إن قارئاً قرأ قدراً كبيراً من الروايات، لهو أكثر استعداداً لأن يفهم الرواية التي يقرؤها أعمق من الشخص الذي لم يقرأ في حياته أية رواية، أو أنه لم يقرأ ما يكفي في هذا النوع الأدبي. هذه مسلمة في الدراسات النقدية الحديثة المتعلقة بالقارئ، ولا يعود السبب إلى اتهام القارئ بأنه لا يفهم ما يقرأ، أو أنه لا يدرك، أو لقصور في لغته أو في فهمه، إنما يعود السبب إلى أنه غير متمرس في قراءة الرواية من حيث هي نوع أدبي، وإنها لفضيلة أن يعرف القارئ ما يحاول أن يقرأه. يترتب على هذا أن تجربة القارئ السابقة في قراءة الرواية، وفكرته عما يفعله الروائي وهو يكتب الرواية تمكناه من قراءة الرواية، ولذلك فإن نصيحة أحد النقاد مفيدة للقارئ حين يقول: «بصرف النظر عن معتقداتي وممارساتي، يتعين عليّ أن أخضع عقلي وقلبي للكتاب إذا كان عليّ أن أستمتع به الاستمتاع كله، فالمؤلف يكوّن قارئه كما يكون ذاته الثانية، والقراءة الناجحة جداً هي تلك القراءة التي يمكن فيها للذوات المكونة - المؤلف والقارئ - أن تتوافق تمام التوافق». غير أن الرواية - والنص عموماً - قد تصبح عالماً يشارك القارئ في أحداثه وادعاءاته حين تؤثر في فيه، وقد أورد دافيد جاسير في كتابه الممتع «مقدمة في الهرمينوطيقيا» رد فعل القراء في بريطانيا الفيكتورية على رواية تشارلز ديكنز «الآمال الكبرى» حين حكم على العشيقين بيب و استيلا بالفراق مدى الحياة، حيث اضطر إلى كتابة نهاية أخرى للرواية. يعلق دافيد جاسير قائلاً: «يمكن لحياة الناس أن تتأثر بالنص بعمق، على رغم علمنا أنه النص مجرد اختراع، مجرد عالم خيالي. كذلك يمكن لهكذا نصوص وروايات خيالية، أن تكون ذات سلطة في حياتنا، رغم علمنا أنها بمعنى ما ليست صحيحة - ظن أن الترجمة الصحيحة هي ليست واقعية - بل تجدنا نؤمن بها وننقاد إلى عوالمها وإلى حياة شخصياتها القاطنة فيها». ينطبق تعليق جاسير بنحو مدهش على دونكيشوت، وهو نموذج القارئ الذي تحولت فيه روايات الفروسية الخيالية إلى سلطة. وأكثر من ذلك تحولت هذه الروايات إلى واقع، أي أن نصاً خيالياً أصبح واقعاً انغمر فيه القارئ دونكيشوت. والخلاصة من هذين المثالين أن القارئ فقد الوعي بالنص، بحيث لم يعد النص مكونا من كلمات. *** لقد قرأت هذه الرواية مرات عدة، وفي ترجمات عربية مختلفة تتوزع ترجمة عنوانها بين الصيغ التالية: «الآمال الكبيرة» و«الآمال الكبرى» و«آمال عظيمة». وفي كتاب جاسير السالف الذكر تُرجم العنوان إلى «توقعات كبرى». وقبل أن أتعلّم قراءة الرواية من حيث هي نوع أدبي يتطلب استراتيجيات قراءة خاصة - قرأتها في ضوء تجربة خاصة - حين قرأتها في ضوء تجربة خاصة كنت أشبه من يشاهد منظراً طبيعياً معلقاً في غرفة، لكنه لا يشاهد المنظر المرسوم إنما يشاهد وجود المنظر الطبيعي في الواقع. وحين قرأتها آخر مرة كت قد تعلّمت وتفهّمت الصدفة المختلقة في نهاية الرواية التي تجمع بين بيب واستيلا لتقول له: «إنها فكرت فيه أحياناً، وأنه جاء وقت لامت فيه نفسها، لأنها تجاهلت حبه الصادق أيام غرورها وجهلها، ولكنها الآن تحتفظ له بمكانة خاصة في قلبها». لا يمكن أن تُبرّر الصدفة إلا بكونها آلية معقدة من آليات القدر. وعلى رغم ما قيل عن الصّدف في الرواية من زاوية جمالية - روايات ميلان كونديرا على سبيل المثال - إلا أنها في «الآمال الكبيرة» تضع القارئ إزاء قوة جبارة، وسلطان مطلق يدبّر الأمور، يجمع ويشتّت، ولا يمكنه أن يفصح عما عزم عليه إلا في المكان المناسب واللحظة المناسبة، حيث يمكن أن يقال صدفة، وعلى أي حال لم شارلز ديكنز ليلجأ إلى الصدفة حلاً لمعضلة جمالية ما لم تحدث الصدف في الواقع. *** على العكس من كاتبها تشارلز ديكنز الذي يفضل روايته «ديفيد كوبرفيلد» وأغلب النقاد الذين يفضلون «منزل كئيب» أفضل «الآمال الكبيرة» فهي بسيطة وعميقة، وسهلة ممتنعة، وتركيبها معقد ودقيق على رغم بساطته الظاهرة، فالشخصية تظهر في علاقة قرابة في مكان ما من الرواية، ثم تظهر في مكان آخر في علاقة قرابة أخرى من دون أن يشعر القارئ بتعسّف العلاقة، ف«ماجويتس» المطلوب للعدالة يتكشف بهدوء أنه والد استيلا وزوج موللي خادمة المحامي، وكافل بيب نفسه. إنها نوع من الروايات التي ينطبق عليها وصف ماركيز لحكايات أمه. يقول: «أتذكر أنها كانت تروي لنا شيئاً في إحدى المرات، وبعد أن أتت على ذكر شخص ليس له أي علاقة بالموضوع، واصلت حكايتها بسعادة كبيرة من دون أن تعود إلى الحديث عنه، إلى أن وصلت إلى النهاية تقريباً. باف! ثم ظهر ذلك الشخص من جديد... فسيطر الذهول على الجميع، وتساءلت أنا: أين تعلمت أمي هذه التقنية التي تتطلب من أحدنا حياة كاملة ليتعلمها؟». *** في كل قراءة من قراءتي لم أقرأ هذه الرواية في ضوء عمل أدبي آخر، كأن يكون على سبيل المثل هاملت كما يقترح الناقد هارولد بلوم في كتابه: «كيف نقرأ ولماذا»؟ فمن وجهة نظره أن هاملت وبيب يعيان لوعة الدنس والشعور بالذنب. وإني لأظن أن هارولد بلوم يمارس في قراءته سرير بروكست ليس على هذه الرواية فقط، إنما على أغلب القصص والقصائد والروايات التي قرأها في ذلك الكتاب حين يعيدها كلها تقريباً إلى نصوص الكاتب الإنكليزي شكسبير. لا يمكن لرواية - والنص بوجه عام - أن يكيّف نفسه لقراءة واحدة فقط مقترحة من قبل آخرين، ذلك أن قراءة الرواية - والنص عموما - هي بمعنى ما قراءة القارئ الخاصة التي لا يمكن التنبؤ بها، لكن بلوم يصرّ على أن مفتاح قراءة هذه الرواية هو أن نقرأها كما لو كنا أطفالاً. يسأل: كيف نقرأ رواية الآمال الكبرى؟ ويجيب بالعناصر المتأصلة في مخاوف الإنسان وآماله وعواطفه. لتقرأ كما لو كنا أطفالاً ثانية. إن ديكنز يدعوك لأن تفعل هذا، ويجعله ممكناً لك. وعلى الضد مما يذهب بلوم أذهب إلى أن ما جعله أسبابا لقراءة هذه الرواية كالخجل ولوعة الدنس والشعور بالذنب. هي في الحقيقة نواتج عن سبب هو المعرفة، ذلك أن لقاء بيب واستيلا عرفته بنفسه التي كان يجهلها. فبعد سلسلة من الأحداث الصغيرة بينه وبين استيلا عاد إلى البيت ليصارح نفسه: «لم أكن أعرف من قبل أني من العوام إلا بعد أن أشارت استيلا إلى ذلك... ولم أكن أدري كم كان حذائي غليظاً... وكم كانت يداي خشنتان... وكم كان جهلي لأني لا أعرف الاسم الصحيح لورقة الولد في «الكوتشينة». وإذا ما جاز لي أن أقترح مبدأ لقراءة رواية كهذه فهو مبدأ «أعرف نفسك» مبدأ سقراط العظيم. * روائي وناقد سعودي.