لا يعود "كوكب الموسيقى" والغناء إلى جمهوره إلا بما هو جديدٌ وخلاق. المطرب العراقي الكبير كاظم الساهر يقدم مجموعة مقترحات موسيقية وفنية رفيعة في ألبومه الصادر حديثاً بعنوان قصيدة (لا تزيديه لوعة) للشاعر العراقي الرائد بدر شاكر السياب؛ مُسجلاً في هذا الألبوم سلسلة فتوحات موسيقية وغنائية على مستوى التجربة الساهرية ككل؛ في ألبومٍ، يكاد أن يكون "بانوراما الثقافات الموسيقية العربية" غنائياً؛ متنزهاً بين الإيقاعات والأشعار والكلمات السعودية والإماراتية والعراقية والمصرية واللبنانية, وواثباً لأول مرة إلى إيقاعات "التكنو ستايل" الغربية مع الأغنية الفصيحة (دلع النساء) للشاعر كريم العراقي, وهي التجربة المغامرة و"الجميلة" لكاظم في هذا الألبوم، خصوصاً وأن هذا النمط الغنائي ( الدسكوهاتي) بعيد كل البعد عن العوالم الموسيقية الساهرية، القائمة على أصالة الجملة الموسيقية العربية. والمفارقة – المعانقة في هذه الأغنية -دلع النساء- المواكبة للزمن وإيقاعه السريع والموجهة أيضاً للشباب؛ أن الساهر اعتمد نصاً فصيحاً، وهو يغني الأسلوب الغربي، دون أن يتخلى في اختياره لهذا "الأسلوب" عن القصيدة العربية في شقها المتباهي بكل ما هو استفزازي ومشاغب للمرأة، قائلاً: "الله من دلع النساء وكيدهن ومن جنونك يا حياتي", وصولاً إلى "الله من كرم النساء وفضلهن على افتعال المشكلاتِ!". إلا أن دخول كاظم إلى الأسلوب الغربي، لا يعني أن لا يترك القيصر، بصمة غنائية وأدائية ساهرية، على "التكنو" كما في جملة "فتطلبين مغازلاتي" القادمة من أعماق الأداء اللحني الساهري عبر "الربع تون". غير أن قمة المزج الخلاّق بين عالمي الموسيقى الغربية والعربية، سنصغي إليه في متتالية نغمية ساهرية مع أغنية (خلاص اليوم) للشاعر داوود الغنام صاحب أغنية قديمة لكاظم، بعنوان (انتهيتي من حياتي). في هذه الأغنية ينسج كاظم مع الموزع أسامة الهندي، لوحة سمعية بالغة الرقة؛ وهو يُدخل رويداً.. رويداً و"بحنكة" موسيقي، أنغام الجاز الناعمة "Smooth JAZZ" في رحم آلات التخت الشرقي العربي الأصيل، مع إيقاع 4/4 الطربي؛ مولداً حالة شعورية وإصغائية، لا تخرج إلا من عبقريٍ مثقفٍ في الموسيقى هو كاظم الساهر. كاظم واللحن السعودي الأغنية السعودية تحضر مجدداً في ألبوم الساهر الجديد، إيقاعاً وكلمات، من خلال عملين هما: (سيدي المحترم) للأمير محمد العبدالله الفيصل و(السور) للأمير بدر بن عبد المحسن. وهنا نلاحظ أن كاظم، ليس في هاتين الأغنيتين وحسب وإنما في معظم نصوص ألبوم (لا تزيديه لوعة)، أنه يقوم ببناء اللحن والموسيقى على أساس الخلفية والبيئة القادم منها هذا الشاعر أو ذاك، وليس كلمات النص وما تقترحه القصيدة من معنى. ففي أغنية (سيدي المحترم) السعودية، يستعين كاظم بإيقاع السامري، إلا أننا، لا نلامس روح هذا الإيقاع والنغم السعودي، ربما لأن التسجيل لم يعتمد على طبلة (الطار) أو التسجيل الحي كذلك تكرر الأمر مع توالي التصفيق المسجل في ذات الأغنية. إلا أن أغنية (السور) للأمير بدر بن عبد المحسن، جاءت أكثر انسجاماً مع روح الأغنية السعودية، رغم أن اللحنين لموسيقي واحد هو محمد شفيق. بدربن عبدالمحسن في أغنية (السور) قدم كاظم أغنية سعودية محضة وإن خانته اللهجة السعودية إلى حد ما والتي كان عليه أن يتقنها أكثر وهو المطرب العراقي المبكر في اتصاله بالأغنية والجمهور السعودي من خلال لحن: (الليلة إحساسي غريب). بيد أن ظلال الصورة الشعرية في قصيدة بدر عبدالمحسن برفقة الأداء الساهري، أخرج الأغنية بإحساس عذب عبر دراما حكائية قصيرة بين حبيبين، إذ نقرأ: " قالت توصّلني معك لاوَّل السُّور/ نصف الطريق امشَه مِعي كان بتخَاف/ دَامِك تشُوف الدَّرب مظلِم ومَهْجُور، لا تِلتِفِت يَا قرَّة العِين لِخْلاف". وصولاً إلى شعرية الحبيب المؤنس في إقماره، عندما يتمم الأمير الشاعر، قائلاً: "من صَاحَب القَمْرة ولو خَاف مَعْذُور/ نُور القمَر من دُونَه اللِّيل شَفَّاف". كاظم.. مكرماً شاعر البصرة التأثير الواضح لشخصيات الشعراء وبيئاتهم على ألحان البوم كاظم الجديد، كان جلياً أيضاً في أغنية (لا تزيديه لوعة) لبدر شاكر السياب (1926- 1964)؛ الشاعر القادم من قرية "جيكو" البائسة، قرب مدينة البصرة العراقية، القريبة من ساحل الخليج العربي. في هذه الأغنية أيضاً، تتشح قصيدة شاعر البصرة بموسيقى "الصوت" البحرية الخليجية والتي يطرب بها فنانو الجنوب العراقي المتداخلين، ثقافياً واجتماعياً وفلكلورياً مع البيئة البحرية الخليجية والكويتية؛ وهي على ما يبدو، مبادرة موسيقية لتكريم نص السياب بهذه الزركشة الموسيقية البحرية؛ غير أننا -رغم نجاح وجمال الأغنية– نرى، أن قصيدة (لا تزيديه لوعة) والسياب، لا ينتميان إلى هذا النمط الموسيقي؛ إذ لا يعني أن يكون السياب بصرياً، أن نقدم من خلال شعره لحناً بحرياً. فالسياب يعد حالة رومانسية عالية في الشعر العربي الحديث، وهو يمثل صوته الفردي والشجي والبائس والمتعثر، في معظم ما يكتب من (شناشيل ابنة الشلبي) إلى (وما عادتي نكران ماضي). بدر شاكر السياب أما في (لا تزيديه لوعة) فإني أذهب إلى ما سار إليه بعض النقاد من تأثر السياب بالشعر والأدب الإنجليزي، هذا إذا ما تذكرنا أن السياب، حقا درس الأدب الانجليزي وتخرج بهذا التخصص من بغداد عام 1948. حيث تمر علينا في هذه القصيدة مفردات ك"الكوخ" و"الضباب" و"النهر" إلى جوار النخيل وغيرها من مفردات أقرب إلى مناخات الريف الرومانسية والسيابية الرقيقة، منها إلى موسيقى الصوت والعوالم البحرية!. حبيبتي مرت.. إيقاع البندري الإماراتي الشهير، لا يسجل حضوره الأول في مسيرة الساهر الغنائية وحسب وإنما يتجلى تفوقاً، من خلال أغنية بديعة للملحن (فايز السعيد) والشاعر سمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، بعنوان: (مرت على بالي). في هذا العمل الجميل يصحبنا كاظم في رحلته "الأوبريتية" مع هذا الألبوم إلى إيقاعات رقصات اليولة وأهازيج عجمان وأم القوين ودبي ما قبل ناطحات السحاب. حيث يقول "فزاع" في مطلع كلماته: "حبيبتي مرت على بالي اليوم. وقفت تقديرٍ لها يوم مرت". الزوجة.. الحبيبة كما ضم الألبوم ثلاث أغنيات لكاظم، تنوعت بين الغزلية عبر الإيقاع الشعبي العراقي (ما أحبك) وبين الرومانسية اللذيذة (أثاري الزعل) وبين الأغنية الإنسانية العائلية في موضوعها الجديد (جالسه وجدك) وهي خطاب زوج محب لزوجته في كلمات موضوع، قل أن تلتفت إليه الأغنية العربية. وهنالك قصيدة (ماذا بعد) لأميرة الشعراء الدكتورة الجزائرية حنين عمر، التي يعد الساهر أول من يغني لها, وصولاً إلى أغنية "الحب" ذات الإيقاع اللبناني وأغنية "حيارى" المصرية التي كتبها بإتقان الشاعر كريم العراقي لتنتمي مع توزيع د. فتح الله أحمد إلى أغنيات الزمن الجميل، زمن عمالقة الطرب الشرقي، الذين لم تغب عراقتهم، بفضل كاظم الساهر.