درج المثقفون العرب على توصيف العلاقة المميزة بين اميركا واسرائيل بمصطلحات برغماتيكية من دون ان ينفذوا من السطح السياسي والاستراتيجية الى العمق الديني -الثقافي الذي يبتدئ بهجرة الطهريين الانكليز الى اميركا في القرن السابع عشر. وحين كان يستعصي على المثقف العربي تفسير الدعم الأميركي لاسرائيل بعوامل المصلحة كان يتكئ على مصطلح اللوبي الصهيوني ويحوله الى مفتاح سحري يوضح ما أغلق عليه من اسرار السياسة الأميركية الملغزة. ولم يسهم استشراق ادوارد سعيد في اضاءة عناصر الائتلاف البروتستانتي - اليهودي وانعكاساته على المستويين الاعلامي والسياسي بل اكتفى باظهار تجليات العداء الغربي للاسلام في الثقافة والاعلام علماً ان عناصر التجاذب بين المسيحية الصهيونية واليهود المتصهينين تمثل الوجه الآخر لعلاقة التنافر بين الفريقين المؤتلفين والعرب المسلمين. ولعل ريجينا الشريف هي أول البحاثة العرب الذين تناولوا ظاهرة المسيحيين اليهود في بعديها الثقافي والسياسي في كتاب صدر بالانكليزية عام 1983 وبالعربية عام 1985، تلاه كتاب محمد السماك الذي صدر عام 1993 في طبعة مستعجلة استدرك المؤلف نقائصها في طبعة ثانية 1993. وقد أفاد هذا البحث من هذين المصدرين. واللافت في تاريخنا الاجتماعي الثقافي هو تأخر دراسة هذه الظاهرة التي ادركها ما ادرك غيرها من فوات زمني. فقد أصدر لويس نيومان مؤلفه الضخم "الاثر اليهودي في حركة الاصلاح المسيحي" عام 1923 اي قبل نيف وستة عقود على صدور أول مؤلف تناول الموضوع باللغة العربية وبعد نيف وثمانية عقود على وعد بلفور1917 وتمظهر الخطر الصهيوني على فلسطين. وتنطلق هذه الدراسة من الاعتقاد بأهمية الفاعل الثقافي في الظواهر السياسية بوجه عام وتتخذ من العلاقة الجدلية بين الصهيونية المسيحية واليهودية نموذجاً محدداً يثبت القانون العام. خصوصية العلاقة ان ظاهرة نشوء الصهيونية السياسية في الدول الانكلو- سكسونية، وفي بريطانيا القرن السابع عشر بشكل خاص، تضرب جذورها في حركة الاصلاح الديني التي تأولها لاهوتيون بروتستانتيون اصوليون أمثال كالفن والطهريين البريطانيين الذين نقلوا نظامه الاقتصادي - السياسي "المستلهم من العبريين" تاوني الى موقع السلطة بين 1640 و1660. لقد حول الطهريون الفضائل المسيحية الروحية الى فضائل اقتصادية، وأحلوا الروح القدس في عمل كل يوم، واحتل العامل المُجد مقام الكاهن، وتبوأت البورجوازية مقام "شعب الله المختار". وقد لاحظ ماكس فبر أن الاخلاق البيوريتانية في انكلترا القرن السابع عشر هي اخلاق عبرية - انكليزية. واعتبر الطهريون التوراة كلمة الله المعصومة، كما اعتبروا الأساطير والنبوءات العبرية تاريخاً، والشريعة الموسوية قانوناً، وعمّدوا أولادهم بأسماء عبرية، وقدّسوا يوم السبت، وأدخلوا اللغة والأدب العبريين الى المدارس، كما أدخلوا نصوصاً من التوراة الى لغة القداس في الكنائس. بل ان العبرية دخلت في نسيج الحياة اليومية للأمة. باختصار أصبح العهد القديم في عهد البيوريتانيين الانكليز مرشد الحياة الروحية والدنيوية، "كان أدبهم الوحيد وغذاءهم الفكري والروحي وفيلسوفهم وصديقهم وحجتهم القانونية ومحكمة استئنافهم العليا. لقد تشكل فكرهم تبعاً له". وقد بلغ تغلغل الثقافة الدينية العبرية في المؤسسات السياسية والتربوية البريطانية حداً جعل لويس نيومان يلاحظ ساخراً "لو ان خطب البرلمان كانت تلقى بالعبرية لحسبت نفسك في فلسطين". إن عودة الانجيليين الى العهد القديم جعل من ذلك المرجع الديني التقليدي مصدراً ثقافياً للصهيونية "ذلك ان العهد القديم يؤكد تكراراً على صهيون والقدس والأرض المقدسة وجدلية العبودية والتحرير، النفي والعودة، هذه الموضوعات هي مركزية في اليهودية". وعليه يمكن القول إن الحركة البيوريتانية وريثة الكالفينية التي حكمت بريطانيا بين 1640و1660 شكلت الحاضنة الثقافية للصهيونية السياسية. وفي القرن السابع عشر "تحول العديد من البروتستانتيين المتطرفين الى اليهودية"، بل أن الكثيرين منهم "اخضعوا انفسهم للختان"، كما يذكر بولياكوف. فيما طالب آخرون شفاهة وكتابة بعودة اليهود الى بريطانيا. هذا التعاطف الشعبي والرسمي مع اليهود من موقع ديني، والذي تداخل مع حاجة بريطانيا لمال اليهودي وخبرته الاقتصادية، هو الذي يفسر طبع كتاب لوثر الأول "عيسى ولد يهودياً" تسع مرات خلال سنة واحدة، في حين لم يطبع كتابه الثاني المعادي لليهود "عن اليهود وأكاذيبهم" 1542 سوى مرتين فقط خلال حياة زعيم الحركة البروتستانتية. وقد تكرر بعد لوثر، وفي انكلترا وأميركا خصوصاً، ظاهرة الانتشار الواسع للكتب المؤيدة لليهود و"حقهم المقدس في الأرض المقدسة". وقد أدى هذا الغزو الثقافي لبريطانيا الى تقويض التقليد البولسي نسبة لبولس والأوغسطيني الذي ساد القرون الوسطى والذي كان قد نقض مفهوم اسرائيل الدولة باسرائيل - الكنيسة، ونقض أورشليم بالقدس، مدينة العهد الجديد، وجعل من أرض الميعاد أرضاً مسيحية. وعليه فإن التنظيمات الأولى للمسيحيين الصهيونيين قد نشأت في حضانة الأصوليين الانجيليين البريطانيين الذين اعتقدوا ان أرض فلسطين خلقت في الأصل لتكون وطن الشعب المختار وأن حقهم فيها لا ينازع. وهذه العلاقة الخصوصية المبكرة بين بريطانيا واليهود تتمظهر في ميادين الدين والفلسفة والأدب والسياسية. وفي بريطانيا دعا الشاعر الكبير جون ميلتون الى ادخال اللغة والأدب العبريين الى المدارس. وفي القرن نفسه كتب الفيلسوف جون لوك رسالة في التسامح عام 1689 يعلن فيها انه "لا يجوز حرمان اي وثني أو محمدي أو يهودي من حقوقه المدنية في الكومونولث بسبب دينه". ولما لم يكن هناك في بريطانيا مسلمين أو وثنيين كان اليهود هم المستفيدين الوحيدين من مناخات التسامح التي استحدثتها الفلسفة الليبرالية الجديدة. وكانت انكلترا الدولة الثانية، بعد هولندا، التي تمنح تشريعاتها اليهود حقوقاً مدنية، ونشرت هذه الحقوق في مستعمراتها الأميركية. ويلاحظ برنارد لويس "أن افكار لوك وغيره من انكليز الأحرار انتشرت في المستعمرات الأميركية وفرنسا لتسهم بفاعلية في ايديولوجية الثورتين الفرنسية والأميركية". واستقطب اليهود في بريطانيا تأييداً وتعاطفاً من جانب أبرز الأدباء والشعراء أمثال ملتون الطهري وبوب ووليم هازليت وماكولاي وجورج اليوت والشعراء الرومانسيين أمثال بلايك وووردزورث وبايرون، وعلماء واعلاميين وسياسيين أمثال نيوتن وبريستلي ولويد جورج الذي صهينته النصوص المدرسية، وسايكس، واضع اتفاقية 1916 مع بيكو، وبالمرستون وتشرشل وسواهم من السياسيين الذين ظاهروا الصهيونية، وبريطانيا هي وطن بلفور صاحب الوعد بوطن قومي لليهود في فلسطين الصادر في 2/11/1917. وهي الدولة المنتدبة التي عينت اليهودي الصهيوني هربرت صموئيل مندوباً سامياً على فلسطين وهو الذي تكرست في عهده 1920-1925 اللغة العبرية لغة رسمية الى جانب العربية والانكليزية، وتكثفت الهجرة اليهودية، واستقلت المؤسسات اليهودية عن مؤسسات الدولة، وبنيت 11 مستعمرة وضاحية يهودية وعشرات المدارس والمؤسسات الثقافية كان أهمها الجامعة العبرية عام 1925. و"من الكنيسة البروتستانتية البريطانية انطلقت الصهيونية كحركة سياسية واستمرت زهاء ثلاثمئة سنة قبل ان ينعقد المؤتمر الصهيوني في "بال بسويسرا" في العام 1897". وتغلب الأصول البريطانية على الفرق البروتستانتية الأميركية التي تهودت وصهينت وأسهمت بفاعلية مشهودة في تحويل أميركا الى دولة راعية وحارسة وممولة وضامنة في المدى البعيد لتفوق اسرائيل العسكري - الثقافي على محيطها العربي. وقد فسر البعض روابط الود بين اليهود من جهة، والانكليز والأميركيين من جهة ثانية، باعتزاز كل من البريطاني والأميركي بنفسه ووثوقه من التفوق على غريمه اليهودي في ميادين التجارة والمال والبنوك التي اشتهر اليهودي بتفوقه فيها، وهي ثقة حررته من الخوف من المنافسة اليهودية وجعلته متقبلاً لوجود اليهود. وكان كرومويل أول من أدخل أدلوجة الكبرياء القومي في محاججته ضد التجار البريطانيين الذين عارضوا اعادة اليهود الى بريطانيا. وكتب ودج وود، أحد قادة حزب العمال البريطاني عام 1927 معللاً أسباب التعاطف الذي يشارف التماهي بين البريطانيين واليهود بتماثل الوظيفة الاقتصادية التجارية - المالية بين اليهود والبريطانيين أبناء الأمة البحرية التجارية الجوالة. والثاني بالتقارب الديني على خلفية توراتية مشتركة أرسى قواعدها البروتستانتيون الأصوليون. ولا يمكننا بأي حال التقليل من خطورة هذا الروح الثقافي الذي فعل فعله في القرارات السياسية البريطانية اللاحقة. إن انشقاق لوثر عن الكنيسة الأم الجامعة الكاثوليكية أسست في اتباعه الأصوليين نزعة معادية للامتثال والتقليد الديني الذي جسدته الكثلكة، وكانت الكنيسة البريطانية الانغليكانية القومية سباقة في الانشقاق عن المركز الكاثوليكي. وقد تابع الكالفينيون والطهريون الميراث الانقسامي في البروتستانتية. وقد انتج الانجيليون الراديكاليون تحت ضغط الاضطهاد الذي تعرضوا له بين القرنين السادس عشر والسابع عشر قبل انتصارهم عام 1840 وبعد اندحارهم وسقوطهم عام 1860 صورة للذات والآخر تطابق تصور العبريين لأنفسهم وأعدائهم. فقد رأى الانجيليون البريطانيون في العبريين القدامى "أول الأحرار الذين كسروا بخروجهم من مصر التقليد العبودي في الدين والسياسة". وحين بدأ الطهريون الانكليز هجرتهم الى اميركا بدءاً بالعام 1660، وهو العام الذي شهد انهيار الكومونولث الذي اقامه الطهريون وعودة الملكية الى بريطانيا، تخيلوا أنفسهم في موقع العبريين الذين حملوا معتقدهم وشريعتهم بعد انهزامهم الى المهاجر، وتخيلوا انفسهم امة رسولية أو نخبة مختارة لتقيم اسرائيل الجديدة على الأرض الأميركية. ويذكر نيومان ان المستوطنين الانكليز البروتستانتيين على الأرض الأميركية تماهوا بالكامل مع الاسرائيليين القدامى فكانوا يتحدثون عن انفسهم بوصفهم "اسرائيل المسيحية"، ويصفون انكلترا التي خلفوها وراءهم ب"أرض مصر"، ويوصفون الملك جيمس الطارد لهم ب"الفرعون"، ويوازون المحيط الأطلسي الذي عبروه ب"البحر الأحمر"، وأميركا ب"أرض كنعان الجديدة" أو "أرض الميعاد". ويصف تاوني الكنيسة الكالفينية التي اتخذت قرار الهجرة الى أميركا بأنها "كانت جيشاً يعاود المسيرة الى أرض كنعان بناءً على أوامر تلقاها قادة هذه الجيش من سيناء. وكان الهدف المحدد للحملة هو احتلال أرض الميعاد". وقد اتخذ المهاجرون الطهريون الرواد من القادة العسكريين العبرين أمثال باركوبا قائد الثورة ضد روما عام 135م. مثالاتهم العسكرية. ويذكر نيومان انهم "كانوا يسقطون على اعدائهم من السكان الأصليين أسماء الشعوب الشرقية التي دخلت في حروب مع العبريين القدامى مثل أشور والفلستة". وقد أطلق الطهريون اسماء المدن العبرية على مستوطناتهم الأميركية الجديدة فعرفت القارة الأميركية مدناً أسماؤها فلسطينية مثل بيت لحم وعدن والخليل ويهودا وسالم وصهيون والقدس، "وقد تغلغل التماثل البيوريتاني مع الشخصيات العبرية التوراتية في الحياة القومية الحديثة في أميركا المستعمرة وأصبح هذا الإرث جزءاً لازباً لما يسمى بالتقاليد الأميركية". ويسمي نيومان ولايات أميركية عدة اعتمدت النمط الموسوي في الحكم خلال القرن السابع عشر بينها كونكتيكوت ونيوجرسي ونيوهافن. وقد فرض المهاجرون الأوائل تعليم اللغة العبرية في مدارسهم والجامعات "حتى ان أول دكتوراه منحتها جامعة هارفرد في العام 1642 كانت بعنوان "العبرية هي اللغة الأم"، وأول كتاب صدر في أميركا كان "سفر المزامير"، وأول مجلة كانت مجلة "اليهودي"، كما ان المستوطنات الأولى على أرض فلسطين اقامها مسيحيون يهود بدءاً بالعام 1850 بتمويل رجال أعمال أميركيين، "وكان اقبال الصهاينة المسيحيين على الاستيطان أشد من اقبال الصهاينة اليهود"، وهم المؤمنين بعودة ثانية للمسيح. وقد أقيمت احدى هذه المستوطنات على يد 70 شخصية دينية انجيلية عام 1867. ويعتبر الانجيلي الأميركي رينولد نيبور، مؤسس "جمعية فلسطين الأميركية المسيحية"، نموذجاً للمسيحي المتهود الذي يبتدع نسخة مسيحية أميركية جديدة توصف اليهود بأنهم جزء من الأمة المقدسة، فيكتب قائلاً: "إن الايمان باقامة مملكة الله على الأرض هو السمة المميزة للمسيحية الأميركية عن بقية بلدان العالم". ويتلقف كتاب يهود معنيون بالحوار اليهودي- البروتستانتي أمثال هرتزل فيشمان هذه السمة المميزة للمسيحية الأميركية، فيكتب "ان الغالبية العظمى من البروتستانتيين الأميركيين، يؤمنون بقدس جديدة تتكون تدريجاً على الأرض الأميركية وهو ايمان حل محل الرؤيا القيامية الميتافيزيقية الفجائية. وتضعف التفكير البروتستانتي الأوروبي بالعالم الآخر". وخلافاً للإرساليات الانجيلية الى العالم العربي التي لم تدخل مصطلحي اسرائيل وصهيون في خطابها التبشيري فإن "الارساليين البروتستانتيين الذين عملوا في فلسطين كانوا يؤمنون ويبشرون بأن عودة اليهود الى الوطن القومي تشتمل اقامة دولة يهودية ذات سيادة في فلسطين: ويستخلص الأسقف دونالد واغنز بحق "ان الأصولية الدينية البريطانية هي المصدر الرئيسي للمعتقد المسيحي الصهيوني الذي وجد لنفسه موطئ قدم في الولاياتالمتحدة الأميركية"، و"أن بريطانيا هي مكان نشوء وتطور التماهي مع اسرائيل على مدى القرون الخمسة عشر الماضية". وفي بريطانيا القرن السادس عشر تجاوزت اليهودية حدود الدولة الدينية و"أصبحت"، كما يقول بارون، "امة ورمزاً للقومية" وتحول العهد القديم منذ ذلك الوقت المبكر من كتاب دين الى كتاب سياسي يقوم على قاعدة العهد الإلهي بالأرض المقدسة للشعب اليهودي المختار. وكان بلفور احد النافذين البريطانيين الذين اتخذوا من الانجيل ذريعة لتسويق مشروع الدولة الصهيونية وهو القائل: "سواء كانت الصهيونية على حق أم على باطل، جيدة أم سيئة، فإنها متأصلة الجذور في التقاليد القديمة العهد". ويؤكد حسان حداد الفاعل الثقافي البريطاني الانجيلي ذاته في السياسة الأميركية: "ان العوامل السياسية والاقتصادية أو الديبلوماسية لا يمكن ان تفسر وحدها وبالكامل، التأييد المعنوي والمالي والعسكري الذي دأبت الولاياتالمتحدة على اعطائه لإسرائيل على رغم الانتهاكات الاسرائيلية الفاضحة لهذه الثقة الأميركية". وتقدم الباحثة الأميركية غريس هاكسل شهادة حية على مؤثرات العهد القديم الذي كان يحييه الكهان الانجيليون في وعي سكان مدينتها: "في مدينتي كان المسيحيون يتقبلون كل كلمة كانوا يجدونها في الانجيل خصوصاً العبارات القائلة "ان اليهود كانوا شعب الله المختار"، و"ان الله يبارك من يباركهم ويلعن من يلعنهم". وتختم الكاتبة مقالتها بالقول "لقد نشأت على هذا النوع من التطبيع المعتقدي". وتشف خطب عدد من الرؤساء الأميركيين أمثال جونسون ولنكولن وترومان ونيكسون وكارتر وريغن عن مكونات ثقافية يهودية انجيلية تصدق ما تذكره هاكسل عن "التطبيع المعتقدي". فقد اقترح الرئيس جفرسون اتخاذ رمز لأميركا يمثل ابناء اسرائيل وفوقهم غيمة تحميهم من لهيب النهار وعمود من نور يضيء لهم الليل يكون بديلاً عن شعار النسر. أما ترومان الذي سارع الى الاعتراف بدولة اسرائيل قبل اعلانها عام 1948، وكان أول من اهداها القروض، فيذكر "ان فكرة البعث اليهودي تحرك في أعماقه مشاعر لها مغزاها"، "وأن موسى تلقى المبدأ الأساسي لهذه الأمة على جبل سيناء". ويعلن كارتر غداة انتخابه رئيساً عام 1976: "ان تأسيس اسرائيل المعاصرة هو تحقيق للنبوءة التوراتية"، ويخطب في الكنيست الاسرائيلي عام 1979 قائلاً: "ان اميركا واسرائيل تتقاسمان تراث التوراة". وقد عبر الرئيس رونالد ريغن عن ايمانه بأن الكتاب الاسرائيلي يحتوي بين دفتيه "جميع الاجابات على جميع المشكلات التي تواجهنا اليوم"، ثم يعلن في العام 1984 بأن اسرائيل هي التي ستلعب دور البطولة في معركة نهاية العالم وتقريب العودة الثانية للمسيح المخلص. أما كلينتون، آخر الرؤساء فكانت مواقفه في المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية عشية الانتفاضة مطابقة للموقف الاسرائيلي لجهة الضغط على عرفات كي يقبل بدولة فلسطينية مجزأة الى ما يشبه الكانتونات أو "المعازل" تشومسكي والتسليم باستبقاء اسرائيل لأراض احتلتها عام 1967. ويلاحظ نبيل شعث، وزير التخطيط والتعاون الدولي الفلسطيني، "ان مواقف الرئيس كلينتون تبقى متقدمة على مواقف مجلس النواب والخارجية الأميركية". الحياة 29ت 1-2000. ويتفق العديد من الباحثين في العلاقات اليهودية - البروتستانتية والاسرائيلية - الأميركية على فاعلية الأثر الذي تمارسه المنظمات الانجيلية الأصولية على مراكز القرار الأميركية. "ان التأييد المسيحي لاسرائيل يفوق في أهميته التأييد اليهودي للدولة الصهيونية"، وأنه "في مقابل الستة ملايين يهودي هناك أربعون مليون مسيحي يؤيدون اسرائيل". ولا يختلف الباحثون في العلاقات اليهودية - البروتستانتية على أن الغالبية الساحقة من المسيحيين الصهاينة هم انجيليون اصوليون يتوزعون في فرق أصولية عدة "يعود تاريخ البعض منها الى عصر الاصلاح الديني وقد أصبحت حركة جماهيرية في الحاضر". ويلفت حسان حداد في مقالته المذكورة الى سيطرة الانجيليين على شبكات تلفزيونية ثلاث يشاهدها 40 في المئة من العائلات يشكلون الغالبية العظمى من المسيحيين الأميركيين الصهاينة". ويذكر واغنر "ان المسيحيين الصهيونيين الأصوليين الجزء المرئي من جمهور يراوح بين الخمسين والستين مليون مسيحي انجيلي في الولاياتالمتحدة"، وان طائفة الانجيليين هي الكتلة الأسرع نمواً بين الفرق المؤيدة لإسرائيل في أميركا منذ نهاية القرن التاسع عشر، وان شعار الصهيونيين "فلسطين ارض بلا شعب لشعب بلا ارض" ابتدعه المسيحي الصهيوني وليم بلاكستون. ويجيء في قاموس أوكسفورد عن الدين اليهودي أنه بين العام 1970و1980 عبر العديد من الكنائس البروتستانتية عن تعاطفها مع اليهود باعلانها وقف التبشير المسيحي بينهم، وهذه الكنائس هي: الانغليكانية واللوثرية والمشيخانية والمنهجيين. ويذكر المصدر نفسه ان تأييد البروتستانتيين الانجيليين الحماسي لدولة اسرائيل ناجم عن اعتقادهم بأن ولادتها تمت بفعل ارادة قدسية وأن قيام اسرائيل علامة تؤشر على اقتراب موعد ظهور المسيح المخلص. وغني عن القول ان التنظيمات الأصولية الانجيلية قد نجحت في تقريب قطاع أميركي واسع من اليهودية الصهيونية بقدر ما نجحت في تغريب المسيحية عن جوهرها المعادي للخصوصية القومية والعرقية والنزعة الاقتنائية التملكية والتنافس العدواني بين الأفراد والجماعات لتأكيد الذات الفردية والقومية. لقد نجح المسيحيون الصهيونيون "في تحويل الانتباه عن رسالة الحب الكوني المسيحي الى تنبؤات أنبياء اسرائيل وقدرها ومصيرها بحيث تبدو اسرائيل شاغل الله الأساسي بل لا شاغل له غيرها، كونها أداة تحقيق الغاية من التاريخ ومن وجود البشر في الزمان". وليس أدل على ارتقاء الانجيليين بالأساطير والنبوءات العبرية الى مقام الحقائق التاريخية من المقررات التي أذاعها المؤتمر الكنسي الذي انعقد في أميركا في العام 1976. يقول البيان: "إن الشعب اليهودي هو شعب النبوءة، شعب الأرض، ولأننا نعلم من هو صاحب الوعد، فإننا نؤيد كلياً شعب وأرض اسرائيل وحقها في الوجود المعطى لها من الله صاحب الوعد. ان أي معارضة لهذا الحق سواء جاء من افراد أو مجموعة من الأمم هو بمثابة حرب ليس ضد اسرائيل وحدها وانما ضد الله والزمان ذاته". اذا كان ايمان البروتستانتيين الانجيليين يسيج الكيان الاسرائيلي بالقداسة الدينية فإن الوجه الآخر لهذا التقديس هو الحرب الظاهرة والخفية على أعدائه العرب الذين يخرقون حرمة المقدس ويعترضون على تجليات العقل الإلهي في التاريخ. لقد دشنت اميركا اسطولها السادس بحصار بحري على دولة عربية هي ليبيا في مطلع القرن الماضي ثم دشنت انفرادها الامبراطوري بقيادة العالم عام 1990 بحرب على دولة عربية مشرقية. ويؤكد كتاب "اقتناص اللحظة" الذي وضعه الرئيس السابق نيكسون عام 1992 فاعلية العنصر الثقافي في السياسة الأميركية الشرق أوسطية اذ يدخل الكتاب في نسيج ثقافي متجانس مع كتاب هنتنغتون "صراع الحضارات" وما قاله هنري كيسنجر في احدى خطبه عام 1990 عن عالم عربي اسلامي هو "العدو الجديد للغرب". ان هذا الانحياز الثقافي المزمن يستوجب مواجهة ثقافية - اعلامية على مستوى الدول ومؤسسات البحث المتخصصة. لكن الحوار الثقافي مع الآخر تحت عنوان حوار الحضارات لا صدام الحضارات يجب ان يدعم ويستكمل بضغوط اقتصادية اذا لزم الأمر، ذلك ان خطاب المصلحة الاقتصادية يبقى الأبلغ والأسرع اثراً في تعديل الرؤى الفكرية الانكلور-سكسونية. * كاتب لبناني.