نظرة تأريخية سريعة على فصول الكلام عن أفول الولايات العظمى تلقي الضوء على دورية الخطاب هذا وموسميته. فهو يخمد وينبعث ولا يستقر. وتتجدد، في الولاياتالمتحدة، فكرة أفول قوتها مرة كل عشرة أعوام. ففي نهاية الخمسينات، دار الكلام على صدمة «سبوتنيك»، ويومها أفلح السوفيات في إطلاق أول قمر اصطناعي الى الفضاء. وفي الستينات شاع تشخيص «الثغرة الصاروخية» في حملة جون إف كينيدي الانتخابية الرئاسية. وفي السبعينات، نعى الرئيس ريتشارد نيكسون وهنري كينسجير، مستشار الامن القومي، انطواء عصر الثنائية القطبية العالمية، وتوقعا نشوء عالم «القوى العظمى الخمس». وفي نهاية السبعينات، أوحى خطاب جيمي كارتر الارِق بأزمة ثقة أصابت «روح الامة (الاميركية)، ونفسِها، وإرادتها». وفي العقد التالي، توقع أكاديميون، من امثال أستاذ التاريخ في جامعة يال، بول كينيدي، انهيار الولاياتالمتحدة جراء مغالاتها في التوسع في الخارج وإسرافها في الانفاق في الداخل. وفي التسعينات، عُلّق الخطاب الافولي، اثر انتحار الاتحاد السوفياتي وانهياره، ومراوحة اليابان في «عقد ضائع» من الركود الاقتصادي. فخبت نوبات ارتياب الولاياتالمتحدة من سعي اليابان الى وضع اليد على كنوزها الوطنية، على غرار شركة «بيبل بيتش» و «روكفيلير سنتر». ودخلت الولاياتالمتحدة في أطول عصر توسع اقتصادي في التاريخ استمر الى 2008، على رغم تباطؤ الاقتصاد 8 أشهر، في 2001. وتغنى معلقون من أمثال توماس فريدمان بالعولمة ومناسبتها النظام الاميركي. وخلص الى القول: «نحن العولمة». وفي نهاية عهد جورج بوش، انبعث الخطاب الأفولي من سباته، وخرج من قمقمه. واثر الازمة المالية، عاد بول كينيدي الى خطابه قبل عشرين عاماً، وكتب أن الخاسر الاكبر هو «العم سام». ورأى روبرت ألتمان، نائب رئيس الخزانة الاميركية السابق، أن الأزمة المالية أصابت مكانة الولاياتالمتحدة العالمية في الصميم. وذهب المؤرخ نيال فرغيسون الى أن ميزان القوى العالمية بدأ يميل (الى غير الولاياتالمتحدة). وتتحدر هذه السيناريوات الكارثية من إرث تنبؤات نبي التوراة إرميا الرامية الى بعث الذعر في نفوس الضالين لإعادتهم الى الطريق القويم. ويتوسل أصحاب التكهنات الراهنة بخطاب الافول، وعبارات الآباء المؤسسين، الى مخططات داخلية مثل حمل الحكومة على انتهاج سياسة انعزالية وخفض الضرائب، او سياسة ليبرالية تقلص الموازنة العسكرية وترفع نفقات الرعاية. وعلى رغم أن أبرز حجة في نظرية الافوليين هي الحجة الاقتصادية، يبلغ حجم الاقتصاد الاميركي 14،3 تريليون دولار، أي ثلاثة أضعاف ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وهو الاقتصاد الياباني، وأقل بقليل من حجم اقتصادات اليابان والصين وألمانياوفرنسا مجتمعة. ولم يسبق، من قبل، أن كانت الهوة الاقتصادية بين الدول العظمى على هذا القدر من الاتساع. فعشية الحرب العالمية الاولى، كان ميزان القوى بين الدول العظمى متوازناً وشبه متقارب. ففاق حجم الاقتصاد الالماني، ويومها بلغ الناتج المحلي 237 بليون دولار، الاقتصاد البريطاني. وبلغ الناتج الألماني المحلي البريطاني 225 بليون دولار، والفرنسي 144 بليون دولار، والروسي 225 بليون دولار. ووحده الاتحاد الاوروبي، وناتجه المحلي 18 تريليون دولار، قد يقارع، اليوم، هيمنة الاقتصاد الاميركي. ولكن انضواء 27 دولة في اتحاد غير متماسك لا يجعلها مبادراً أو فاعلاً استراتيجياً. ويزيد متوسط دخل الفرد في الولاياتالمتحدة عن نظيره في الدول الكبرى الاخرى. فيبلغ 47 ألف دولار، بينما يبلغ في فرنساوألمانيا نحو 44 ألف دولار، واليابان، 38 الف دولار، وفي روسيا، 11 الف دولار، وفي الصين 2900 دولار. ولكن من أين للصين، ومتوسط الدخل فيها أقل ب7.7 أضعاف من نظيره في الولاياتالمتحدة، تجاوز متوسط الدخل الفردي الاميركي، ومضاهاته؟ ولا يتسم بلد ما بالثراء والقوة في حال كان 1.3 بليون من سكانه فقراء فقراً مدقعاً. وفي 2008، أنفقت الولاياتالمتحدة ما يوازي نصف موازنة العالم العسكرية، أي 607 بلايين دولار على التسلح. وأنفقت الدول التسع التي تليها في سلم القوة العسكري مجتمعة 476 بليون دولار. وبذلت الصين والهند وروسيا، مجتمعةً، 219 بليون دولار على التسلح. والصين، وهي خليفة الولاياتالمتحدة المزعومة، خصصت للتسلح سُبع موازنة الولاياتالمتحدة الدفاعية. وبروز الصين الذي يخلب الألباب هو محور الخطاب الافولي، على ما كانت اليابان في الثمانينات. ويرى اصحاب الخطاب هذا أن هيمنة الصين على النظام العالمي وشيكة جراء بلوغ معدلات نموها الاقتصادي 3 أضعاف نظيره الاميركي. وليس مصدر قوة عظمى تداول سلع غير مشروعة، وتبادلها، على غرار قروض تختلف قيمتها الاسمية المعلنة عن قيمته الائتمانية والفعلية، وبرامج كومبيوتر مقرصنة. ولا يخفى أن التوقعات التي تستند على معطيات الأعوام الأخيرة الاقتصادية، ولا تحتسب أن سيرورات التاريخ غير أحادية، ضعيفة. فنمو الاقتصاد الصيني نمواً من رقمين قريب العهد، وهو بدأ في 2003. ففي 1989، لم يتجاوز النمو الاقتصادي الصيني 4 في المئة، بعد ان كان قبل عام 11.3. ففي 1989، قُمعت التظاهرات في ساحة تيان آن مين. وفي 1967 و1968، انخفض النمو هذا، تباعاً، 5.1 في المئة، و2.9 في المئة جراء بدء الثورة الثقافية. وفي ختام الثورة هذه، في 1976، هبط النمو الاقتصادي الصيني 5.8 في المئة. وتهب تقديرات الى أن النمو الصيني قد يبلغ 6 في المئة، في 2009، أي نصف معدل النمو الصيني التاريخي، في 2007. فالصين هي مكان يلجأ العالم الى عماله ومصانعه الرخيصة الكلفة جراء التلاعب الرسمي بقيمة عملته. وعمود الاقتصاد الصيني الفقري هو التصدير، ونسبته هي ثلثا الناتج المحلي. وفي 2009، انخفضت صادرات الصين 26 في المئة. وتعافي التجارة العالمية من الازمة الاخيرة لن يذلل مشكلة الصين الاقتصادية البنيوية. فبين 1991 و1995، كان مردود استثمار 100 مليون يوان في أصول ثابته ناتجاً محلياً قيمته 66.2 مليون يوان، أنشأ 400 فرصة عمل جديدة. ولكن الاستثمار نفسه، بعد عقد من الزمن، اقتصر مردوده على 28.6 مليون يوان ناتجاً محلياً، وإنشاء 170 فرصة عمل. ومرد الانخفاض هذا الى قانون انخفاض الريع، وهو الاقدم في الاقتصاد. ولا يحتسب اصحاب الخطاب الافولي الاوضاع السياسية في ميزان تقويم قوة الصين. ولا بد ان يطرأ طارئ في الحياة السياسية الصينية. فالبلد هذا يشهد 70 ألف اضطراب مدني سنوياً، وآخرها في اقليم تشينغيانغ راح ضحيته المئات. وفي حال بذلت بكين أموالاً على الخدمات الاجتماعية وشبكات دعم المواطنين، أغلب الظن أن تتدنى نسبة النمو الاقتصادي، على ما حصل في ألمانيا. فحصة الصادرات من الناتج القومي الألماني تساوي حصتها من نظيره الصيني. وفي العقد الاخير، اقتصرت نسبة النمو بألمانيا على 1.5 في المئة في السنة، جراء انفاقها شطراً كبيراً من العائدات على الخدمات الاجتماعية. وفي حال نجت الصين من مصير الجمع المحتم بين التحديث والديكتاتورية - والجمع يؤدي الى الحرب والثورة والانتفاضة - تعثرت بشيخوخة سكانها. وأبرز مصادر قوة الولاياتالمتحدة، الى قوتها العسكرية والاقتصادية، هو مؤسسات الابحاث والتعليم العالي. وهذا ما تغفله التوقعات التي تتوقع بروز الصين و «صعودها». ف17 جامعة من أفضل 20 جامعة في العالم هي جامعات أميركية. وتحل أفضل ثلاث جامعات في الصين في آخر سلم تقويم الجامعات الدولية، شأنها شأن أفضل جامعتين هنديتين. * محرر «دايت زايت» ومن كبار الباحثين في معهد فريمن سبوغلي للدراسات الدولية في جامعة ستانفورد، «فورين أفيرز» الاميركية، 9 -10/2009، إعداد منال نحاس