على رغم الزيادة في العبارة التي اخترتها عنواناً لهذا المقال؛ إذ إن «الهبوط» يقتضي «من أعلى» ويتضمنه، إلا أنها تكررت في الآونة الأخيرة من قاصين وروائيين وشعراء عديدين وصفاً لما أكتبه من مقاربات بين حين وآخر. وأضاف بعض الكتاب عبارات وكلمات أخرى مثل: «الإرشيفية» و«حفظ المقولات» و«التصورات المسبقة» بوصفها قدحاً في المقاربات والقراءات التي أنشرها هنا. وفي هذا المقال، أود أن أتوقف عند هذه المقولات وأتفحّصها لأرى إلى أية خلفية تنتسب، وإذا ما كنا «كلنا» نهبط إلى النص ومؤرشفين وحافظي مقولات، وعند كل واحد منا تصورات مسبقة. من حيث المبدأ، ولأن الناقد هو قارئ أولاً وأخيراً، فيجب أن يعرف هؤلاء أن الناقد يشتغل بتأويل النصوص؛ وكما هو معروف فالتأويلية تدفع القارئ إلى أن يفكر بحذر في الطريقة التي تعود على أن يفكر بها، وهي تدعم طرق القارئ التي يرى ويدرك بها العالم، وبها يفكر وبها أيضاً يفهم. وأن لها جذوراً فلسفية تحدث عنها كثير من الفلاسفة في ال200 سنة الأخيرة، تُعْرف بنظرية المعرفة «الإبستيمولوجيا»، وتتعلق بالكيفية التي يزعم القارئ أنه يفكر بواسطتها لنعرف الحقيقة. وأن يكون النقد قارئاً وفي الوقت ذاته مؤولاً، يعني أنه يشتغل ضمن الدائرة التأويلية التي يُعبّر عنها دائماً بأن الجزء يساعد على فهم الكل، وأن الكل يساعد على فهم الجزء؛ فمن أجل أن يفهم القارئ نصاً ما لا بد أن يهتم بتفاصيله، لكن القارئ لا يمكن أن يعرف هذه التفاصيل من دون أن يرى بوضوح النص ككل. نحن حين نقرأ نبدأ بالفكرة الكبيرة، ثم نقرأ تفاصيل النص على ضوء هذه الفكرة، ونستعين بالنص لكي نثبّتها أو نعدلها أو حتى نغيرها ونستبدلها. تتعلّق بالتأويلية أن هناك بنية فهم مسبقة عند كل قارئ، وحُلّلت هذه البنية المسبقة إلى مكوناتها مراراً وتكراراً، وأشهر من قام بتحليلها هو الفيلسوف الألماني الكبير (مارتن هايدجر) في كتابه الأهم «الوجود والزمان»، فمن وجهة نظره تتكون بنية الفهم المسبقة من «الامتلاك المسبق»: أي أن يفهم المؤول النص الذي يؤوله فهماً عاماً، و«الرؤية المسبقة»: أي أن يثبت المؤول نظراته على ما يريد أن يؤوله في النص، و«التصور المسبق»: أي أن في استطاعة المؤول أن يؤول النص بموجب ما عنده من تصورات. وإذا أردت أن أمثّل لبنية الفهم المسبقة التي حللها هايدجر سأقول: يفهم الناقد الأدبي النص وهو فهم يشترك فيه مع عالم الاجتماع «فهم مسبق»، لكن الناقد يحمل «روية مسبقة» للنص الأدبي تختلف عن رؤية عالم الاجتماع، لأن الناقد ينظر إلى النص الأدبي وفق طبيعته الجمالية، وليس وفق دلالته على الحياة الاجتماعية، وأن عند الناقد «تصورات مسبقة» تختلف عن تصورات عالم الاجتماع تتركز في جمال النص الأدبي. يترتب على مكونات الفهم المسبق هذه؛ أعني الامتلاك المسبق، والرؤية المسبقة، والتصورات المسبقة، أن الناقد الذي يحاول أن يفهم نصاً أدبياً ما هو دائماً في حال شروع؛ وحينما يشرع في معنى النص ككل، فإنه يشرع حالما يطفو معنى أوّلي للنص، وأن هذا المعنى الذي طفا كان بسبب أن الناقد قرأ النص وهو محمّل بتوقعات تتعلق بمعنى ما. غير أن فهم الناقد المسبق يخوّله أن يبدأ فهماً جديداً؛ ذلك أن الناقد من حيث هو مؤول يستطيع أن يستبدل فهمه المسبق، وأن يبدأ فهماً جديداً يلائم ما يقرأ؛ أي أن بإمكان الناقد أن ينصرف عن المعنى المسبق الذي لا يؤيده النص، لذلك على الناقد ألا يبدأ بمعانٍ اعتباطية، إنما عليه أن يفحص أصل وصحة معانيه المسبقة. إنني أصف هنا وصفاً تقريبياً عملية التأويل ككل، وهو وصف ناقص من دون شك، لكن بإمكاني أن أؤكد على الأفكار التالية: الفكرة الأولى هي أن النص الأدبي ليس معروفاً للناقد بصورة أوتوماتيكية، بل يجب على الناقد أن يضع مرئياته وتصوراته التي يستطيع بها فهم النص؛ لذلك فتأويل الناقد هو بالضرورة تأويل فردي؛ أي لا يوجد ناقدان يؤولان نصاً واحداً ويصلان إلى المعنى نفسه؛ مما يعني أن التأويل الفردي للنص لا النص ذاته هو المسألة المهمة. الفكرة الثانية: هي أن الناقد لا يؤول النص تأويلاً اعتباطياً، إنما ينظم الناقد مرئياته وتصوراته بحيث يكون بعضها أكثر أهمية ويحظى بأولوية. يترتب على هذا أن الناقد يميل إلى التصورات التي تبدو أكثر فائدة في توسيع توقعاته عن معنى النص؛ لذلك فالتأويل يؤكد أن الناقد حر في أن يختار من بدائل معنى متعدد المعنى الذي يدعمه النص. الفكرة الثالثة: أن الناقد يغيّر تأويله في ضوء تقدّمه في قراءة النص، فإذا لم يجد الناقد دليلاً في النص على المعنى المسبق فإنه يتركه وينصرف إلى معنى آخر. وإذا ثبت للناقد عدم دقة معنى في ضوء تقدمه في قراءة النص، فإنه يعيد صياغته أو يغيره؛ ذلك أن الناقد كلما تقدم في قراءة النص خدمته القراءة في تصديق أو عدم تصديق توقعاته عن معنى النص. الفكرة الرابعة: هي أن الناقد يجب ألا يقرأ بعيون الإيمان كما يقول أحد منظري التأويلية، وهو ما يدعوه «هرمينوطيقيا الإيمان»: أي القراءة وفق تقاليد مقولبة ومهيمنة، إنما يجب أن يقرأ بعين الشك «هرمينوطيقيا الشك»، أي يقرأ بحذر وشك وتصميم على فحص صلاحية كل ادعاء في ضوء نور العقل. لو عرف هؤلاء القاصون والشعراء والروائيون طبيعة الفهم، وأن الفهم تأويل، وأن أفكار المؤوّل الخاصة توقظ النصوص الأدبية، وأن القراءة تعني أن نفكر بأنفسنا، وأن النصوص الأدبية ليست ما تقوله فقط، إنما أيضاً الطريقة التي تقوله بها، وأن النموذج هو مخطّط متخفّ، وأن النصوص لا تقول ما معناه مألوف سلفاً، إنما ما يمكن أن تقوله بوصفه معنى خاصاً. أقول: لو عرف هؤلاء كل هذا لما تفوّهوا بمثل تلك العبارات، ولعرفوا أنهم فقراء معرفياً، وأن الغرابة تكمن في أنهم يطلقون مثل تلك العبارات من غير أن يفحصوا طبيعة فهمهم ليجدوا أنهم هم أيضاً ينزلون إلى النصوص من أعلى، وأنهم حفظة وأرشيفيون، لا لشيء إلا لأن ذلك من طبيعة الفهم والتأويل، فنحن نخرج من النصوص بمقدار ما ندخله فيها من معارفنا وخبراتنا. * روائي وناقد سعودي.