوم على توفيق خلّاق بين سيادة الأمة وسيادة الشريعة. فما يجعل النظام السياسي ديموقراطياً من عدمه ليس التفاصيل الكثيرة التي حواها المشروع، وإنما المبادئ التي يقوم عليها وفي مقدمها مبدأ سيادة الأمة. فهذا المبدأ هو الذي يجعل السلطة النهائية هي للهيئات المنتخبة من كل أصحاب حق الاقتراع، وليس فقط من بضع عشرات أو مئات من علماء الدين. العقدة الديموقراطية وبحسب ما ورد في الكتاب فإن المسألة الديموقراطية كانت عقدة أساسية بالنسبة إلى تيار «الإخوان المسلمين» منذ تأسيس تنظيمه الأم في مصر، وما زالت هذه العقدة مستمرة، وما برح مصدرها الرئيسي، الذي يعود إلى قضية المرجعية، عصياً على التفكيك. فالإصرار على مرجعية أحادية للنظام السياسي لا ينسجم مع أحد أهم مقومات الديموقراطية التعددية التنافسية المفتوحة. فأحد الفروق الأساسية بين النظام الديموقراطي والنظام الشمولي هو أن الأول متحرر من المرجعيات إلا ما يتوافق عليه المجتمع بحرية كاملة من مبادئ دستورية عبر حوار وطني عام يقود إلى صيغة يقبلها جميع الأطراف والفئات السياسية والاجتماعية. وهذا هو جوهر المعضلة التي تواجه «الإخوان المسلمين» وغيرها من تيارات الإسلام السياسي حين يحدث تقدم في موقفها تجاه المسألة الديموقراطية. وقد حدث هذا التقدم فعلاً. فالنظام السياسي عند «الإخوان المسلمين» هو نظام ديموقراطي بالمعنى الإجرائي الذي يفهمه كل من يؤمن بالديموقراطية. نظام يقوم على أن الشعب هو مصدر السلطات، الأمر الذي يجيب في شكل واضح على سؤال طالما أربك حركات أصولية طورت خطابها السياسي باتجاه قبول الديموقراطية ولكن بصورة غامضة وهو: أين، إذاً، موضع مفهوم «الحاكمية لله» في هذا الإطار؟ فالخطاب السياسى لجماعة «الإخوان المسلمين» يقول إن المواطنة، وليس الدين، هي أساس العلاقة بين النظام السياسي والشعب، وإنها تؤيد التداول السلمي للسلطة بما يعني ضمنياً أنها لن تحتكر الحكم إذا فازت في الانتخابات، على رغم أن الكثير من الأحزاب والتيارات الأخرى لديها شك عميق في ذلك. فالسيناريو الذي أُطلق عليه في تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2004 «فخ الانتخابات لمرة واحدة» يخلق خوفاً من وصول حركة إسلامية إلى السلطة في انتخابات حرة، فتنفرد بالحكم. وعندئذ تصبح هذه الانتخابات هي الأولى والأخيرة. فالتقدم الذي حدث في موقف «الإخوان المسلمين» وتيارات إسلامية أخرى باتجاه المسألة الديموقراطية يظل محصوراً في الجوانب الإجرائية في النظام السياسي، وبمنأى عن الأساس الذي يقوم عليه. فالقول بأن هذا النظام ديموقراطي بمرجعية إسلامية ينطوي على تناقض في بنيته. والمعضلة، هنا، هي أنه لا توجد دلالة محددة وواضحة لمفهوم المرجعية في الفكر السنّي. ورأينا المرجعية الشيعية في التطبيق سلطة دينية عليا تمتلك الحق في مراجعة كل ما يقوم به غيرها بينما لا تُسأل هي أو تُراجع. فليست هناك صيغة أخرى معروفة للمرجعية التي يقول بعض «الإخوان» إنها لا تعني سلطة دينية. وليس لديهم اجتهاد محدد يوضح كيفية تجسيد هذه المرجعية بطريقة لا تجعلها سلطة دينية متعالية تراجع كل ما يصدر عن المؤسسات الدستورية في الدولة والمجتمع لتجيزه أو تهدره. والحال أن مجرد وجود هيئة ما فوق المؤسسات الدستورية يؤدي إلى دولة دينية حتى إذا كان نظامها السياسي مكتمل الأركان من الناحية الإجرائية، وحتى إذا لم يكن أعضاء هذه الهيئة من رجال الدين. فحكم هؤلاء ليس شرطاً للدولة الدينية لأن العبرة بدورهم والصلاحيات المخولة لهم وطبيعة سلطتهم. فالعبرة ليست بمن يحكم، بل بكيف يحكم. وإلى أن يتمكن «الإخوان المسلمون» من حل هذه العقدة المحورية، ستظل مواقفهم تجاه المسألة الديموقراطية متعثرة على رغم حرص قيادتهم على اتخاذ خطوات إلى الأمام في شأنها منذ منتصف العقد الأخير في القرن الماضي عندما أصدروا الوثيقة المعنونة (موجز عن الشورى في الإسلام وتعدد الأحزاب في المجتمع المسلم عام 1994). كانت هذه خطوة مهمة إلى الأمام في موقف «الإخوان» تجاه المسألة الديموقراطية. ولكنها لم تكن مكتملة أو قل إنها تعثرت في عقدة المرجعية. وأدى ذلك إلى إضعاف مفعول التقدم الذي عبرت عنه الوثيقة تجاه تأكيد القبول بالتعدد الحزبي وتداول السلطة عبر انتخابات دورية. ويعنى ذلك أن هناك مرجعية عليا لا بد من أن تلتزم بها الأحزاب والجماعات السياسية كلها، وليست جماعة «الإخوان» فقط، ويتعرض من يخرج عليها «للإجراء الشرعي»، بحيث لا يبقى في الساحة السياسية غير أحزاب تنتمي إلى مرجعية واحدة هي التي تؤطر التعددية. وهذا نزوع احتكاري يتعارض مع التقاليد الديموقراطية، التي تجعل تحديد المقومات الأساسية للعملية السياسية رهناً باتفاق مختلف الأحزاب والتيارات وتفاهمها، بحيث تكون هذه المقومات حصيلة القواسم المشتركة بينها. وعندئذ يتحقق التراضي العام، الذي لا يمكن الوصول إليه إلا عبر حوار جدي يشارك فيه الجميع، ويلتزمون بنتائجه التي تمثل مقومات العملية السياسية. العلاقة مع الآخر لم يستطع «الإخوان المسلمون» تبديد المخاوف من مشروعهم السياسي أو الحد منها، لأنها مخاوف حقيقية وليست فقط من صنع الذين استخدموا الأصولية الإسلامية «فزاعة» من أجل أهداف يتوخونها. وإذا كان الأقباط في مقدم الخائفين، فهم ليسوا وحدهم. فميلاد حنا ليس قبطياً فحسب، حين نطق فزعاً يوم حصول «الإخوان» على 88 مقعداً في مجلس الشعب في الانتخابات البرلمانية عام 2005، وقال إنه في اليوم الذي يحصل «الإخوان المسلمون» على الغالبية سيغادر الأقباط الأغنياء مصر ليبقى فقراؤهم فقط، وقد يغير بعضهم دينه، وتمنى أن يموت قبل أن يأتي هذا اليوم. قائل هذا الكلام هو مثقف علماني اتجاهاً ورؤية مثلما هو مسيحي ديناً، ويشاركه خوفه علمانيون ليبراليون ويساريون وناصريون يدينون بالإسلام في أشكال مختلفة ودرجات متباينة. ولكنه، وهؤلاء جميعهم، يخافون على مصر كلها. الخوف يشمل قطاعاً يعتد به من النساء، خصوصاً الأجيال الجديدة. ومن الخائفات كثيرات يرتدين الحجاب. لكنهن يفعلن ذلك بإرادتهن، وما خوفهن إلا من التدخل في حياتهن ووضع رقباء عليهن. فالذين يدعون النساء الآن إلى ارتداء الحجاب بالحسنى قد يفعلون ذلك بالإكراه عندما يمتلكون القوة. ومن الطبيعي أن يكون المثقفون في صدارة الخائفين على المقدار المتاح الآن من حرية التفكير والتعبير والإبداع، خصوصاً أن تجربتهم مع بعض نواب «الإخوان» في البرلمان مريرة. فقد مارس بعضهم رقابة على العقل والإبداع أكثر مما راقبوا السلطة التنفيذية وأجهزتها. ويعني ذلك أن مساحة الخوف من احتمال صعود «الإخوان» أوسع مما يتصورونه. وتشمل هذه المساحة أحزاباً وتيارات سياسية أخرى يوفر التباس مواقف «الإخوان المسلمين» تجاه المسألة الديموقراطية فرصة لقادة بعضها الذين لا يريدون التعاون معهم لأسباب تتعلق بحساباتهم ومصالحهم في المقام الأول. كما تدفع آخرين يخافون فعلاً هذا الالتباس وآثاره المستقبلية إلى المحافظة على مسافة بمنأى عنهم. ولعل هذا يفسر لماذا أصبح متعذراً الآن ما كان ممكناً، بل بدا طبيعياً، حتى سنوات قليلة مضت حين كان «الإخوان المسلمون» طرفاً أساسياً في مختلف أشكال التنسيق والتعاون بين أحزاب وقوى المعارضة في مصر.