رحم الله صائب سلام، الذي رفع في عز الحرب والانقسام شعار «لبنان واحد لا لبنانان». اليوم ثمة لبنانات وليس لبنانان، لكن ما نود الإشارة إليه هنا ليس الانشطار بمعناه السياسي المتداول، حيث للكلام شجون كثيرة. ما نقصده باللبنانين، واحدٌ تمثله السياسة وأهلها في طرفي النزاع العاجزَين عن ابتكار حلول خلاّقة لأزماتنا المتناسلة على مر الأيام، وثمة لبنان آخر يمثله المجتمع المدني، الذي سئم كل ما يجري باسمه، وبات يتطلع إلى مستقبل خالٍ من النزاعات والحروب المدمرة. لنلاحظ هذه المفارقة اللبنانية: على ضفة السياسة احتقان وصراخ واتهامات وتخوين وكل ما يخطر على البال من أشكال الانقسام والتفتت، التي تترجم بين الفينة والأخرى مشاكل أمنية هنا وهناك تنعكس سلباً على حياة الناس في نواحيها كافة. أما على ضفة المجتمع المدني، فمهرجانات وأمسيات فرح وغناء وموسيقى ورقص وفنانون من لبنان ومن خارجه ونجوم عالميون يأتون لإحياء حفلاتهم في «الوطن الصغير» ويستقطبون حشوداً من المهتمين والمعجبين. كيف نفسر هذه المفارقة أو هذه الظاهرة سوى بجملة بسيطة، لكنها معبرة: «الناس يريدون أن يعيشوا» وكفى الله المؤمنين شر القتال. نحن لا نقول إن المعضلة السياسية في لبنان برمتها عبثية ومجانية، لكنّ جزءاً كبيراً منها هو كذلك، وحتى ما هو غير عبثي وغير مجاني يمكن تنظيمه وإدارته بغير الطريقة البائسة التي تمارسها الطبقة السياسية العاجزة عن إيجاد حلول لأبسط المشاكل اليومية، لكن ما نعيشه هو الإمعان في التخريب والتدمير، وكأننا ما علمنا وما ذقنا حرباً كارثية استمرت عقداً ونصف العقد من الزمن آكلةً أعمارنا وأرزاقنا وحاضرنا ومستقبلنا. عجيب أمر هذه الطبقة السياسية، حقاً عجيب، منذ ما يسمى الاستقلال وحتى يومنا هذا يكرر التاريخ نفسه على شكل مأساة ومهزلة في آن، وليس أمرَّ من شر البلية المضحك. حقاً لم نعد ندري أنبكي أنفسَنا أم نضحك عليها ونحن نسلس قيادنا لمن ذقنا على أيديهم كل أنواع المآسي والويلات، ولا نزال ننتظر منهم معجزة لن تحصل! الأمر الإيجابي الوحيد في كل ما عشناه، هو أن ثمة قسماً غير يسير من اللبنانيين من الطوائف والمناطق كافة، لم يعد مؤمناً بالحروب وجدواها، بل كفر بكل هذا الصراع السياسي وبات يطمح أن يعيش حياة عادية كأي شعب آخر على هذه البسيطة. وما نظنه هو أن هذا القسم من اللبنانيين بات يجد متنفَّسَه بعيداً من السياسة وأهلها، لذا نجد أن المهرجانات والأمسيات على أنواعها تستقطب جمهوراً غفيراً من كل الأعمار، وخصوصاً من فئة الشباب، الذين يتابعون ما يجري في أرجاء الدنيا ويحلمون أن يمسي بلدهم وطناً فعلياً مثل بقية أوطان الدنيا. مهرجانات الصيف في لبنان هي شكل راق من أشكال التحدي، تحدي الموت والخراب والعبث، وانتصار لإرادة الحياة والفرح والحب والخير والجمال. فالفنون على أنواعها هي أرقى ما أنتجه العقل البشري، وليت بعض أهل السياسة تتوطد علاقتهم بالفنون والآداب لكان بالتأكيد اختلف أداؤهم وتغيرت تصرفاتهم وصاروا يقيمون للكائن البشري وزناً وحساباً مختلفَيْن عن الذي يمارسونه الآن... والى حينه، يظل في هذا الصيف لبنانان: الأول للسياسة وشجونها القاتلة، والثاني للفنون الممثلة لجوهر الوجود ومعنى الحياة.