الارتفاع غير المتوقع في منسوب «الوطنيتين» المصرية والجزائرية الذي كشفته مباراة منتخبي البلدين في الخرطوم قبل أكثر من أسبوعين، لم يكن نموذجاً اعتمده الأردنيون خلال مباراة منتخبهم مع المنتخب الإيراني نهار الأحد الفائت والتي أجريت في عمان وفاز فيها منتخبهم. لا بل ان منسوب الحماسة المنخفض في عمان لفوز المنتخب، ربما كان موازياً في دلالاته «المرضية» لذاك المنسوب المرتفع في كل من القاهرة والجزائر، إذ إن كلا المنسوبين صادر من دون شك عن معضلة وطنية، الأولى عبرت عن نفسها في هذا القدر من الاحتقان والثانية عبرت عن نفسها بقدر عالٍ من قلة الاكتراث. نعم شهدت عمان بعض مظاهر الاحتفال بفوز المنتخب، ولكن على زائر عمان في ذلك اليوم ان يبدي ارتياحاً لهذا القدر من «العقلانية» في استقبال الجمهور فوز منتخبه على منتخب بلد يربطه بالحكومة في الأردن قدراً من انعدام المودة على الأقل. قد يفترض المرء ان الانقسام الشيعي السني في المنطقة قد يغذي أو يُلهب مشاعر المشجع الأردني، في حين يجهل المرء فعلاً ماهية المادة التي غذت الكراهية التي سادت مباراة مصر والجزائر. وعلى رغم ذلك كانت عمان هادئة في ذلك اليوم، لا بل ربما كانت هادئة أكثر من أي يوم سبق. نعم كانت «عقلانية» الجمهور الأردني وراء ذلك الهدوء، لكن كان ثمة شيء آخر وراءه أيضاً. فعمان مدينة بغلبة أردنيين من أصل فلسطيني، ويعرف الجميع ان منسوب حماسة هؤلاء لمنتخبهم الوطني منخفض قياساً بحماسة الشرق أردنيين. وهذه المعادلة غير مهمة إذا ما كان المنتخب الوطني أداة قياسها، ففائدتها قد تكون أكبر من ضررها، إذا ما اعتمدنا المعيار المصري – الجزائري في تقدير النتائج. لكننا هنا نستحضرها في سياق قرار الملك الأردني عبدالله الثاني حل مجلس النواب، وما رافق ذلك من معلومات عن نية الملك تعديل قانون الانتخاب على نحو يتصل بشكل مباشر بالمعاني التي خلف انخفاض منسوب الحماسة للمنتخب في البيئة العمانية. سألت في ليلة الفوز تلك أكثر من أربعة سائقي سيارات تاكسي عن الفائز في المباراة، وتراوحت الإجابات بين «والله لا أعرف يا سيدي» و «لا أتابع مباراة كرة القدم» و «إيران تلعب جيداً لكنها خسرت لأنها ليست على أرضها»... وبما أنني مزود بحاسة تقصٍ «جيني» أحضرتها معي من لبنان، ذلك البلد الذي من الصعب على مواطن فيه العيش من دونها، فقد تبين لي ان السائقين الأربعة «أردنيون من أصل فلسطيني». لطالما كانت هذه معضلة الأردن التي لا يمكن زائر تفاديها. لكنها في هذه الأيام ملحة أكثر من أي مرحلة سابقة، وهي ملحة ليس بسبب تفاقمها أو تأزمها، إنما بسبب اقتراب استحقاقات تضعها في واجهة الهم الأردني. إذ لا جديد يذكر على مستوى العلاقات بين مركبي الهوية الأردنية، لكن ثمة جديداً على مستويات أخرى جعلت من المسألة أولوية على ما يبدو. فأي كلام عن تعديل في قانون الانتخاب هو المعادل البديهي بالنسبة للأردنيين لمسألة البحث في هوية أكثر من نصف السكان، ونحو نصف المواطنين. إذ إن المجلس النيابي المنحل لا يمثل هذه المعادلة، لا بل إنه لا يقترب منها من قريب أو بعيد. وقرار الملك مباشرة البحث في هذا المأزق لا يعني طبعاً مباشرته تغيير المعادلة على نحو يرأب الخلل، فالجميع يعلم وعلى رأسهم عبدالله الثاني ان ذلك دونه صعوبات وعقبات، وان مباشرته تقتضي ظروفاً مختلفة تماماً عن تلك التي تحيط بالأردن اليوم. ففي الوقت الذي يُلح فيه مأزق ثنائية الهوية في الأردن، ترتفع الأصوات محذرة ومهددة بأن أي تغيير في المعادلة اليوم سيعني اضطراباً لا يبدو ان أحداً يرغب فيه. نعم ستُواجه أي خطوة تتلمس تعديلاً في المعادلة الداخلية في الأردن بمقاومة يبدو أنها ستكون شرسة، ولكن في مقابل ذلك يدرك الجميع ومن بينهم أشد المتحفظين على تغيير المعادلة أن ثمة خللاً لا بد من رأبه. كما ويدرك هؤلاء انه ما عاد بالإمكان غض النظر عن هذا الخلل. وعلى رغم ذلك فإنه من المبكر الحسم بأن قرار حل مجلس النواب وإجراء تعديل يفضي الى تغيير في طبيعة التمثيل سيعني مباشرة الخطوة الصعبة المتمثلة في رأب الخلل. والترحيب العام بقرار حل المجلس لم يكن مصدره رغبة في إحداث التغيير بقدر ما كان تململاً من أداء المجلس والحكومة، فالسائق السبعيني الذي يعمل في الفندق والذي سبق ان خدم نحو عشرين عاماً في الحرس الملكي، وما زال محتفظاً بغترته الحمراء قال ان الملك عبدالله الثاني أسرع من والده في اتخاذ القرارات، وان هذا المجلس أعاق عمل الحكومة فسارع لتغييره. وكثيرون في عمان كانوا ينتظرون خطوة الملك ويستشعرون عدم قدرة مجلسهم النيابي على التعامل مع استحقاقات تواجه الأردن اليوم. أما المرجح في الخطوة فيتمثل في ان المجلس النيابي الحالي اُنتخب في ظروف لم تعد قائمة، وان التغيير الذي تم في قيادة المخابرات العامة وفي الديوان الملكي، يتطلب استكمالاً. واقعياً هناك معيقان لأي مسعى باتجاه تغيير المعادلة الداخلية، الأول يتمثل طبعاً بالمقاومة الشرق أردنية، وهذه تجد مشروعية فعلية في مقاومتها هذا التعديل. فبالنسبة لممثلي العصبية الشرق أردنية يعني تعديل الهوية انتقاصاً من دورهم في قيادة الدفة في بلد أُنشئ لهم، وتوطيناً كاملاً للاجئين، الذين هم مواطنون أردنيون بحكم القانون، ناهيك عن اللاجئين غير المجنسين، والذين سيبقون لاجئين على كل حال. والمقاومة الشرق أردنية لم تكتف على ما يبدو بعدة مقاومتها التقليدية، فهي واءمت بينها وبين متغيرات شهدتها عمان أخيراً. فاصطفت معترضة على عمليات الخصخصة التي باشرتها الحكومات الأردنية في السنوات الأربع الفائتة، وفق معادلة مقاومة التوطين، فالخصخصة استهدفت بيع أصول الدولة (الأردنية) الى القطاع الخاص (الفلسطيني). وانحازت نخب شرق أردنية الى حركة «حماس»، في خروج غير مسبوق عن الموقف الأردني الرسمي الذي ظل قريباً من حركة «فتح»، وذلك لاعتقاد سائد بأن «حماس» لن تدخل في تسوية تفضي الى إقامة دولة فلسطينية لا مكان فيها للاجئين في الأردن. أما المعيق الثاني في وجه الرغبة في تغيير المعادلة الداخلية الأردنية، فيتمثل من دون شك في عدم الاستعداد الفلسطيني لهذه الخطوة، وهنا نعني الأردنيين من أصل فلسطيني (مع التأكيد على الفارق بين عدم الاستعداد وعدم الرغبة). فأي رغبة في تسوية تهدف الى تصويب التمثيل ستترافق من دون شك مع قدرة الأردن على اختيار شريك في الدولة والهوية منسجم مع موقع المملكة ومع خياراتها. وهنا تبرز المعضلة، اذ لا يبدو ان ثمة شريكاً سياسياً لتسوية من هذا النوع إلا حركة «حماس»، وهي غير أردنية أصلاً. فالوجود الفلسطيني في الأردن، وعلى رغم مواطنيته شبه الكاملة لم يفرز ممثليه في السلطة لأسباب كثيرة. وعندما يستعرض المرء من يمكن ان يتولى التمثيل في حال وجود رغبة فيه لن يخرج إلّا باستنتاج واحد يتمثل في ان حركة «حماس» هي وحدها من يستطيع ذلك الآن. فهي بحكم فرعها الأردني (الإخوان المسلمون) استطاعت ان تفرض نفوذاً واسعاً في البيئة الفلسطينية في الأردن. لا يعني ذلك ان حركة «فتح» مثلاً عديمة الحضور في هذه البيئة، لكن الأخيرة لم تطرح نفسها يوماً، ولا سعت، منذ أيلول (سبتمبر) 1970 الى موطئ قدم لها في المعادلة الأردنية. هذه الحقيقة تطرح مأزقاً من جهة، ومهمة من جهة أخرى، ويتمثل المأزق بأن الأردن غير مستعد لأن يُخترق بنفوذ إقليمي تكون «حماس» جسراً له، أما المهمة فتتمثل في تحدٍ وسعي لإنتاج «شريك سياسي» يمثل البيئة الفلسطينية ولا يهدد موقع الأردن. وهذه المهمة، وان جاءت متأخرة، لا بد منها في عملية إصلاح التمثيل من دون ان يُهدد هذا الإصلاح التركيبة والموقع الأردنيين. تشعر في عمان ان ثمة أمراً لا يفاتح الأردنيون به أنفسهم، على رغم إقرارهم الضمني به. في مجالس السياسيين تستمع لحديث واقعي وجاف حوله، لكنه يبقى في مجال المسكوت عنه في أي خطوة عملية، أو تصريح سياسي، أو مناسبة عامة. الجميع يستعيض عنه بحقيقة ان الدولة ما زالت قادرة على ضبط نتائجه عبر موقعها الدقيق والقوي في المعادلة الاجتماعية. وإذا ما استبقنا تفسير نوايا الملك التي تقف وراء قرار حل مجلس النواب، وما قيل عن رغبته بتصويب التمثيل، نكون عندها قد اقتربنا من خطوة مفاتحة الأردنيين أنفسهم بهذا الأمر، ودور المواطنين الفلسطينيين في المملكة. وهنا لا نتحدث عن فئة اللاجئين غير الحائزين على الجنسية. طبعاً للمخاوف الشرق أردنية ما يبررها، فالشرق أردنيون عصب النظام وجنود العرش، ولن يتسرع أحد بالقفز من فوق مصالحهم. لكن أصحاب الأصول الفلسطينية صاروا جزءاً من تركيبة الأردن الحديث وأي نفي لهذه الحقيقة لن يخدم مستقبل الأردن. والمشكلة اليوم تتمثل في ان طمأنة طرفي الهوية الأردنية لا يجد ما يعضده في ما يجرى غربي الضفة. فخطوة إعطاء المواطنة الكاملة لفلسطينيي الأردن، المواطنين أصلاً، في ظل استمرار الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية، ومساعي بنيامين نتانياهو لعرقلة قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، يُضاعف المخاوف على المركب الشرق أردني في الهوية، إذ إن ذلك سيعني إرسال مزيد من اللاجئين الذين سيصبح توطينهم بحكم الأمر الواقع، وهو ما يُضاعف المخاوف على ذلك المركب. الواقعيون في الأردن من معارضي المواطنة الكاملة، يقرنون منح الحقوق السياسية لمواطنيهم من أصل فلسطيني برغبة إسرائيلية في دولة فلسطينية عاصمتها القدس، ومن دون مستوطنات في الضفة الغربية. ويقرون بضرورة استيعاب عدد من اللاجئين، ولكن لا بد من ثمن يدفعه المجتمع الدولي الى الأردن. أما المغالون في معارضة المواطنة الكاملة فيقترحون «حماس» بصفتها خيار الأردن لمنع «التوطين». والواقعيون يرون ضرورة استعمال الأردن أوراقاً في سياق الضغوط لمنع دفعه وحيداً ثمن عدم الالتزام الإسرائيلي بعملية السلام، إذ يعتقدون أن علاقة إيجابية مع حركة «حماس» ومع سورية من دون مغادرة المملكة موقعها في معسكر الاعتدال العربي تفيد في الضغط على بنيامين نتانياهو، خصوصاً ان مصلحة الأردن المعتدل والمنفتح على الغرب تتمثل بقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة وعاصمتها القدس. من المبكر الحسم بأن قرار حل مجلس النواب الأردني هو خطوة في هذا الاتجاه، لكن الذي يعرف الأردن يدرك ان بيدي الملك أوراقاً ليست بحوزة كثيرين في المملكة وخارجها. فالدولة التي يقف على رأسها قوية ومتماسكة على رغم الأزمات التي تعصف بها، وهو يستمد شرعية ملكه مما يتعدى قوة الدولة أصلاً، هذا في حين بلغ الوهن في عناصر الأزمة ومركباتها مبلغاً أعجزها عن مقاومة ما يُقرره الملك. فالإخوان المسلمون متنازعون داخل الهوية الأردنية، وممثلو النخب الشرق أردنية لا بديل عندهم عن خيارات الملك.