«هيئة الإحصاء»: ارتفاع الصادرات غير النفطية 22.8 % في سبتمبر 2024    تحت رعاية ولي العهد.. السعودية تستضيف مؤتمر الاستثمار العالمي في الرياض    بوريل: الاتحاد الأوروبي ملزم باعتقال نتنياهو وغالانت    "يلو 11".. ديربي حائل وقمم منتظرة    المعرض المروري يستعرض أبرز مسببات الحوادث بالمدينة    "السجل العقاري" يبدأ تسجيل 90,804 قطع عقارية بمدينة الرياض والمدينة المنورة    التدريب التقني والمهني بجازان يفتح باب القبول الإلكتروني للفصل الثاني    "تعليم الرياض" يحتفي باليوم العالمي للطفل    تقنية جازان تختتم برنامج الحرفيين بتدرب اكثر من 100 متدرب ومتدربة    فيصل بن بندر يفتتح المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة    "الصندوق العقاري": إيداع أكثر من مليار ريال في حسابات مستفيدي "سكني" لشهر نوفمبر    «التعليم» تطلق برنامج «فرص» لتطوير إجراءات نقل المعلمين    أمر ملكي بتعيين 125 «مُلازم تحقيق» على سلك أعضاء النيابة العامة القضائي    اقتصادي / الهيئة العامة للأمن الغذائي تسمح لشركات المطاحن المرخصة بتصدير الدقيق    الأرصاد: أمطار غزيرة على عدد من المناطق    أقوى 10 أجهزة كمبيوتر فائقة في العالم    يلتهم خروفا في 30 دقيقة    تنافس شبابي يبرز هوية جازان الثقافية    15 مليار دولار لشراء Google Chrome    مسودة "كوب29" النهائية تقترح 300 مليار دولار سنويا للدول الفقيرة    «اليونيسف» تحذر: مستقبل الأطفال في خطر    لماذا رفعت «موديز» تصنيف السعودية المستقبلي إلى «مستقر» ؟    وزير الثقافة: القيادة تدعم تنمية القدرات البشرية بالمجالات كافة    المدينة: ضيوف برنامج خادم الحرمين يزورون مجمع طباعة المصحف ومواقع تاريخية    3 أهلاويين مهددون بالإيقاف    «مجمع إرادة»: ارتباط وثيق بين «السكري» والصحة النفسية    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    «واتساب» يتيح التفريغ النصي للرسائل الصوتية    بحضور سمو وزير الثقافة.. «الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    تحفيزًا للإبداع في مختلف المسارات.. فتح التسجيل في الجائزة السنوية للمنتدى السعودي للإعلام    فعاليات متنوعة    111 رياضيًا يتنافسون في بادل بجازان    القِبلة    توقيع 19 اتفاقية وإطلاق 5 برامج ..وزير الصناعة: المحتوى المحلي أولوية وطنية لتعزيز المنتجات والخدمات    أمراء ومسؤولون يواسون أسرة آل كامل وآل يماني في فقيدتهم    الأكريلاميد.. «بعبع» الأطعمة المقلية والمحمصة    فرع وزارة الصحة بجازان يطلق حزمة من البرامج التوعوية بالمنطقة    مشكلات المنتخب    الخليج يُذيق الهلال الخسارة الأولى في دوري روشن للمحترفين    «صواب» تشارك في البرنامج التوعوي بأضرار المخدرات بجازان    القبض على مقيم لاعتدائه بسلاح أبيض على آخر وسرقة مبلغ مالي بالرياض    خسارة إندونيسيا: من هنا يبدأ التحدي    الحريق والفتح يتصدران دوري البلياردو    الأساس الفلسفي للنظم السياسية الحديثة.. !    معتمر فيتنامي: برنامج خادم الحرمين حقّق حلمي    سالم والشبان الزرق    الجمعان ل«عكاظ»: فوجئت بعرض النصر    المدى السعودي بلا مدى    إبر التنحيف وأثرها على الاقتصاد    «سلمان للإغاثة» ينظم زيارة للتوائم الملتصقة وذويهم لمعرض ترشح المملكة لاستضافة كأس العالم 2034    فيصل بن مشعل يستقبل وفداً شورياً.. ويفتتح مؤتمر القصيم الدولي للجراحة    وزير التعليم يزور جامعة الأمير محمد بن فهد ويشيد بمنجزاتها الأكاديمية والبحثية    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    "العوسق".. من أكثر أنواع الصقور شيوعًا في المملكة    سعود بن نايف يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشاريع توطين اليهود من البرازيل إلى فلسطين . المنشأ الأوروبي للصهيونية ومراحل تهويدها
نشر في الحياة يوم 25 - 12 - 2003

تعرض هذه الدراسة للنشأة الأوروبية للفكرة الصهيونية ومشاريع توطين اليهود وبدايات انتقالها الى الصهاينة اليهود مع عقد المؤتمر الصهيوني الأول، وصولاً إلى إصدار بريطانيا وعد بلفور عام 1917 بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، كون صدور هذا الوعد جاء تتويجاً لكل تلك الأفكار والدعوات والمشاريع الأوروبية. فإسرائيل التي أعلن عن إقامتها في 15 أيار مايو عام 1948 موجودة كفكرة منذ 300 عام تقريباً وموجودة كمشروع منذ 200 عام إذا ما انطلقنا من نداء نابليون الشهير ومنذ 100 عام إذا ما انطلقنا من تاريخ عقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بال السويسرية عام 1897.
يجمع الباحثون في تاريخ الصهيونية وإسرائيل، سواء من اليهود أو الأوروبيين أو العرب، على ان الصهيونية كفكرة ودعوة ومشروع نشأت وانتشرت بين الأوروبيين من غير اليهود، واستغرقت عملية بلورتها ومن ثم بثها نحو الأوساط اليهودية للقبول بها والموافقة عليها واعتمادها أكثر من 200 عام من الجهد والعمل الديني والفكري والسياسي والجغرافي المتواصل، تم بعدها تهويد الفكرة والتصور والدعوة مع عقد المؤتمر الصهيوني الأول الذي ضم قادة الجماعات اليهودية المتصهينة. ويعتبر الكاتب والناشط اليهودي الصهيوني ناثان بيرنبام أول من صاغ لفظ الصهيونية كاسم أو مفهوم معبر عن الفكرة والمشروع يخفي الجذر الأوروبي غير اليهودي لها.
مضى على نشأة الصهيونية تاريخ طويل يمكن تمييز مراحل عدة فيه، وخلال ذلك انتجت الصهيونية صهيونيات تعد بالعشرات، وقد تستمر بإنتاج المزيد بحسب الظروف والمتغيرات والتطورات الزمانية والفكرية والاستراتيجية والتكتيكية. ومن أبرز هذه الصهيونيات: صهيونية الاغيار وهي الصهيونية المؤسسة، والصهيونية السياسية، والصهيونية العملية، والصهيونية التوفيقية، والصهيونية الثقافية، والصهيونية الدينية، والصهيونية العمالية، والصهيونية الراديكالية، والصهيونية التصحيحية، والصهيونية الروحية، والصهيونية المتوحشة موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية للدكتور عبدالوهاب المسيري. ونتيجة لذلك يصعب وضع تعريف معبر وجامع مانع للصهيونية ولكل ما نتج أو تفرع عنها. وما يزيد من صعوبة تعريفها كونها لا تزال قادرة على انتاج او تفريع المزيد من الصهيونيات، الأمر الذي يجعلها تبدو كإشكالية قائمة بذاتها بسبب ما فيها وما يحيط بها وينتج منها من التباس وإبهام وغموض كبير وبسبب ما لها من مداخل ومخارج كثيرة.
وأطلق الباحثون والمؤرخون على الدعوات والنشاطات الصهيونية الأولى التي انتشرت في الدول الأوروبية الغربية مسميات عدة أبرزها: الصهيونية المسيحية والصهيونية غير اليهودية أو صهيونية الاغيار والصهيونية الاممية أو العالمية والصهيونية الأوروبية، إلا ان هذه التسميات، وإن كان بعضها صحيحاً بعض الصحة، لا تعبر بدقة عن تلك الصهيونية. والمصطلح الأكثر دقة هو الصهيونية الغربية لكونه الأكثر تعبيراً عن منشأ الصهيونية فكرة ومشروعاً. اذ نشأت في الغرب سواء في أوروبا الغربية أو الولايات المتحدة، وما زالت إلى اليوم تنمو وتترعرع وتجد كل سبل الحماية والدعم منه.
ويتضمن تاريخ الصهيونية الغربية كماًَ كبيراً من التواريخ بدءاً من القرن السادس عشر من تطور هذه الصهيونية عبر مراحلها المختلفة بدءاً من الإصلاح الديني البروتستانتي وتعبيراته اليهودية مروراً بما انتجته الثقافة الغربية من فكر وأدب، وصولاً إلى البلورة السياسية للفكرة. وفي ما يأتي جملة تواريخ مهمة تظهر تطور الدعوة السياسية لهذه الصهيونية:
1- في عام 1649 أرسل اللاهوتيان الانكليزيان جوانا وايبنز كارترايت نداء من هولندا إلى الحكومة البريطانية جاء فيه: "ليكن شعب انكلترا وسكان الأراضي المخفوضة أول من يحمل أبناء وبنات إسرائيل على سفنهم إلى الأرض التي وعد الله بها أجدادهم إبراهيم واسحق ويعقوب لتكون ارثهم الأبدي".
2- في عام 1622نشر هنري فينيش، وكان المستشار القانون الأول في انكلترا، دراسة عن الاستعادة الكبرى للعالم يدعو فيها الى استعادة إمبراطورية الأمة اليهودية.
3- في الدنمارك حض هولغر بولي ملوك أوروبا على القيام بحملة صليبية جديدة لتحرير فلسطين والقدس من الكفار وتوطين اليهود وارثيها الأصليين الشرعيين. وفي عام 1696 قدم خطة مفصلة إلى ملك انكلترا وليم الثالث طالباً منه ان يعيد احتلال فلسطين ويسلمها لليهود لإقامة دولة خاصة بهم.
4- في عام 1818 دعا الرئيس الأميركي جون آدامز إلى استعادة اليهود لفلسطين وإقامة حكومة مستقلة لهم.
5- في عام 1839 أصدر بالمرستون الذي شغل منصبي وزارة الخارجية ورئاسة الوزراء في بريطانيا تعليمات إلى القنصل البريطاني في القدس وليام يونغ بمنح اليهود في فلسطين الحماية البريطانية لضمان سلامتهم وصيانة ممتلكاتهم وأموالهم.
6- أثناء عقد مؤتمر الدول الأوروبية في لندن عام 1840 قدم اللورد شافتسبري مشروعاً إلى بالمرستون سماه مشروع "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" داعياً إلى ان تتبنى لندن إعادة اليهود إلى فلسطين وإقامة دولة خاصة بهم ومحذراً من انه لو تقاعست بريطانيا عن تنفيذ هذا المشروع، فإن هناك احتمالاً كبيراً لتنفيذه على يد دولة أخرى كروسيا مثلاً. وتبنى بالمرستون خلال المؤتمر مشروعاً يهدف إلى "خلق كومنولث يهودي في النصف الجنوبي من سورية، أي فوق المساحة التي شغلتها فلسطين التوراتية".
7- في عام 1844 ألف البرلمان الانكليزي لجنة "اعادة أمة اليهود إلى فلسطين"، وفي العام نفسه تألفت في لندن "الجمعية البريطانية والأجنبية للعمل في سبيل إرجاع الأمة اليهودية إلى فلسطين". وألح رئيسها القس كريباس على الحكومة البريطانية كي تبادر للحصول على فلسطين كلها من الفرات إلى النيل ومن المتوسط إلى الصحراء.
8- وفي عام 1845 قدم إدوارد ميتفورد، الذي كان يعتبر من أخلص أنصار بالمرستون، مذكرة إلى الحكومة البريطانية يطلب فيها "إعادة توطين اليهود في فلسطين بأي ثمن، وإقامة دولة خاصة بهم تحت الحماية البريطانية".
9- وفي نهاية الستينات من القرن التاسع عشر بدأ الألمان إنشاء مستعمرات ألمانية في فلسطين أشرفت على تأسيس غالبيتها "جمعية الهيكل" الألمانية التي تأسست في القرن السابع عشر كحركة دينية إصلاحية في الكنيسة الانجيلية الألمانية.
10- في عام 1887 أسس بلايستون في شيكاغو منظمة "البعثة العبرية نيابة عن إسرائيل" لحض اليهود على الهجرة إلى فلسطين، ولا تزال هذه البعثة قائمة باسم الزمالة الأميركية المسيحية.
ترافقت هذه الدعوات مع جملة نشاطات ثقافية واستكشافية لفلسطين أهمها إصدار الكتب وتشكيل اللجان والجمعيات الدينية والثقافية والسياسية وحتى الجغرافية كما هي الحال بالنسبة الى انشاء صندوق اكتشاف فلسطين. وأبرز كتاب صدر في القرن السادس عشر هو كتاب مارتن لوثر بعنوان "عيسى ولد يهودياً" الذي صدر عام 1523 وأعيد طبعه سبع مرات في العام نفسه، وشرح فيه المواقف المؤيدة لليهودية ودان اضطهاد الكنيسة الكاثوليكية لليهود محتجاً بأن المسيحيين واليهود ينحدرون من أصل واحد.
وصدرت بعده الكتب الآتية:
1- كتاب توماس كلارك "فلسطين لليهود" الذي أبرز ان استيلاء اليهود على فلسطين بحماية بريطانيا ضرورة قصوى.
2- كتاب هو لنغورث "تاريخ اليهود في فلسطين" الصادر عام 1852 ويدعو إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين لحماية طريق الهند.
3- كتاب وليام بلاكستون، الذي يعد من أبرز الصهاينة غير اليهود في أميركا، بعنوان "عيسى قادم" وصدر عام 1878.
4- كتاب لورانس ليفانت في عنوان "أرض جلعاد" وصدر عام 1880 وضمّنه آراءه وأفكاره بخصوص توطين اليهود في فلسطين، ودعا إلى طرد العرب ليعودوا رعاة كما كانوا في الواحات الصحراوية.
5- دراسة القس ويليام هشلر في عنوان "ارجاع اليهود إلى فلسطين بحسب ما ورد في أسفار الأنبياء" والتي نشرها عام 1884. وكانت في حوزته خريطة ضخمة لفلسطين وصفها تيودور هرتزل بأنها "خريطة عسكرية متداخلة". واقترح على هرتزل ان تتسع الدولة اليهودية لتصل حدودها إلى قبادوكيا الواقعة شرق آسيا الصغرى شمالاً وقناة السويس جنوباً اضافة إلى الضفة الشرقية للأردن لتتاخم حدودها الشرقية الحدود العراقية.
6- كتاب ديفيز تريتش في عنوان "دليل فلسطين" وصدر عام 1905 وتضمن فصلاً في عنوان "تعريف فلسطين" بدأه بالإشارة إلى ان تسمية فلسطين تعني منطقة جرى تحديدها في أوقات متفرقة ومن مصادر متعددة، ونبه إلى ان أرض إسرائيل التي غالبا ما يجري إطلاقها على فلسطين لا تدل على فلسطين بل على أرض السبي أو الاسر التي تعني تلك المقاطعات المعينة لسكنى اليهود في بابل. حتى انهم كانوا يتحدثون هناك عن هذه وتلك بقولهم: لنذهب من أرض إسرائيل إلى فلسطين، وهو يرى ان فلسطين العثمانية تتألف من القسم من ولاية بيروت الواقع إلى الجنوب من متصرفية جبل لبنان المستقل، ومن القسم من ولاية دمشق الواقع من جنوب جبل حرمون، ومن متصرفية القدس الخاضعة لحكم الآستانة مباشرة، ومن الرقعة الخاضعة للإدارة المصرية التي تعتبرها الجغرافيا المصرية جزءاً من شبه جزيرة سيناء.
وبعد مرور نحو 100 عام على بذر مجموعة الأفكار والرؤى الصهيونية الغربية ونشرها بدأت هذه الصهيونية بالتعبير عن ذاتها من خلال مجموعة نشاطات ومشاريع توطين لليهود. وشملت هذه المشاريع ما يزيد على 29 بلداً في القارات الخمس من استراليا إلى آسيا وافريقيا وأوروبا وحتى القارة الأميركية بقسميها الشمالي والجنوبي، وتركز معظمها في الدول العربية بالدرجة الأولى تليها الدول الافريقية. وعلى رغم كثافة الكتابات عن اليهود وفلسطين، إلا ان معظم تلك المشاريع كان خارج فلسطين وبعيداً منها، وفي ما يأتي عرض موجز لهذه المشاريع بحسب التسلسل الزمني.
1- مشروع نونيزا فونسيكا عام 1625 لتأسيس مستعمرة يهودية في كوراساو، ووافق مجلس هولندا على المشروع وتم توطين اليهود في سورينام في إطار مماثل.
2- في عام 1659 منحت شركة الهند الغربية الفرنسية تصريحاً لديفيد ناسسي لتأسيس مستعمرة يهودية في كايين.
3- في عام 1790 اقترح كاتب بولندي توطين اليهود في أوكرانيا التابعة لبولندا.
4- في نهاية القرن الثامن عشر ظهرت اقتراحات بتأسيس دولة يهودية في غرب أميركا، في اركنساو أو اوريغون، واقتراح اليهودي الأميركي مانويل نوح عام 1797 بإقامة دولة عبرية رمزية ارارات في جزيرة ايسلندا الكبرى قرب بوفالو.
5- أما أبرز المشاريع في نهاية القرن الثامن عشر فتمثل في دعوة - مشروع نابليون بونابرت اليهود للالتحاق بجيشه والمحاربة من أجل إقامة دولة لهم في فلسطين برعاية وحماية فرنسيتين. وتعد هذه أهم المشاريع التي عرضتها الصهيونية الأوروبية غير اليهودية قبل صدور وعد بلفور عام 1917. اذ كان بونابرت، كما تقول ريجينا الشريف "أول رجل دولة يقترح إقامة دولة يهودية في فلسطين قبل وعد بلفور ب 118 سنة". ولعل طبيعة شخصية نابليون وطموحه الإمبراطوري التوسعي، خصوصاً في المشرق العربي هي التي لعبت الدور الحاسم في استعجال فرنسا بلورة الفكرة الصهيونية في مشروع دولة لليهود في فلسطين.
فشل نابليون أمام أسوار عكا عندما عجز عن اقتحامها، ومن ثم فشلت حملته كلها على مصر واضطرت قواته إلى مغادرتها بعد ثلاث سنوات فقط من غزوها بعد ان اضطر هو إلى الهرب منها والعودة إلى فرنسا وقد تحطمت آماله في إمبراطورية فرنسية في الشرق تأخذ على عاتقها إقامة دولة لليهود على أرض فلسطين لتكون مرتكزاً وقاعدة لهذه الإمبراطورية. والأهم من ذلك ان يهود أوروبا، كما يهود الشرق، لم يبدوا اهتماماً كبيراً بدعوات او نداءات نابليون الصهيونية، ربما لأن الصهيونية لم تكن قد تبلورت بعد كفكرة وليس فقط كمشروع سياسي بين اليهود أنفسهم، ولم تكن قد تبلورت بينهم فكرة انهم شعب أو أمة ذات حقوق سياسية، فالظروف الذاتية لكل من فرنسا واليهود ومعها الظروف الموضوعية العربية والدولية أسهمت في فشل حملة نابليون وحالت دون تحقيق أهدافها الفرنسية أولاً واليهودية تالياً.
بعد مرور نصف قرن على فشل نابليون بونابرت في مصر تمكنت فرنسا بقيادة الإمبراطور نابليون الثالث من الحصول على امتياز شق قناة السويس عام 1854 مستعيدة من جديد نياتها الاستعمارية السابقة في مصر والمشرق العربي وسط تنافس شديد مع بريطانيا التي بلورت أكثر الفكرة الصهيونية، وبلورت معها مشاريعها من أجل السيطرة لاحقاً على المنطقة، وتحديداً قبرص التي احتلتها عام 1878 ومصر التي احتلتها عام 1881. واستعاد الإمبراطور الفرنسي الجديد ما فعل سابقه في شأن فكرة توطين اليهود في فلسطين. وظهرت هذه الاستعادة من خلال شخصيتين قريبتين منه، أولهما جان دونان الذي أسس في باريس "جمعية استعمار فلسطين" وثانيهما ايرنست لاهران الذي دعا في عام 1860 إلى بناء دولة يهودية في فلسطين تحت حماية فرنسا "تمد حدودها من السويس إلى ميناء ازمير بما في ذلك كامل المنطقة غربي جبال لبنان". لكن هذه الاستعادة لم تسفر عن شيء، إذ سرعان ما تلاشت بسبب قوة بريطانيا العظمى واستباقها لفرنسا في التموضع الاستراتيجي في المنطقة قبرص ومصر من جهة واستقطابها بقوة للفاعلية الصهيونية اليهودية الناشئة. ومع تلاشي هذه الاستعادة لم تعد فرنسا ثانية إلى الاهتمام بفكرة توطين اليهود في فلسطين أو سواها، وظهرت وكأنها أدارت الظهر للمسألة.
6- بعد احتلال بريطانيا لقبرص عام 1878 بدأ الصهاينة التفكير بالاستيطان فيها بذريعة انها بحسب التلمود جزء من فلسطين. وقام ديفيز تريتش الداعية الصهيوني للاستيطان فيها بزيارة لها لتفحص الأوضاع فيها وأنشأ لجنة في برلين عرفت باسم "لجنة استعمار قبرص". ثم جرت محاولة لتوطين بعض اليهود الرومانيين فيها كخطوة أولى لتحقيق "فلسطين الكبرى". وكتب هرتزل في يومياته "سنحتشد في قبرص وننطلق منها في يوم من الأيام إلى أرض إسرائيل لكي نستولي عليها عنوة، كما أخذت منا في قديم الزمان". وعرض الاستيطان في قبرص في المؤتمرات الصهيونية الثلاثة الأولى.
7- في عام 1889 بدأ المتمول اليهودي الألماني الأصل بول فريدمان استعدادات فعلية لتوطين اليهود بالقوة العسكرية في منطقة مدين الواقعة شمال غربي السعودية والمتاخمة لمدينة العقبة الأردنية، بعدما خضعت للإشراف البريطاني وأتبعت ادارتها لمركز السويس. وتأثر فريدمان بكتاب ريتشارد بورتون "أرض مدين" ووضع هو نفسه كتاباً بالعنوان ذاته بعدما زار المنطقة وحصل على موافقة المعتمد البريطاني في مصر اللورد كرومر على إنشاء مستوطنات يهودية في تلك المنطقة لحل مشكلة يهود أوروبا الشرقية. وفشلت المحاولة بعد ما واجهته من اعتراض ومقاومة من سكان المنطقة ومن السلطات العثمانية ومن معارضة شديدة من بعض كبار الرأسماليين اليهود.
8- وضع د. لوفنثال عام 1890 خطة واسعة ومفصلة لهجرة جماعية يهودية كبيرة نصف مليون يهودي روسي إلى الأرجنتين للاستيطان هناك على مساحة 2.5 مليون من الكيلومترات المربعة. وأنشئت مستعمرة مويزفيل في اقليم سانتا في الزراعي الخصب، اضافة إلى الكثير من المستوطنات الأخرى، ثم امتدت هذه الشبكة من المستوطنات بحلول سنة 1914 إلى مقاطعات أخرى وكانت غالبية مستوطنيها من يهود أوروبا الشرقية.
يذكر هنا ان هرتزل اختار الأرجنتين في كتابه "دولة اليهود" لتكون أحد الموقعين المحتملين لإقامة الدولة اليهودية، أما الموقع الآخر فكان فلسطين.
9- في عام 1891 وجه ماكس بودنهايمر نداء إلى أثرياء اليهود لإنشاء شركة استيطانية تعمل على توطين يهود أوروبا الشرقية في منطقة سهل البقاع اللبناني مقترحاً استقرار اليهود على جانبي الخط الحديدي بين بيروت ودمشق.
10- وفي عامي 1892 أسست الجمعية اليهودية للاستيطان في كندا مستوطنة هيرش في مقاطعة ساسكاتشوان، وتم تأسيس مستوطنات أخرى في مقاطعة مانيتويا، كما تم تأسيس فرع كندي للجمعية للإشراف على العدد المتزايد من مشاريع الاستيطان هناك. وغدا فرع الجمعية الكندية مع حلول عام 1910 مسؤولاً عن خمسة مشاريع استيطانية يهودية رئيسة، لكن الحكومة الكندية رفضت فيما بعد ان تبيع مساحات واسعة من الأراضي للجمعية، وبذلك منعت تزايد انتشار المستوطنات اليهودية.
11- في عام 1893 قام هنري دي أفيغدور بمحاولة لشراء مساحات من الأراضي في منطقة حوران السورية لتكون قاعدة للاستيطان اليهودي، لكن المحاولة فشلت نتيجة معارضة الدولة العثمانية وعدم تحمس الزعماء اليهود لمشروع لا يحظى بحماية قوة كبرى. 12- وفي العام نفسه قدم أفيغدور التماساً إلى السلطان عبدالحميد نيابة عن "جمعية احباء صهيون" للسماح بتوطين اليهود في منطقة شرق الأردن وذلك بعدما منعت السلطات العثمانية أعضاء الجمعية من شراء الأراضي في فلسطين أو الاستقرار فيها في شكل دائم. وفي الوقت نفسه وضع بوهلندوف، وهو صهيوني ألماني، خطة لتجميع أكبر عدد ممكن من اليهود في شرق الأردن للاستقرار فيها وشن غارات منظمة على سكان المنطقة لحملهم على الرحيل تمهيداً لوضع أساس دولة يهودية هناك.
13- اقترح هرتزل في تشرين الأول اكتوبر 1902 على وزير المستعمرات البريطاني جوزيف تشمبرلين مشروع مستعمرة يهودية في العريش وفي سيناء. وقال في مذكرة للحكومة البريطانية "سيكون لانكلترا عشرة ملايين عميل من أجل عظمتها وسيطرتها". إلا ان المشروع فشل بسبب رفض الحكومة المصرية وفتور الجانب البريطاني.
14- في تموز 1903 أجرى هرتزل اتصالات مع فرانتز فيليبسون، وهو مستثمر يهودي بلجيكي كان يمتلك احتكارات كبيرة في الكونغو، بغرض استمالته لتأييد فكرة إقامة دولة يهودية في الكونغو التي كانت محتلة من بلجيكا والتوسط لدى ملك بلجيكا لتبني المشروع.
15- خلال عامي 1903 و1904 حاول هرتزل إقناع السلطان العثماني باستيطان اليهود في جنوب العراق، إلا ان السلطان رفض فكرة الاستيطان اليهودي الجماعي مبدياً موافقة على الاستيطان في شكل فردي وفي مناطق مختلفة داخل العراق أو خارجها شرط ان يحصل المستوطنون اليهود على الجنسية العثمانية.
16- في عام 1903 اقترحت الحكومة البريطانية مشروع إنشاء مقاطعة صهيونية في شرق افريقيا كينيا حالياً وهو المشروع الذي عرف باسم "مشروع أوغندا" في وقت تزايد النشاط الاستعماري الألماني والإيطالي في المنطقة. وكان مفترضاً ان تكون المقاطعة محمية خاضعة للتاج البريطاني يحكمها حاكم يهودي وكانت ستسمى "فلسطين الجديدة". ووافق المؤتمر الصهيوني السادس على المشروع على رغم ما شهده من صراع حوله، وحسم الصراع بأن سحبت الحكومة البريطانية اقتراحها بسبب معارضة المستوطنين البريطانيين في شرق افريقيا. ويقول خالد القشطيني ان المؤتمر شهد مناقشة حادة بلغت "درجة هاجمت فيها إحدى المندوبات المنصة ومزقت خريطة أوغندا التي وضعت للمرة الأولى وراء المتكلمين بدلاً من خريطة فلسطين". وفي عام 1903 أيضاً أجرى هرتزل اتصالاً مع رئيس وزراء النمسا للتوسط لدى البرتغال للسماح بتوطين اليهود في موزامبيق، وآثرت البرتغال آنذاك تجاهل الاقتراح. وكتب هرتزل في مذكراته: "سأعمل كل ما في وسعي للحصول على هذه الأرض الخاملة من الحكومة البرتغالية التي تعاني ضائقة مالية كبيرة... انني أرى ان الحصول على موزامبيق يهيئ لنا المجال للحصول من الحكومة البريطانية لقاء تنازل لها في ما بعد عن موزامبيق، على شبه جزيرة سيناء بأكملها مع مياه النيل صيفاً وشتاء وربما على قبرص معها. كل هذا في مقابل لا شيء".
18- اقتراح هرتزل على ملك إيطاليا عام 1904 توجه هجرة اليهود الفائضة نحو طرابلس الغرب ضمن قوانين إيطاليا وأنظمتها. وبتشجيع من بريطانيا استمرت الفكرة قائمة وكادت المساعي الصهيونية ان تكلل بالنجاح. وفي عام 1908 أرسلت المنظمة الإقليمية اليهودية بعثة من الخبراء لدرس أحوال برقة طمعاً باتخاذها مسرحاً إقليمياً للاستعمار اليهودي وإقامة مستعمرة يهودية قومية تتمتع بالاستقلال الذاتي في ليبيا.
19- في عام 1904 اشترت الجمعية اليهودية للاستيطان أراضي في مقاطعة ريو غراندي سول البرازيلية حيث تم تأسيس مستوطنة مساحتها 93 ألف هكتار.
20- وفي الوقت نفسه حصلت الجمعية ذاتها على بعض الأراضي في الولايات المتحدة وتم تنظيم بعض المستوطنات في ولايات نيويورك وبنسلفانيا. ومن أهم مشاريع الاستيطان في الولايات المتحدة تجربة مورد كاي نواه المسماة جبل ارارات لتوطين اليهود في غراند ايلاند. وقدم نواه التماساً للمجلس التشريعي الخاص بالولاية، وفي عام 1825 أرسل نداء ليهود العالم بأن يتبعوه إلى جبل ارارات. لكن دعوته لم تجد أي صدى بين الجماهير اليهودية.
21- في عام 1905 طلب ديفيز تريتش من السلطان العثماني السماح لليهود بالاستيطان في القطاع الساحلي من اضنه الذي يتاخم الشاطئ السوري، بيد ان السلطان رفض الفكرة.
22- بعد رفض مشروع اضنه انتقل تريتش إلى التفكير في جزيرة رودس التي كان يسكنها في ذلك الوقت نحو خمسة آلاف يهودي من أصل 30 ألف نسمة مجموع سكان الجزيرة، غير ان نصيب هذه الفكرة لم يكن أفضل من سابقتها.
23- في عام 1912 اقترح إسرائيل زانغويل على الحكومة البرتغالية توطين عدد من يهود روسيا وأوروبا الشرقية في مستعمرة انغولا، ووافق البرلمان البرتغالي على الاقتراح بالإجماع، إذ رأى فيه فرصة لتوطيد النفوذ الاستعماري في تلك المنطقة التي كان المستوطنون البرتغاليون يحجمون عن الاستقرار فيها على رغم أهميتها الحيوية بحكم موقعها المجاور لمناطق النفوذ الألماني والبريطاني.
24- عشية صدور وعد بلفور، تقدم طبيب يهودي روسي اسمه رتشتين في الثاني من أيلول 1917 باقتراح إلى الخارجية الفرنسية لإقامة دولة يهودية في الجزء الشمالي من منطقة الخليج العربي تشمل البحرين والاحساء وذلك من طريق تشكيل جيش يهودي قوامه 30 ألف مقاتل من يهود أوروبا الشرقية ويتخذ من البحرين قاعدة له من أجل خلق دولة يهودية على الخليج.
25- على رغم صدور وعد بلفور وبدء الاستيطان الصهيوني في فلسطين بادر اسحق ستانيبرغ الكاتب والسياسي اليهودي الروسي وأحد قادة تيار الصهيونية الإقليمية عام 1933 إلى تشكيل عصبة الأرض الحرة التي تبنت فكرة إقامة وطن قومي لليهود في أي مكان خارج فلسطين. وسعى إلى إقناع الحكومة الاسترالية بإقامة مستعمرة يهودية تتمتع بالحكم الذاتي في شمال غربي استراليا. إلا ان مساعيه باءت بالفشل فتقدم بخطة مماثلة إلى سلطات سورينام قوبلت هي الأخرى بالرفض التام.
26- وفي المؤتمر الصهيوني في افيان 1938 قدم اقتراح لتوطين 100 ألف يهودي في جمهورية الدومينكان، لكن الصهاينة أجهضوا العملية بعد البدء فيها بالفعل.
27- إضافة إلى كل ما تقدم يذكر حسن صبري الخولي ان من بين الأقاليم الأخرى التي دار حولها البحث للاستيطان اليهودي كلاً من إكوادور وبيرو وغينيا الجديدة ومدغشقر. ويستنتج مما تقدم ان الصهيونية كفكرة نشأت وترعرعت وتبلورت في مشاريع توطينية في أوروبا وتحديداً في غربها، واستغرق ذلك نحو قرنين من الزمان إلى ان تلقفها اليهود وانتظموا في اطرها الفكرية والتنظيمية وبدأوا التعاطي مع مشاريعها. وانتظمت في جمعيات وحركات ومن ثم تمشرعت في مشاريع توطينية من الأوروبيين بهدف:
1- تخليص أوروبا من اليهود خصوصاً بعد تزايد هجراتهم من جزئها الشرقي إلى الجزء الغربي اثر التطور الصناعي والتجاري الذي شهدته وما تبع ذلك من تطور في اتجاه تزايد النشاط الاستعماري في مختلف أشكاله بما فيه التوطيني كما حصل في أميركا واستراليا وجنوب افريقيا.
2- توطين اليهود في بقعة ما وإنشاء دولة لهم تكون محمية وتابعة وخادمة في الوقت ذاته للدولة الحامية والمانحة لهذا التوطين.
ان توطين اليهود وإقامة دولة خاصة بهم كان من الممكن ان يتم في أي بقعة من الأرض خارج أوروبا. فالحركة الصهيونية وحتى عقد مؤتمراتها الأولى وإنشاء المنظمة الصهيونية العالمية وغيرها من الهيئات الصهيونية وحتى مع بدء إنشاء المستوطنات اليهودية الأولى في فلسطين عكست هذا المنشأ الأوروبي الاستعماري التوطيني من خلال سعيها واستعدادها للقبول بوطن يهودي في أي مكان من العالم، وبالتالي فإن توطين اليهود لم يكن بالضرورة ليتم في فلسطين.
ان اختيار فلسطين لإنشاء وطن قومي لليهود فيها من جانب بريطانيا عام 1917 جاء اثر هزيمة تركيا وحلفائها في الحرب العالمية الأولى وإثر التوافق الذي تم بين بريطانيا وفرنسا، بصفتهما أكبر قوتين أوروبيتين خاضتا الحرب متحالفتين معاً، في شأن اقتسام المشرق العربي كما تبلور في اتفاقات سايكس بيكو عام 1916.
* كاتب فلسطيني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.