يستحق المطرب العراقي الراحل ناظم الغزالي أن يلقب بصاحب «حداثة» غنائية، بل إنه كان «صوت العراق العاطفي» في القرن العشرين. فأغانيه ساهمت في تكوين «هوية مشتركة» قلّما توافق حولها العراقيون. في الظاهرة التي شكلها الغزالي يمكن تلمس مكامن العذوبة الروحية (تصويره الفاتن لمشاعر الحب في تجلياتها المكانية البغدادية والعراقية عموماً). كما يمكن تلمس الجرأة في تغيير ما بدا مقدساً من أشكال موسيقية ومنها «المقام العراقي» الذي جعله الغزالي أنيقاً وعصرياً وعلمياً، بعد صورة لازمته طويلاً (غالبية مؤدّي المقام العراقي كانوا أميين ومن بيئات ظلت منغلقة على يومياتها الداخلية). هو معشوق نساء الطبقة الوسطى العراقية في أزهى مراحل صعودها عبر قصص الحب المحلّقة في أغنياته، لكنه في الواقع عاش مخلصاً لزوجته المطربة سليمة مراد التي تكبره بسنوات كثيرة، في إطار علاقة غلبت عليها الرتابة. وهو في ذلك يشبه عراقيين كثراً ممن يبدون مهووسين بقصص حب شائقة، لكنهم في «أوقات الجد» ينتهون إلى بيوت الزوجية التقليدية. ولد الغزالي في بغداد عام 1921 بمحلة «الحيدرخانة»، لأم ضريرة اسمها جهادية توفيت في عامه الرابع. وفي السابعة من عمره توفي والده الذي كان يعمل خياطاً، فرعاه عمه محمد وكان يصحبه إلى المجالس الدينية و «الجالغيات» (الفرق الموسيقية العراقية التقليدية) التي كانت تقام في المقاهي وبيوت الأغنياء المشهورين. وبدأ يقارب الغناء بحسب ألحان كان صاغ بعضها معلم النشيد في المدرسة، حتى دخوله «معهد الفنون الجميلة» الذي تركه مضطراً بعد سنتين ليعمل موظفاً في البريد. ومع أن ناظم الغزالي ترك دراسته في «معهد الفنون الجميلة» وانشغل بالعمل الوظيفي، لكنه بقي يفكر في العودة إلى دراسة الموسيقى، حتى استأنف دراسته في معهد الفنون في عام 1947، وضمه عميد المسرح العراقي حقي الشبلي إلى «فرقة الزبانية للتمثيل». وكان لدراسته التمثيل في معهد الفنون الجميلة الأثر البالغ في تحصيله معرفة باللغة كبناء صوتي وعروضي وأداء سليم في نطق المفردة الشعرية وتوضيحها وتجنب إدغامها. وعندما تشكلت «فرقة الموشحات» بإشراف الفنان السوري علي الدرويش، أصبح الغزالي عضواً بارزاً فيها، وكان يقدم وصلات غنائية منفردة لحوالى ربع ساعة، وهو ما لم يكن يحظى به غيره من أعضاء الفرقة التي كانت واحدة من علامات الغناء العراقي في أربعينات القرن الماضي وخمسيناته. وما لبث الغزالي أن التقى وديع خونده (سمير بغدادي) الذي لحن له أغنيته الأولى «وين الكاه الراح مني»، ولكنها لم تقابل بما تستحق من نجاح. فعاد إلى المقام حتى التقى المرحوم جميل بشير الذي لحن له في عام 1955 أغنية «فوق النخل فوق»، فطارت شهرته إلى أمكنة عراقية لم يكن يصل إليها عادة مطربو المدينة، كما في الأرياف والمدن الأقرب إلى البادية. قدرة الغزالي على أن يكون مبتكراً للفرح والأمل، جاءت عبر تمرين حياتي طويل. فهو بعد ولادته يتيماً، عرف سبيله الشخصي إلى أن يكون على مستوى من الحضور الدافئ بين الناس على رغم البؤس الذي يعيشه، وكان ذلك عبر اندماجه سريعاً في العمل الوظيفي. وإحساسه بأن مواسم فرح مقبلة لم يكن إحساساً من فراغ، فشأنه شأن شباب جيله بدأ يتلمس معادلة مفادها أن الخروج من الوضع الحياتي الصعب ممكن، عبر العمل بجدية، فضلاً عن أهمية التحصيل العلمي لأنه كان على ثقة بموهبته وصَقلها عبر العمل والدراسة، لذا كان إحساسه العميق بالتفاؤل يبدو موضوعياً وطبيعياً. بعيداً من البكائية وفي سياق وعيه الفني الموسيقي، كان الغزالي أول مطرب عراقي يغني برفقة فرقة موسيقية خاصة به، فضلاً عن كونه ممن وجدوا في الأوركسترا قدرة على إظهار التفاصيل النغمية في الألحان. فأدخل إلى جانب الآلات التقليدية الشرقية، الآلات الهوائية مثل الساكسوفون، الكلارينيت، والآلات الوترية الغليظة مثل التشيلو والكونترباص والبانجو، إضافة إلى الآلات الإيقاعية. وشكلت الفرقة الموسيقية التي أصبحت ملازمة لحفلاته داخل البلاد وخارجها، تجمعاً لأفضل موسيقيي العراق وعازفيه فكان برفقته جميل بشير، منير بشير، غانم حداد، سالم حسين، خضر إلياس، روحي الخماش، فضلاً عن واضع ألحان عدد من أغنياته الملحن ناظم نعيم. وفي شكل الأداء، وضع الغزالي لمسات ظلت دالة عليه لجهة حركاته وإيماءاته أثناء الغناء، وجاءت تلك الحركات منسجمة مع النسيج الوجداني والنغمي للأغنيات، ولم تكن استعراضات خارجية، وبدت تلك الإيماءات تعبيراً صادقاً عن التفاعل الإنساني والوجداني الذي يبديه الغزالي مع جمالية النغم وتأثير المفردة الغنائية. ومن الملامح التي لا يمكن إغفالها في «الظاهرة» الغنائية التي شكلها الغزالي، هي تلك الانتقالات من أعمال غنائية عادية إلى مرحلة الصياغات الرقيقة في نصوص اعتمدت انتقاء المفردة الجميلة الذكية الراقية التي تدعو إلى الحب والجمال واللقاء بعيداً من «البكائية» والنواح التقليديين في الأغنية العراقية. وعبر تلك النصوص الغنائية الأقرب إلى العربية الفصحى، تمكن الغزالي من عبور «المحلية» ووصل إلى قطاع عريض من الجمهور العربي، وأصبح أحد أشهر «أمراء» الغناء العراقي، ومد ظل صوته على عموم البلدان العربية. ودارت أغنياته في مدارات الخليج وإذاعات بلدان كالكويت التي شهدت له جولات غنائية ستصبح مصدراً رئيساً لإبداعه المحفوظ، مثلما ردّد متذوّقو اللحن الجميل في لبنان وبلاد الشام ومصر والمغرب العربي قصائد مغناة أداها بتمكن. في الكويت التي زارها الغزالي شتاء عام 1963، وأحيا فيها حفلات ستظل وثيقة بارزة لنتاجه الغنائي النادر، وجد متعهد حفلات لبناني صوتاً أخاذاً في الغزالي، فتعاقد معه على إحياء حفلات عدة خلال الصيف في لبنان الذي سمي موسمه السياحي حينها ب «موسم ناظم الغزالي». وبعد لبنان كانت أوروبا وجهة الغزالي الذي جاب دولاً عدة فيها في سيارته الخاصة برفقته زوجته المطربة سليمة مراد. وفي أكثر من عاصمة أوروبية، كان الغزالي ينخرط في سلسلة من الحفلات واللقاءات الإذاعية. وبعدما بذل جهداً كبيراً قرر البقاء للراحة في بيروت بعد جولته الأوروبية ونزل في فندق «نورماندي» في منطقة الزيتونة المقابلة للبحر، حتى قرر العودة بالسيارة إلى بغداد برفقة صديقه الموسيقي سالم عبدالكريم، فيما فضلت زوجته سليمة مراد العودة بالطائرة لشعورها بتعب شديد. وفي الخامسة والنصف فجر العشرين من تشرين الأول (أكتوبر) 1963، قاد ناظم سيارته بصحبة سالم حسين فوصل إلى بغداد في الثانية من فجر اليوم التالي. ويبدو أن الرحلة الطويلة أسقطت قلب المغني الوسيم، على رغم أنه كان في الثانية والأربعين من عمره، وكان في قمة نضجه الفني والإنساني. في ظهيرة ذلك اليوم التشريني بثت إذاعة بغداد خبر وفاة الغزالي لينزل كالصاعقة على قلوب العراقيين، فذرفوا على أحد أعلام الموسيقى العراقية دمعاً غزيراً كان من نهر دموعهم الذي سيمتد لأكثر من 50 سنة، لم يتمكنوا بعدها، من الوصول إلى صوتهم «العاطفي» الذي كان يحمل إليهم كثير من الورد والعنبر.