ازداد هذا الأسبوع، حجم الضغوطات التي مارستها حكومة بنيامين نتانياهو على الدول الأوروبية بهدف منعها من تبني مشروع قرار قدمه مندوب السويد، وفيه يطالب بإعادة تقسيم القدس لتكون عاصمتين لفلسطين وإسرائيل. وبما أن السويد تتولى حتى نهاية هذه السنة رئاسة دورة الاتحاد الأوروبي، فقد أصبح لمشروعها أهمية إضافية، خصوصاً أنه يعيد تأكيد وجهة نظر الدول الأوروبية الرافضة كل محاولات تهويد القدسالشرقية. وكان الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز قد زار القاهرة في محاولة لإقناع الرئيس حسني مبارك بضرورة تأجيل البحث في مستقبل القدس، والتركيز على تحقيق قيام دولة فلسطينية موقتة من دون حدود واضحة. ورفض الرئيس المصري هذه الخطة لأنها تعطي نتانياهو الوقت الكافي لاستكمال بناء المستوطنات في القدسالشرقية، وتغيير حدود القرار 242 بحيث تصبح الحدود الموقتة حدوداً نهائية. سفير فلسطين السابق في لندن وموسكو وواشنطن عفيف صافيه، يعتبر الموقف الأوروبي المُعلن تأكيداً لموقف تقليدي لم يتعرض للتغيير منذ سنة 1967. وفي رأيه أن توقيت عرض الموضوع يكتسب أهمية خاصة كونه يدعم سياسة الرئيس أوباما في صراع الإرادات. وهو يفسر عملية طرح مشروع السويد الأسبوع المقبل، بأنه انتصار أوروبي للرئيس الأميركي الذي فشل في منع نتانياهو من وقف انتشار المستوطنات في محيط القدسالشرقية. وادعى رئيس الحكومة الإسرائيلية أنه يعمل على توسيع ضواحي القدس، الأمر الذي يختلف عن بناء المستوطنات. ومثل هذه المزاعم ساعدت الفريق الذي تحتضنه وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون داخل الإدارة، على نسف سياسة أوباما التي يمثلها جورج ميتشل. مستشار الوزيرة كلينتون دنيس روس، جدد الاقتراح الذي قدمه في المؤتمر الثلاثي، يوم رفض ياسر عرفات منح إسرائيل حق الإشراف السياسي على القدس. وفي مذكراته عن تلك الاجتماعات يقول روس: «توصف القدس بأنها ثلاث مدن في واحدة. وهي مدينة مقدسة بالنسبة الى أبناء الديانات التوحيدية الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلام. والمعروف أنها تضم 57 موقعاً مقدساً في المدينة القديمة. وكان المنطق يقضي بضرورة التوصل الى تفاهم في شأن الطرق العملية الإدارية لحل مشكلة بلوغ الأماكن المقدسة، قبل الاتفاق على المسؤولية السياسية لإدارة المدينة». أبو عمار رفض اقتراح دنيس روس، ورأى فيه هيمنة سياسية على كل زوار القدس بحيث تصبح إسرائيل مشرفة على أبواب المدينة المقدسة. لذلك رفض حق سيادة إسرائيل، كما رفض الاقتراحات الأخرى المتعلقة بحق العودة، وإقامة شريط ضيّق على طول نهر الأردن يمكن إسرائيل من عزل الأردن عن الدولة الفلسطينية. مضمون مشروع قرار الاتحاد الأوروبي يدعو الى إعادة تقسيم القدس لتكون عاصمتين لفلسطين وإسرائيل. كما يدعو الى استئناف المفاوضات بهدف إقامة دولة فلسطينية مستقلة وديموقراطية وقابلة للحياة وتتمتع بتواصل جغرافي وتشمل الضفة الغربية وقطاع غزةوالقدسالشرقية كعاصمة لها. وبموجب المشروع، فإن الاتحاد الأوروبي سيؤكد رفضه أي تغيير في حدود 1967 إلا بموافقة الفلسطينيين، كما يكرر عدم اعترافه بضم القدسالشرقية لإسرائيل. خلال المفاوضات مع إيهود باراك وإيهود أولمرت، وافق الفلسطينيون على مبادلة المستوطنات القريبة من الجانب الشرقي للخط الأخضر بمناطق واقعة في الجانب الغربي من الخط وعلى رغم ذلك ظلت هناك نقطة حساسة عالقة هي السيادة على المدينة القديمة، وعلى الحوض المقدس. كما ظل مصير نحو ربع مليون فلسطيني جرى ضمهم في صورة أحادية الى إسرائيل موضع خلاف. كان الموقف الأميركي ولا يزال يعتبر القدسالشرقية مدينة محتلة يمكن أن يتحدد مصيرها في المفاوضات بين الطرفين. ومثل كل دول العالم إضافة الى مجلس الأمن، لم تعترف الولاياتالمتحدة مطلقاً بقرار إسرائيل نهب أكثر من 65 كيلومتراً مربعاً من أراضي الضفة الغربية. وغداة مصادقة نتانياهو على بناء الوحدات السكنية في المستوطنات، أعلنت دائرة الإسكان عن مناقصة لبناء 486 وحدة سكنية في مستوطنة «بسغات زئيف» شرق القدس. ورأت واشنطن في هذا التحدي إجهاضاً لمفاوضات السلام ونسفاً لعملية مبادرة السلام العربية وللتطبيع مع العالم الإسلامي. وقبل أن يدفن مشروع أوباما المستند الى مبادرة جنيف، قررت الدول الأوروبية تذكير إسرائيل بأن ضم القدسالشرقية ليس عملاً شرعياً، وإنما هو احتلال بكل المقاييس. في هذا السياق، حذر قاضي قضاة فلسطين الشيخ تيسير التميمي، من أن الصمت العربي والدولي تجاه سياسة نتانياهو في القدس، يشجع الحكومة الإسرائيلية على استكمال مخطط تهويد المدينة المقدسة وتغيير طابعها الجغرافي والديموغرافي. وأكد التميمي أن الحكومة الإسرائيلية تعمل على إلغاء معالم القدس العربية والإسلامية، خصوصاً في البلدة القديمة. وللدلالة على ذلك صادقت على هدم أكثر من 1700 منزل عربي خلال هذه السنة. قبل شهر تقريباً سرّبت إحدى الصحف الإسرائيلية خبراً مفاده أن حكومة نتانياهو شرعت في إعداد دراسة تهدف الى إقناع الفلسطينيين بأهمية مدينة رام الله كعاصمة بديلة من القدسالشرقية. وتركز الدراسة على التذكير بمواقف إسحق رابين الذي ثبت مدينة القدس بقسميها الغربي والشرقي، عاصمة أبدية موحدة لدولة اليهود، ومع أنه وافق على فصل الشأن السياسي عن الشأن الديني، ووعد المسلمين والمسيحيين بممارسة شعائرهم في ظل القانون الإسرائيلي، إلا أنه أخضع وعده لضرورات الأمن القومي. لهذا السبب لم يسمح لياسر عرفات بزيارة القدس خوفاً من الجماهير التي ستستقبله. كذلك لم يسمح في حينه لرئيسة وزراء باكستان بنيظير بوتو بالصلاة في المسجد الأقصى بسبب مواقفها السياسية المؤيدة للحق العربي. منذ عشر سنوات تقريباً أصدر «مركز دراسات الشرق الأوسط» في عمان، كتاباً موثقاً ضمنه مجمل المخططات التي اعتمدتها إسرائيل من أجل الاستيلاء على بيت المقدس. ويكشف الكتاب أن الهجرة اليهودية الى القدس تعود الى مطلع القرن التاسع عشر عندما كانت الدول الأوروبية – خصوصاً بريطانيا – تتدخل في شؤون الإمبراطورية العثمانية المتداعية. ويتحدث الكتاب عن الضابط البريطاني موشيه مونتفيوري الذي دشن عمليات بناء المستعمرات في وسط القدس عام 1839. وقد ادعى الضابط موشيه انه في صدد بناء مستشفى للعجزة، الأمر الذي أقنع السلطات العثمانية بالموافقة على بيعه قطعة الأرض. ومع نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، أُقيمت أحياء أخرى على امتداد الطرق المؤدية الى بوابات القدسالغربية منها والشمالية. وقد شيدت هذه الأحياء السكنية على أرض تم الاستيلاء عليها بالحيل والأموال المغرية. ومع دخول القوات البريطانية مدينة القدس (11 كانون الأول – ديسمبر – 1917) أنهى المخطط الصهيوني مرحلة مهمة على طريق محاصرة المدينة وزيادة سكانها اليهود. في عهد حكومة إيهود باراك طرح نائب وزير الدفاع أفرايم سنيه مشروعاً يقضي بإنشاء إدارة مدنية فلسطينية داخل البلدة القديمة تتولى الإشراف على الأماكن المقدسة مثل دولة الفاتيكان في روما. ودافع سنيه عن مشروعه بالقول إنه من الصعب على إسرائيل التوصل الى حل سلمي، ما دامت مسيطرة على الصخرة والحرم وكنيسة القيامة. أي على أقدس أقداس المسلمين والمسيحيين. لذلك أقترح إقامة إدارة مدنية فلسطينية على غرار دولة الفاتيكان في روما. بعد طرح هذه الفكرة تعرضت حكومة باراك لانتقادات لاذعة وصلت الى حد نزع الثقة. ولهذا اضطر الى التراجع، وإصدار بيان قال فيه إن موقفه من القدس لم يتغير، وإنها في نظره، ستبقى عاصمة موحدة أبدية لدولة إسرائيل. اللافت أن القدس عوملت معاملة خاصة في مختلف الحلول المتعلقة بالقضية الفلسطينية. وبحسب قرار التقسيم الذي اتخذته الجمعية العامة في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947، اعتُبرت القدس مدينة دولية. وفي حرب 1948 احتلت إسرائيل الجزء الغربي منها، وأصبح جزؤها الشرقي تحت سلطة المملكة الأردنية. وفي حرب 1967 اجتاحت إسرائيل الجزء الشرقي وكل الضفة الغربية، إضافة الى سيناء والجولان وقطاع غزة. في حزيران (يونيو) 1967 قررت حكومة إسرائيل توسيع مساحة بلدية القدسالشرقية من 6 آلاف دونم الى 71 ألف دونم. وعلى الفور ضمت المساحة الإضافية الى سيادتها بحيث أصبحت حدود القدس ممتدة الى «كفر عقاب» و «أبوديس» شرقاً، و «بيت جالا» جنوباً. ويسعى نتانياهو الى ضم سدس مساحة الضفة الغربية على أن تصل الى حدود مدينة أريحا والبحر الميت في الجنوب الشرقي. لهذا كرر ما قاله من قبله باراك ورابين من أن العاصمة الفلسطينية يجب أن تقوم في رام الله أو أبوديس. آخر عام 1991 داهمت الشرطة الاسرائيلية مبنى المحكمة الشرعية في القدس وسرقت سجلات تاريخية ودينية تتعلق بوثائق بيع وشراء أراضي في عهد الإمبراطورية العثمانية. وتتضمن هذه الوثائق أيضاً ملكية الوقف الإسلامي في القدس وعقود الزواج والطلاق المسجلة في المحكمة. وقال الشيخ سعد الدين العلمي في حينه إن سرقة الوثائق هي مقدمة للاستيلاء على البيوت الموجودة في الحي الإسلامي الذي يدّعي الإسرائيليون أنه الحي اليهودي القديم. وبما أن ملكية هذه البيوت تعود في غالبيتها الى دائرة الأوقاف الإسلامية، فإن دائرة الآثار الإسرائيلية منعت ترميمها بحجة الحفاظ على قيمتها التاريخية. كما أصدرت قانوناً يسمح للمستأجر أن يعيد تأجير البيت الذي يسكنه من دون علم المالك أو من دون أخذ موافقته. ومثل هذا القانون سهّل للسماسرة والمستوطنين استئجار هذه البيوت مقابل أجور خيالية. إضافة الى هذا، توجد عشرات المنازل المهجورة في أحياء الخالدية والسرايا وباب السلسلة. ويقدر عددها بأكثر من خمسمئة منزل. ومع نزوح السكان بحثاً عن الرزق في الخارج، أصبح انتشار البؤر الاستيطانية داخل البلدة القديمة سهلاً، خصوصاً بالقرب من المدرسة التوراتية «عطيرت كوهنيم» التي اشتهر أفرادها بالاستيلاء على كل بيت يخلو من أصحابه. بقي الحديث عن مشروع القرار الذي سيطرح الأسبوع المقبل على دول الاتحاد الأوروبي بهدف إعلان دولة فلسطينية من جانب واحد. ويبدو أن المأزق الذي أشار إليه هنري كيسنجر حول مخاوفه من وقوف إسرائيل والولاياتالمتحدة في جهة، بينما تقف كل دول العالم في الجهة الأخرى... هذا المأزق وصل إليه نتانياهو، مع فارق واحد هو أن إسرائيل وحدها أصبحت في جهة... بينما كل دول العالم في الجهة الأخرى! * كاتب وصحافي لبناني