تَعمّد وزير حرب العدو الإسرائيلي الأشهر «موشى ديّان» أثناء وجوده في باريس، في عقد الستينيات من القرن الماضي أن يذهب لمشاهدة «مومياء» الملك المصري القديم «رمسيس الثاني» أثناء إتاحة عرضها في متحف «اللوفر».. ورمسيس الثاني يُوصف بأنه ملك الخروج اليهودي من مصر، وكان «ديّان» تعمد إخفاء غصن من شجرة، ربت بالغصن على قدمي «رمسيس الثاني» ليُعبر بذلك عن حقد دفين يتجدد، ولم يمت رغم مرور أكثر من ثلاثة آلاف ومائتين وخمسين سنة. هذا التصرف يُعبر عن ثقافة صهيونية، قامت بتفسير أسفار العهد القديم (التوراة) تفسيرات مؤسسة على حق العودة، ليس بعد السبي البابلي (عام 587 قبل الميلاد) وإنما في أزمان لاحقة. وفي فترات سابقة لنشوء الحركة الصهيونية، نشأت في مدارس الاستشراق الغربي الأنجلو ساكسون في بريطانياوأمريكا، في بدايات القرن التاسع عشر، حركة إحياء لفكرة المسيحية اليهودية، أُعتبرتْ مرجعًا مباشرًا للفكرة الصهيونية، من أبرز وجوهها، «جورج بوش» (1796 - 1859م) أستاذ اللغة العبرية وآدابها بجامعة نيويورك، في معظم دراساته وأبحاثه التي تربو على أكثر من ثلاثين عملاً. وفي كتابه الذي صدر عام 1844 عن تفسير رؤيا حزقيال أو إحياء عظام بني إسرائيل (الطبعة العربية 2004 دار المريخ) (وبالمناسبة فجورج بوش هذا - كما أشرت في مقالات نشرت، هو الجد الخامس لجورج بوش الابن، الرئيس الحالي والآفل للولايات المتحدةالأمريكية) يقول في كتابه المشار إليه سنة (1844): «ليس المقصود إذن هو العودة من بابل، فقد تلوّثت الأرض المقدسة بعد هذه العودة مرة أخرى فقد داس العرب والأتراك ورود ازدراليون Esdraelon ووطأوا زهور شارون وزنبق الوادي، فهجر اليهود ديارهم وتشتّتوا غرباء في كل عروض الأرض. وعلى هذا فلا مناص فيما نرى أنّ ما ورد في النبوءة لم يتحقق بعد، وأن المقصود بعودة اليهود إلى الأرض المقدسة، إنما هو عودة في زمان آت وليس العودة من الأسر البابلي». (ص 49، الطبعة العربية). جورج بوش الجد، الراعي الكنائسي، والمتخصص في اللغة العبرية وآدابها، كَرّس حياته العلمية في تفسير رؤيا أنبياء العهد القديم، في الربع الأول والثاني من القرن التاسع عشر، وهي فترة مهمة، إذ كانت تمهيداً للفكر الذي نهلت منه الحركة الصهيونية، التي قامت قبل نهاية ذلك القرن، وهي فترة نشطة في ميادين البحث والتنقيب، عن أصول الفكر اللاهوتي بصفة عامة، ومما له صلة بتفسير أسفار الأناجيل بعهديه القديم والجديد، ومن أبرز رموز تلك الفترة «جون فراي» وهو كاهن انجليزي، وضع كتاباً صخماً في سنة 1822 أسماه «المجيء الثاني» مؤسساً على تفسير رؤيا «حزقيال» (الذي يعتبرونه نبي المنفي) ومن أبرز هؤلاء في أواخر القرن التاسع عشر، من أمثال الدكتور إميل هيرش Emil Hirsch وهو أستاذ للدراسات اليهودية في جامعة شيكاغو ومثله الدكتور برنهارد فلسنتال Bernhard Felsental وهو من مؤسسي الحركة الصهيونية في شيكاغو قبل مشروع هرتزل. ومن قبل هؤلاء أيضاً، دافيد أوستن David Austin الذي تزعم حملة لبناء سفن لمساعدة اليهود على العودة، وكذلك ووردر كريسون Warder Cresson الذي أصبح يهودياً واستقر في فلسطين في منتصف القرن التاسع عشر، وبنى أول مستوطنة زراعية في ضواحي القدس (يراجع: مُنير العَكش، تلمود العم سام؛ الفصل السادس، 2004 - بيروت، رياض الريس). الخلاف بين الفكر الصهيوني، ويبين ما يدعو إليه «بوش» ظل معلقاً فيما يخص التحول إلى المسيحية، لكن التأسيس على تاريخية العودة مرة أخرى، هي ما تعتنقه الفكرة الصهيونية التي تقوم على فلسفات دينية وقومية، تطورت في هذه الفترة التي نعيشها، حتى أصبح المحتلون الإسرائيليون ينادون اليوم بقوميتهم اليهودية، وان إسرائيل هي دولة يهودية، للأرض التي احتلتها قدسيتها، التي أشارت إليها رؤى أسفار العهد القديم، وفسرها منذ القرن التاسع عشر مفسرون أمثال «جورج بوش الجد» الذي يعتبر أن «الأرض المقدسة (فلسطين) لوثها العرب والأتراك» وهو إذ يبدأ في تفسير تلك الرؤيا، فإنه يمهد لذلك بما سوف يتوصل إليه في نهاية تفسيره، حيث يقول: «إنني مقتنع اقتناعاً كاملاً أن هذا الحدث (عودة اليهود إلى الأرض المقدسة) وارد بوضوح في الإصحاح الذي بين أيدينا من سفر حزقيال، وفي ظل هذا الاقتناع أقترح أن أبدأ في تفسير مطلع هذه الرؤيا بدقة. وخطّتي أن أفك مغاليق التدابير الإلهية المتعلقة بتحول اليهود (يقصد تحوّلهم للمسيحية) وعودتهم للديار المقدسة، بتأمل فحوي نبوءة حزقيال» (ص91 الطبعة العربية). والواقع أن مجمل أبحاث «جورج بوش» وثُلّة اللاهوتيين من مفسري العهد القديم أمثال «جون فراي» تدور حول هذه المعاني، ومجمل أبحاث ٍبوش» التي نشرها في الفترة من 1830 حتى وفاته عام 1859 تدور حول حادثة العودة الثانية، لكن الأمر الهام فيما يذهب إليه ويؤكد عليه تكرارًا هو: الدعوة إلى تحول اليهود إلى المسيحية، وأن عودتهم ستكون سابقة لدخولهم في المسيحية بشكل جماعي، وهو المعنى الحقيقي - كما يقول - لهذه النبوءة (نبوءة حزقيال) وهو يرى أن الواجب منوط بالمسيحيين لإكمال تحقيق النتيجة المرجوة، بل «ولابد من توجيه نداءات للحكومات بهذا الشأن - كما يقول - لقد مضى ذلك الزمان عندما كان يتحتم على العالم المسيحي أن يرضى بمجرد المناقشات الفردية هنا وهناك، ويقول بوش - نحن مستعدون لتحدي الحكمة الجماعية لآباء اليهود للدخول معنا في بحوث هادئة للكتابات المقدسة» (ص 103). وربما كان «بوش» يقصد تلك المحاورات التي جرت، ما بين أعوام 1240 في باريس وعام 1236 في برشلونة، وعامي 1413 وعام 1414 في ترتوزا بين رجال دين مسيحيين ويهود، وقد صدرت ترجمة عربية لهذه المحاورات بعنوان «محاكمة اليهودية « ربما نستعرضها حينما تحين الفرصة. ومما لا شك فيه أن هذه الدعوة الحارة، وهذا الانفعال الديني المبكر، قد وجد صداه في عام 1891، حيث عبرّت رسالة بلاكستون «فلسطين لليهود» التي سيأتي استعراضها في هذا الموضوع لاحقاً، عن هذه الرغبات بتوجيه النداءات للحكومات الغربية في هذا الشأن اليهودي وفعلاً تحقق ما كان يتوجس منه «بوش» من مواجهة «حكمة الآباء اليهود الجماعية» فقد عارض معظم يهود أمريكا تلك الدعوات التي ستقودهم في آخر الأمر إلى مصير لا يرغبونه، لكن منظمة صهيونية هي «عشاق صهيون» Hovev Zion أيدت كل الرغبات التي تدعو إلى عودة اليهود واحتلال فلسطين، أما تعميد اليهود فهو حلم لن يتحقق والمقصود بذلك، «تحول اليهود إلى المسيحية بعد ذلك» يقول زعيم هذه المنظمة «ولف شُر Wolf Sohur»: « دَع هؤلاء المسيحيين يفعلوا ما يستطيعون لمساعدتنا على استيطان فلسطين، أما مسألة إيماننا فلنترك حلها إلى حين عودة الأليجيا. عندها سيرون إذا كان حلمهم سيتحقق أم لا (يقصد تحولهم إلى المسيحية بعد تعميدهم)» (العكش ص 150). واللافت للانتباه أن هذه الاجتهادات في تفسير رؤيا حزقيال نبي المنفى في الديانة اليهودية، ومنذ نشرها في عام 1844، قد واجهت رفضاً عارماً، من جماعات مسيحية، وأخرى يهودية إصلاحية، بالرغم من محاولة اعتماد هذه التفسيرات، على نصوص دينية وتراثية، تم إخضاعها لنوازع قومية وسياسية، وهذا ما جعلها هدفاً لرفضها من تلك الجماعات ومنها: الكنيسة الشرقية، ترى وعلى لسان « البابا شنودة «، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقصية، رأياً آخر في تفسير رؤيا العودة من أساسها، يقول البابا شنودة: «كانت توجد بالفعل في الماضي آيات تتحدث عن عودة اليهود لأراضيهم، وكان يُقصد بها عودتهم من سبي بابل إلى الأراضي المقدسة. وتلك واقعة تاريخية تمت في العهد القديم وتحديداً في عهد « ارتحشتا « و» داريوس « وهما من ملوك الفرس، حيث عاد اليهود في القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد وأعادوا بناء الهيكل في عهد «زرع بابل» ولا توجد آيات تشير لحقهم في العودة في عصرنا الحديث» (جريدة الأهرام 26-8-2003) قيام المنظمة الصهيونية، كحركة قومية سياسية وعنصرية، حتى وإن حاولت تأطير مبادئها بمرجعية دينية، ولها بروتوكولات فلسفية مادية لأن العودة في العصر الحديث تمت بدوافع استعمارية وشن الحروب، وبدوافع سياسية واستعمارية من خلال وعد بلفور سنة 1917، والذي غلف عودة اليهود بدوافع وأعمال استعمارية، هي من صنع البشر، وليست تحقيقاً أو خضوعاً لمشيئة إلهية - كما ترى ذلك جماعة سلفية يهودية، هي جماعة «ناطوري كارتا».? قيام جماعة «ناطوري كارتا» في سنة 1935، كحركة مناهضة للحركة الصهيونية، هذه الجماعة تتفق مع التفسيرات الواردة في الثقافة الإسلامية، فيما يتعلق بأن الله أسكن اليهود الذل والشتات في أرض الله. يقول «ديفيد وايز» المتحدث باسم الجماعة: « إن القضية الرئيسية أن على الناس أن يفهموا أن اليهودية هي ديانة تمتد لآلاف السنين والصهيونية هي فلسفة وأيديولوجية لا يزيد عمرها عن مائة عام أسسها تيودور هرتزل والذين هم من المهرقطين والذين لديهم مثل وقيم أخرى عما أرادوه، الصهيونية مثلهم الأعلى هو تحويل الديانة اليهودية من دين ذي قيم روحية يخدم الله إلى شعور قومي مادي فهم يستخدمون فقط الديانة اليهودية من أجل إضفاء طابع من الشرعية على فلسفتهم الخاطئة وأن يحاولوا تخويف غير اليهود واليهود أيضًا لكي يحملوهم على دعمهم وأيضاً أن يعتبروهم معادين للسامية إذا لم يساندوهم وهذا يتعارض تماما مع اليهودية كدين ويتعارض تماماً مع الصهيونية كجوهر سياسي أيديولوجي قومي، إذا أية فكرة، فكرة السيطرة على أرض من المسلمين أو من الشعب الفلسطيني وأي فكرة أو مفهوم يقوم على أساس امتلاك الأرض والمادية والديمقراطية هذه ليست دينا، مفهوم العيش في المنفى، هو أيضا من الممنوع منذ تدمير المعبد قبل ألفي عام، نحن ممنوعون شرعاً ودينا من إقامة دولة ويجب أن ننتظر عمل الله من دون تدخل بشري لكي يحدث التغييرات التي الإنسانية كلها ستخدم الله..» (قناة الجزيرة نت 30-4-2008). وقد سبق جماعة «ناطور كارتا» هذه جمعية إصلاحية يهودية أخرى قامت في أمريكا، هي جمعية «أبناء العهد» B›nai B›rnth، لها صحفها ومنتدياتها، وقد برزت جهود هؤلاء في معارضتهم في أواخر القرن التاسع عشر وقبل قيام المنظمة الصهيونية بزعامة «هرتزل» «لكل دعوات ترحيل اليهود إلى فلسطين، ومن أبرز الداعين إلى عودة اليهود إلى فلسطين «وليم بلاكستون» Wiliam E. Blackston أحد أبرز مفكري الصهيونية، والذي زار فلسطين عام 1888 ومن بعدها كرس جهوده وفكره كأحد الدعاة «لعودة اليهود إلى الأرض التي طردهم منها أجدادنا الرومان دون رحمة» كما جاء في رسالته التي قدمها إلى الرئيس الأمريكي «بنيامين هاريسون» عام 1891 بعنوان «فلسطين لليهود» وعليها توقيعات من 413 شخصية أمريكية ويهودية من ذوي الجاه والمناصب. رسالة «وليم بلاكستون» ولأهميتها البالغة، سوف أستعرضها في المقال القادم، مع معارضة الجماعات اليهودية الإصلاحية لها. E:[email protected]