د. سعد الدين مسعد هلالي أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر , أحد الفقهاء المعروفين الذين اشتهر عنهم التيسير على الناس في أمور دينهم ودنياهم فهو ممن يرفضون التمذهب في الفتوى ويؤمنون بالتعددية الفقهية وأن الفقيه ليس نبيا معصوما ينزل عليه الوحي من السماء ولكنه بشر يستنبط الأحكام الفقهية من فهمه للنصوص الشرعية , ومن حق الناس أن يوضح لهم كافة الآراء الفقهية عند طلب الفتوى ولهم حق اختيار الأيسر لهم . ويرى هلالي أن الفتوى صناعة بشرية وليست دينية أو إلهية , وأن النصوص الشرعية حمالة أوجه , وأن الإسلام لا يعرف رجل الدين ولا الدولة الدينية , ويرفض منهج من يحاول تطبيق القرآن الكريم بنصه الحرفي ويلقب هؤلاء ب "الظاهريين الجدد" الذين يزفون وعي عوام المسلمين بغير حق وغير ذلك من القضايا التي ترصدها معه "الرسالة" في سياق الحوار التالي:
أنت من المتبعين لمدرسة التعددية الفقهية وعدم اقتصار الفتوى على رأي واحد فما رأيك بمن يفعل العكس؟ قمت بتأليف عدة كتب بعد درجة الأستاذية لخدمة المكتبة الإسلامية وهي ما أحمد ربي عليه فهي لم تكن للترقية ولا حصولي على أي مقابل مادي، وإنما كتبتها بعد دراستي في الفقه المقارن وإحساسي بالواجب الديني الذي يجب أن يكون في بيان سعة الشريعة الإسلامية حيث كنت أرى وما زلت الذين يتولون الإفتاء في الفضائيات والصحافة يقصرون الحكم الشرعي على رأى واحد، وأعجب، فعندما أقرأ في كتب الفقه أجد لكل مسألة رأيين وقد تزيد إلى خمسة وستة والاقتصار على رأي واحد فيه تضييق على المسلمين. البصمة الوراثية لك كتاب هام وخطير عن البصمة الوراثية فهل ترى أن المستقبل ينتظر منها الكثير؟ هذا صحيح بالفعل وفي كتابي «البصمة الوراثية وعلائقها الشرعية» كتبت الآثار الفقهية المترتبة على اكتشاف البصمة الوراثية «dna» لأنه اتضح أنها ماكينة العلم في معرفة الإنسان وآبائه وأجداده وأحفاده وأخوته، فنحن في الفقه الإسلامي ندرس النسب عن طريق الفراش أو شهادة الشهود، أو عن طريق الإقرار وكم من إقرار خاطئ وكم من شهادة الشهود بغير حق، لكن البصمة الوراثية لا تكذب، ويمكن أن نأخذ بالبصمة الوراثية كدليل للنسب أو نفي النسب، خاصة وأن المستقبل سيأتي بحيث سيعرف الإنسان من أبوه ومن أمه الحقيقية بتبسط الأجهزة مثل جهاز تحليل السكر والضغط الذي توافر في بيوتنا، وسيأتي الزمن القريب وأعده لن يزيد عن عقدين وسيعرف كل واحد من البشر من هو الأب والأم وفي هذه الحالة سيحدث نزاعات قانونية كبيرة. بعض فتاوى العلماء تقول بإمكانية اتخاذ تحليل ال «»dna بدل اللعان في قضايا النسب فما رأيك في ذلك؟ هذه واحدة من ضمن مخرجات» dna» فبالفعل يمكن الاستغناء بال dna عن شهادة اللعان لأن شهادة اللعان كما وردت في الآية كان فيها إعجازا «والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم .....» وجه التعجب ووجه الإعجاز في قوله تعالى ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم كان في مكنة الله سبحانه صاحب الكتاب أن يقول والذين يرمون أزواجهم فشهادة احدهم أربعة شهادات بالله ولكنه قال ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم كأن الله يقول في المستقبل إذا عرفتم دليل آخر والرجل يريد أن يحلف فأمنعوه من الحلف، والفقهاء مازالوا يختلفون حول هذه القضية. هناك كثير من التيارات التي تدعو إلى الأحادية في الفتوى والتمذهب بمذهب واحد ومن لم يقبل كلامي فهو ضد الله .. فكيف نتعامل مع هذه الظاهرة؟ كان هذا الأمر يحدث قديما وقت وجود الأئمة والمذاهب الفقهية وكان مرضياً عن ذلك في المجتمعات الإسلامية ولم يتم الاختلاف عليها في هذا الوقت، وعندما ظهرت الدولة المدنية كان بدايتها في الدولة العثمانية عندما جمعت فيما يعرف بمجلة الأحكام العدلية أول تقنين للشريعة الإسلامية في كتاب يسلم للقضاة والمسائل غير الواردة في المجلة يحكم بها القاضي مما تعلمه ويجتهد وتطورت هذه المجلة بعد ذلك بعد ظهور الدستور وظهور القوانين، ولا يزال المجتمع الإنساني غير كامل القوانين لأنه في كل يوم يظهر قانون جديد حتى يقللوا من السلطة التقديرية للقاضي، فأصبح القاضي ليس له سلطة مطلقة وإنما هي مقيدة وفي المستقبل سيكون القاضي مطبقا للقوانين ليس أكثر وستقل القدرة الإبداعية عنده لوجود التقنين وهذا التقنين مضيق للسلطة التقديرية للقاضي، فالفتوى القديمة التي تلزم الالتزام بالمذهب هي صحيحة ولكن في وقت عدم التقنين، ولما ظهر التقنين صار هو الوجه المختار في الأقوال الفقهية لأن القانون لا يأخذ بكل الأقوال الفقهية، والأصل هو حل المشاكل بالفتوى وإذا لم تأتِ الفتوى بنتيجة فندخل في المرحلة الثانية وهي القضاء ليفصل فيها بالقانون المنظم والفتوى مبنية على التعددية حتى تختار ما تريد ومن حقك كمسلم التردد على أكثر من فقيه لسؤاله ذلك لأن الفتوى صناعة بشرية وليست الفتوى صناعة إلهية أو دينية. وظيفة الفقيه ما الرسالة التي توجهها لمن يؤيدون استخدام الرأي الواحد فقط وهم كثر في هذه الأيام ومنتشرون على القنوات الفضائية ولا يقبلون بالرأي الأخر بل ويظلمون كثيرا من الأئمة مثل ابن القيم وابن تيمية؟ ابن تيمية وابن القيم انفردا بآراء كثيرة ولكنهما كانا يحترمان القول الآخر فأتمنى على من يتبعهما أن يتحلوا بأخلاقهما وصفاتهما فقد كانت لديهما القدرة الإبداعية على الانفراد بأقوال فقهية لهم ومع ذلك يحترمان القول المخالف، ومن انفرادات ابن تيمية أنه قال من استخدم صيغة الطلاق لإلزام الزوجة أو أي شخص آخر بفعل معين فهو ليس طلاقًا وإنما هو يمين كقوله «والله» فإن خاف المخاطب فعلى الحالف كفارة يمين، وهذا اجتهاد انفرد به، وبالمناسبة هذا الاجتهاد أنكره عليه الذين عاصروه واتهموه بضعف الدين وتخريب الفقه، واليوم أكثر لجان الفتوى تفتي بهذا الرأي وعندما انفرد ابن تيمية بهذا الرأي لم ينكر على الآخرين أنهم يقرون بأنه يمين طلاق بل قال» لكم اجتهادكم ولي اجتهادي»، فهؤلاء هم السلف الصالح وكذلك الأمر في الفقهاء فكل فقيه يقول إن وظيفته هي البيان وليس وظيفته إلزام الناس بما يقول فصانع الفتوى هو الوحيد شرعا المسؤول بتطبيقها لا يجوز للمفتى أن يخالف فتواه، والإمام أحمد جاء له أحد الناس وقال له يا إمام قلت لزوجتي كذا قال هي طالق قال ولكني سمعت تلميذك فلان يقول إنها ليست طالق قال اذهب فاستمع له وخذ منه ولم يعترض على ذلك، والإمام أحمد معروف أنه إمام السلفيين فكان يقتنع بالرأي والرأي الآخر، والتمسك بالرأي الواحد يحول المفتي من كونه فقيها وعالما إلى كونه موجها وصاحب غرض يحشد ويجند الناس من أجله، فالفقيه مبين قال تعالى» فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر» والأمر الآخر من المعاصرين اليوم لا يوجد فقيه إلا في المسائل المستجدة أما في المسائل القديمة فكلنا ناقلون للعلم، وأطالب الذي ينقل الرأي أن يتقى الله في نقل الرأي الآخر لأنه لو نقل رأيا وترك الرأي الآخر فإنني اتهمه بأنه يكتم العلم والحديث الذي رواه أحمد «من علم علما فكتمه ألجمه الله بلجام من نار» ، فكتب العلم تريح الناس والتعددية الفقهية تريح الناس وتفك التعارض في المجتمع لأن الناس عددها في زيادة ومتفاوتة في أخلاقها أي في طباعها منهم العصبي والهادي فهل يعقل دين واحد بوجه واحد يحكم كل الطبائع ومن زاوية واحدة في هذه الحالة يكون دينا جائرا لأنه سيرضي بشر دون بشر، لكن لما كان الدين متعدد الأوجه فيكون دينا رحيما «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين» أي يرضي كل الطبائع البشرية، وإن العلاقة بين الناس وبعضها علاقة شريعة لا علاقة عقيدة وليس من حق الفقيه مخاطبة المسلمين في عقيدتهم ولكن يجب أن يخاطبهم بظاهر إسلامهم. تجديد مرفوض خلال الفترة الأخيرة وجدنا من ينادي بتجديد على أصول الفقه فهل يجوز بالفعل تجديد علم الأصول أم مستخرجاته؟ علم أصول الفقه هو علم استنباط مثله مثل علم القراءة والكتابة والنحو والصرف فكيف يجدد علم أصول الفقه وهو علم استنباطي، والمشكلة ليست في علم أصول الفقه وإنما في تطبيق علم أصول الفقه، فالفقيه يخطئ في فقه لعدم تطبيقه لعلم أصول الفقه وفي كتابي «المهارة الأصولية» اكتشفت أمراً في غاية الخطورة محور غير عادي في الحكم الشرعي تعريفة خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين على الرضا أو التخيير أو المتعلق بالأعم على جهة الوضع وهذا يدرس في أصول علم الفقه وهذا عند الأصوليين، أما عند الفقهاء فهو اثر خطاب الله والتعريف هو بعد زيادة كلمة اثر فالحكم عند الأصوليين خطاب الله كقوله وأقيموا الصلاة فهذا حكم شرعي أما عند الفقهاء فهو اثر هذا الحكم أي فهمه واستنباطه من الفقهاء أي البشر فالفقهاء قالوا إن أقيموا الصلاة وجوبا وقوله «إذا تداينتم بدين فاكتبوه» اكتبوه للندب والاستحباب مع أن الاثنين أمر الله تعالى إذن الأمر في الاستنباط متعلق بالبشر في ظل آليات محددة، فما يقوله الله تعالى ويترجمه الفقهاء هو حكم شرعي وما يقوله الفقهاء هو حكم فقهي منتسب للشرع حتى يمكن التمييز بين الحكم الشرعي والحكم الفقهي فأي استنباط من الفقيه يكون استنباطا شخصيا من ملكات الفقيه وليس وحيا من السماء، والحكم الفقهي متعدد بتعدد الفقهاء وهو غير معصوم وقابل للأخذ والرد والتغيير أما الحكم الشرعي فهو واحد لأنه خطاب من الله تعالى ومعصوم وثابت. الظاهريون الجدد ماذا تقول في الذين يعملون بالحرفية والنص ويستخدمون التفسير النصي للحكم الشرعي والنص القرآني؟ هؤلاء هم من يمكن أن نلقبهم ب»الظاهريين الجدد» في الوقت الحالي هم أخذوا من الظاهرية الاكتفاء بحرفية النص واحترام النص واجب على كل من يدين بقدسية النص، ولكن مع النص يعمل العقل فالنص الواحد يمكن أن نأتي منه بمعاني مختلفة والنص هو المنطوق والمنطوق هو ما دل عليه اللفظ في ظاهر النطق، إذن هو ما استنبط من اللفظ أي أنه في النهاية إعمال للعقل، وأنا أتحدى أن أي إنسان يقول أنه ظاهري عليه أن يعود إلى الإمام ابن حزم نفسه والذي كان في أكثر أحكامه يبرز منزلة العقل، لعبة المنطوق والظاهر يراد بها اليوم استمالة إنصاف المتعلمين واستمالة عوام الناس، وأطالب هؤلاء العلماء أن يبرزوا معنى ما دل عليه اللفظ دلالة استنباطية ليست نصية. دين متجدد هناك من يحاول العبث بالتراث الفقهي وإلقاءه في البحر تحت دعوى التجديد وأن الأمة في حاجة إلى فقه جديد يواكب مستجدات العصر فما تعليقك على هذه القضية؟ من يسعى إلى ذلك أعده مغرضا لتحقيق مآرب شخصية أما البراءة فتستلزم التواصل فكيف نكون نحن خلفا من غير سلف، وكل دول العالم تثبت المرجعية، فعندما نشرف بتاريخنا الذي له أكثر من 1400 عام والقانون المدني الفرنسي والألماني والانجليزي أكثره من المذهب المالكي، وجميع قوانين العالم المدنية والإدارية وأكثر القوانين الجنائية عدا الحدود كلها مستقاة من الشريعة الإسلامية، فهذا تاريخ يشرفنا أن نعتز به وأن نكمل مسيرته وأن الفقه في تنامي وليس شيئًا ثابتا وليس نقلا بحتاً، وإنما هو نقل لما لم يستجد فيه وتجديد لما يستجد فيه وكل أهل زمن جددوا، إذن نحن ناقلون إلى زمن ما قبل وجود الفقه، ونحن لسنا في حاجة إلى ما يسمى بتنقية تراث الفقه الإسلامي لأن التنقية معناها هدم لتاريخ الماضي، فالماضي تاريخ يجب أن نقره ونأخذه في حاضرنا أو بوظيفة المجددين للعصر، يجب أن يبقى، وكل الفقه القديم بني على أعراف معاصره لها فربما يعود هذا العرف أو ذاك من جديد مرة أخرى، إذن وجود الماضي ضرورة وإثبات للتاريخ، ووظيفة الفقهاء المعاصرين أن يأتوا بما هو مسوغ ويضيفوا إلى فقه المعاصرة وهذا أمر طبيعي في الفقه الإسلامي. الدولة الدينية كثر الحديث في الفترة الأخيرة حول ما يسمى بالدولة الدينية فهل الإسلام يعرف هذه الدولة الدينية أم أن المطلوب هو الدولة المدنية بمرجعية إسلامية؟ كلمة دولة دينية مفهومها أن الذي أعدها وحي من السماء والحقيقة أن الأحكام التي نتعايش بها أحكام فقهية إنسانية وليست أحكاما دينية الذي يميز بين رجل الدين ورجل العلم هو الذي يميز بين الدولة الدينية والمدنية، ونحن نقول أن الديانة المسيحية فيها رجال دين لأن رجل الدين يسمع فيطاع وما يقوله نقلا عن السماء لكن نحن في الإسلام لا نعرف رجل الدين بالإجماع والرجل الذي يتكلم في الأمور الشرعية يطلق عليه صفة العالم أو الفقيه فعندنا علماء أو فقهاء وعند غيرنا رجال دين، وفي حديث بريدة في صحيح مسلم يقول الرسول صلى الله عليه وسلم» وإذا أتيت أهل حصنا فأردوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك أنت لأنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا، إذن نحن نتعامل مع الناس بأحكام بشرية إنسانية مستقاة من نصوص شرعية حمالة الأوجه في الجواز والوجوب والتحريم، فهل يجوز لولي الأمر أن يستعين بغير المسلم في الجهاد والجيش قال الجمهور لا يجوز وقال الشافعي نعم يجوز واستدل الشافعية باستعانة الرسول «صلى الله عليه وسلم» ببعض أهل الذمة في الحروب وأعطاهم أجرا والجمهور يقول لا لأن قتال غير المسلمين يجب أن يكون إسلاميا تخيل لو لم يوجد مذهب الشافعية في هذه المسألة لحدثت فتنة من وجود التجنيد لغير المسلمين مع الجيش المصري، فمذهب الشافعي هنا رحمة ولو قلنا بأن كلام الشافعي دين وكلام الجمهور دين لتعارض الدين مع الدين إذن الاختيار اختيار إنساني، ولو قلنا بأن الدولة دينية لصار الدين متعارضا مع الدين ولو قلنا بان الدولة إنسانية وإسلامية لصارت التعددية هي الرحمة، فالدولة يجب أن تكون مدنية لها مرجعية شرعية وهذه القضية فيها جدل شديد لكن نحن نسير عملا حاليا بالإسلام وليس العقيدة وبالفقه الإنساني وليس بالفقه وحيا من السماء.