شفاه تدندن تفاعلاً مع أنامل العازفين، ورؤوس تتمايل طرباً لكلمات ولحن متناغمين، هكذا كانت حال الحاضرين لحفلات بيت المقام العراقي في بغداد الذي أغلق قبل سنوات. رواد المقام العراقي والأجيال التي تبعتهم باتوا جزءاً من ذاكرة الاصالة، في بلاد تدرّبت على النسيان في زمن الأمن المفقود، بعدما تحولت الدار في بغداد الى مكان مهمل وهاجرت فرقه الى دول الجوار. بعض الفرق الصغيرة التي امتهنت غناء المقام، انتقلت الى اقليم كردستان، لتقديم حفلات هناك تستقطب عشاق هذا الفن الجميل الذي يزيد عمره على 400 سنة. يقول جميل أسعد أحد مطربي المقام العراقي: «لم يعد بإمكاننا الاستمرار في بغداد، فغادرنا للعمل في أحد مطاعم الاقليم، على أمل العودة يوماً ما». اضرام النيران في مقر مبنى المقام العراقي في الموصل أخيراً، كشف عن معاناة عميقة لهذا الفن الذي بدأ يحتضر تدريجاً في العراق منذ أن بدأ المتشددون بفرض ذوقهم على الشارع العراقي، حتى ان انحسار التشدد لم يشجع الفرق على العودة. المقام العراقي الذي صدحت به حناجر محمد القبانجي ويوسف عمر وهاشم رجب وناظم الغزالي وعشرات آخرين يتألف من فصول أهمها مقام بيات، هجاز، رَست، ونَوى أو حسني، وترتكز أدواته على ثلاث آلات هي آلة السنطور، والجوزة، والطبلة فضلاً عن آلة الرق، مع نص باللهجة العراقية. الغزالي كان من كبار المطربين العراقيين الذين ادوا المقام العراقي بإتقان كبير، إذ ما زالت الذاكرة العراقية تحفظ بعض تلك الاغاني امثال «ام العباية» و «مروا عليه الحلوين» وغيرهما. الريادة التي اشتهر بها فنانون رجال في هذا المجال لم يكن حكراً عليهم، فالنساء لعبن دوراً مماثلاً في هذا المجال، اذ غنت المطربة العراقية عفيفة اسكندر ألواناً من المقامات في خمسينات القرن الماضي، واشتهرت الفنانة فريدة بأدائها المقامات لسنوات طويلة ايضاً، وهي آخر مطربة عراقية اتخذت من المقام لوناً مميزاً لأغنياتها. وكان المقام العراقي بالنسبة الى عدد من الملحنين سابقاً، ركيزة أساسية لإنتاج قوالب غنائية جميلة من المقام، وبات منبعاً تنهل منه الاغنية العراقية في سبعينات القرن العشرين وثمانيناته. يقول الموسيقي سعد المياحي ان الملحنين الجدد اهملوا المقام في شكل كبير وباتوا يعتمدون على اللون الجديد للغناء الذي تسبب في ازمة كبيرة في التذوق الفني للأغنية العراقية. وباستثناء المطرب كاظم الساهر، لم يركز مطرب عراقي آخر من الاجيال الحديثة على اعتماد المقام في اللحن وفق المياحي. أما اليوم، فإن هذه الهوية المميزة للطرب العراقي، تراجعت وتحول مطربوها الى فرق صغيرة تجول الاماكن الآمنة بعيداً من ضجيج بغداد