استقطبت فلسطين بحكم مكانتها المقدسة الكثير من الباحثين الغربيين باكراً, لأسباب شتى أهمها: أن أرض فلسطين شهدت كثيراً من الأحداث التي ورد ذكرها في التوراة والإنجيل والقرآن الكريم. ومن طلائع أولئك الباحثين رحالة ومستكشفون منهم علماء ورجال دين وعسكريون وأطباء وغيرهم ممن كتبوا وصفاً لرحلاتهم وتحدثوا عن الأرض التي زاروها وعن الناس الذين كانوا يسكنون فيها, إضافة إلى طبيعة الأرض وأنواع نباتاتها وحيواناتها وطيورها... الخ. ونستطيع أن نميز من الرحالة الذين يصنف عملهم في إطار البحث العلمي البحت وكان لمكتشفاتهم أثر إيجابي وفضل لا يمكن التنكر لها، ولكن، مع نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر شهدت فلسطين خصوصاً وبلاد الشام عموماً، استقطاباً كبيراً لمجموعات هائلة من الرحالة وفرق الاستكشاف لأهداف استعمارية بحتة، وتزامنت هذه الموجة مع ظهور ما يمكن تسميته اصطلاحاً"الصهيونية غير اليهودية"، لا سيما في بريطانيا وبداية صناعة"الوعي القومي"بين اليهود الذين لم تكن تبلورت لديهم فكرة"الشعب اليهودي"، وجل ما كانوا يحلمون به هو اندماجهم مع المجتمعات الأوروبية على قاعدة المساواة في الحقوق والمواطنة، حيث كانوا موضع ازدراء بحكم صورتهم الشائعة"التاجر الجشع والمرابي"، وكان معظم دعاة الصهيونية غير اليهودية - صهاينة ولكن ليسوا يهوداً - من أشد المعارضين لفكرة اندماج اليهود وحصولهم على حقوقهم في المجتمعات الأوروبية التي يعيشون فيها، لأنهم كانوا يعتبرون اليهود"جماعة وظيفية استيطانية"، ومن أهم هؤلاء شافتسبري، بينما صنف الفيلسوف ديفيد هارتلي عام 1749 اليهود"ضمن الهيئات السياسية باعتبارهم كياناً سياسياً موحداً ذا مصير قومي مشترك"وتبنى الحجج الدينية"التنبؤية"الشائعة والمعروفة. وفي الوقت الذي بنيت فيه هذه الصهيونية على الإدعاء الديني الزائف لم يستطع دعاتها إخفاء البعد الاستعماري الكامن وراء حقيقتها إذ قام الأكاديمي ورجل الدين توماس كلارك مع نهاية وجود محمد علي في الشام بنشر كتابه الهندوفلسطين، وكتب يقول:"عندما يأتي موعد الحلول محل الدولة العثمانية سيؤمن الطريق التجاري القديم إلى الهند… إن اليهود بالضرورة شعب تجاري وليس هناك أكثر ملاءمة من زرعهم على الطريق الرئيس القديم للتجارة مع الشرق. ففي أي أيد أكثر مهارة يمكن أن تستودع نقطة التبادل بين الشرق والغرب؟. إن سورية ستكون آمنة عندما توضع في يد شعب شجاع مستقل ذي طاقة روحية ممتلئة بأحاسيس وعيها القويم... وهذا الشعب هو الشعب اليهودي . أعيدوا لهم قوميتهم وبلادهم ولن تكون هناك قوة في الأرض تستطيع أخذها منهم ". أثارت حملة نابليون مزيداً من الاهتمام في بريطانيا بالأرض المقدسة وتأسست في لندن رابطة فلسطين عام 1804 للتشجيع على"الاكتشافات"والبحث في بلاد الكتاب المقدس ومواقعه، وأدخلت منطقة"الشرق الأوسط"إلى قلب الصراع الدولي، إذ أدركت قوى أوروبا كما تقول باربرة توخمان إن"أي قوة تهدد بالسيطرة على أوروبا لا بد من أن تمنع من السيطرة على الشرق الأوسط". وفي 1807 وفي ظل تصاعد المشاريع البريطانية البروتستانتية تجاه فلسطين والمسألة اليهودية، أسست في بريطانيا الجمعية اللندنية لنشر المسيحية بين اليهود وكانت الفكرة المحورية المحركة لمؤسسي الجمعية أن اعتناق اليهود للمسيحية سيعجل عودتهم إلى فلسطين ،"وهي العودة الممهدة للظهور الثاني للسيد المسيح"، وقد انطلقت في أوروبا عموماً وبريطانيا على وجه الخصوص أوسع حملة للتعريف بالأراضي المقدسة ، وجند لذلك العديد من الفنانين والروائيين ونشرت رواياتهم بالعبرية لتحريض اليهود على الاستيطان في فلسطين وبعث فكرة القومية لديهم، ومن أهم ما نشر عام 1876رواية"دانيل ديروندا"لجورج إليوت والتي اعتبرت مقدمة لوعد بلفور، وإليوت هو صاحب نظرية"الشعب العضوي المنبوذ"وجل روايته يتلخص في اكتشاف اليهودي هويته وأن الخلاص في الحل الصهيوني. وحلت فيها صورة اليهودي البطل محل صورة التاجر الجشع والمرابي التي كانت سائدة في أوروبا، ودعا فيها أغنياء اليهود الى تمويل المشروع الصهيوني. ونشر في الفترة بين 1840 و1880 نحو 1600 كتاب لأصحاب الرحلات إلى فلسطين، ساهمت في إعطاء صورة مزيفة للواقع مفادها"إن فلسطين أرض مهملة والعرب والمسلمين مسؤولون عن الخراب الذي حل بالأرض المقدسة"، وفي عام 1844 كانت بريطانيا تقرأ كتاب ايليوت ويربرتون الأشهر في تاريخ كتب الرحالة الانكليز عن فلسطين"الهلال والصليب"، وعلى رغم أن الكتاب لم يشر إلى المشروع اليهودي الاستيطاني في شكل مباشر، إلا انه ملأ الرأي العام البريطاني بإحساس بالأسماء والأماكن في الأرض المقدسة، وحمل رسالة مباشرة بأن بريطانيا قادمة إلى الشرق، أما الرحالة الآخر الذي نشر أعماله في تلك الفترة، فهو لندسي الذي كان أكثر وضوحاً حيال المشروع اليهودي في كتابة"رسائل من مصر والأرض المقدسة"، في حين كان تشارلز وارن من أشهر علماء الآثار الذين نشطوا في فلسطين، وفي عام 1845 ظهر كتاب جورج جور"تهدئة سوريا والشرق"وقدم فيه مقترحات وخطوات عملية لتوطين اليهود في فلسطين. وأعد كلود كوندر دراسات جغرافية عن فلسطين نشرت باللغة العبرية. ومن أجل تكثيف عمليات الاستكشاف ظهرت مؤسسات وجمعيات، كان في مقدمها صندوق استكشاف فلسطين الذي تأسس عام 1864 في رعاية الملكة فكتوريا ورئاسة أسقف يورك، وأعلن الصندوق أنه مؤسسة تهتم بالبحث الدقيق والمنظم للآثار والطبوغرافيا والجيولوجيا والجغرافيا الطبيعية والتاريخ، وعادات وتقاليد الأرض المقدسة بهدف"التوضيح التوراتي"وتوظيف البحث العلمي في خدمة الأهداف التوراتية، ومن أخطر الكتب التي أصدرها كتاب"المدينة والأرض"ويتألف من مجموعة دراسات أهمها دراسة لوولتر بيسانت، يبين فيها أن هدف الصهيونية استعادة مجد فلسطين في عهد هيرودس واستعادة"بلاد داود"ليمكن استعادة أسماء المدن التي دمرها يوشع بن نون، واستعادة الأسماء المذكورة بالتوراة. وشارك الكابتن ويلسون في عمليات مسح وتنقيب في بعض المناطق السورية واللبنانية، وجرى التركيز في فلسطين على مرج ابن عامر ونابلس والقدس والخليل، وقد أعد الصندوق خرائط دقيقة لفلسطين والطرق المؤدية إلى مدنها، وقام الجيش البريطاني باستخدامها في غزوه للبلاد. وأسس الأميركيون الجمعية الأميركية لاستكشاف فلسطين عام 1869، وفي بريطانيا أسست جمعية الآثار التوراتية، بينما أنشأ الألمان جمعيتين هما الجمعية الألمانية للدراسات الشرقية 1897 والألمانية للأبحاث الفلسطينية 1877، وأسس الفرنسيون مدرسة لدراسة الآثار، وكان الحافز توراتياً وصهيونياً. ومن أبرز رموز تلك الحملات تشارلز تشرشل وهو ضابط انكليزي صهيوني غير يهودي جاء إلى فلسطين عام 1840 مع الحملة الأوروبية على بيروت. ولورد شافتسبري وهو من أبرز الدعاة إلى توطين اليهود في فلسطين، وقام بنشر كتب للرحالة. ومن أهم الوثائق الصهيونية تلك التي قدمها شافتسبري إلى بالمرستون 1840 عن"استرجاع اليهود فلسطين وحل المسألة الشرقية وتطور المنطقة الممتدة من جهة الرافدين حتى البحر الأبيض المتوسط وهي البلاد التي وعد الإله بها إبراهيم بحسب التوراة". ونشط أيضاً هنري فينيش وفليب دي لانجالري وجوزيف سلفادور وجورج جادلر ووارد كريون وغولدن سميث ولورنس أوليفانت الذي اتجه إلى فلسطين عام 1880 ونشر كتاب" أرض جلعاد"، ودانييل مودروفيتست كاتب روسي صهيوني زار فلسطين عام 1881، وفليب نفلينسكي البولندي الذي أصبح مستشار هرتزل وبذل جهداً لتنظيم لقاء بينه وبين السلطان العثماني، وويليام بلاكتستون الذي زار فلسطين عام 1888 وهو رجل أعمال أميركي قدم مذكرة بعنوان"فلسطين لليهود"، وشارك عام 1918 في مؤتمر اتحاد الصهاينة في فيلادلفيا ومنح فيه لقب أبو الصهيونية، وإيان سمطس من جنوب أفريقيا وكان صديقاً لحاييم وايزمان وتولى رئاسة الوزراء في جنوب أفريقيا وكان متحمساً للصهيونية وداعياً إلى طرد البدو من فلسطين وإقامة معازل للفلاحين واستخدامهم عمالة رخيصة، وويليام هشلر من الهند وقد حمل رسالة من الملكة فكتوريا إلى السلطان العثماني تحضّه على توطين يهود روسيا في فلسطين، وتشارلز سكوت الصحافي البريطاني صاحب"المانشستر غارديان"ورئيس تحريرها، وكلود كوندر الضابط البريطاني المسؤول عن عملية مسح فلسطين لمصلحة صندوق استكشاف فلسطين وأطلق عليه الفلسطينيون النار في صفد عام 1875، وقد ألف كتاب"مسح فلسطين"بالاشتراك مع تشارلز وارين. * كاتب فلسطيني مقيم في دمشق