لماذا العودة اليوم الى زمن «الندوة اللبنانية» ومؤسسها ميشال أسمر والى تراث المحاضرات التي امتدت على اكثر من ربع قرن (1946-1975)؟ ولماذا في مثل هذا الوقت من الزمن البيروتي تستعاد من الذاكرة تجربة «الندوة اللبنانية» في معرض مفتوح في وسط المدينة وتحديداً في مبنى اللعازارية؟ ولماذا تأخذ هذه الاستعادة لذاكرة ما قبل الحروب الملبننة هذه الأهمية إعلامياً، وكأن الزمن الحاضر يتنفس ويعيش مما خلفته له ذاكرة تلك السنوات؟ أسئلة كثيرة يمكن جيلي الحرب والشباب أن يطرحاها حول المعرض الاستعادي للمحاضرات والمحاضرين الذين استضافتهم «الندوة اللبنانية» منذ تأسيسها في العام 1946. لأن هذين الجيلين أخذتهما الحرب الى قطيعة تامة مع ما قبلها، وكأن ما جرى في زمن ما بعد الاستقلال اللبناني حتى العام 1975، كان يجري في مكان آخر ومع بشر آخرين. والعودة اليوم الى عرض إنجازات تلك المرحلة يبدو وكأنه رسالة الى الشباب اللبناني الفاقد بوصلة الإنتماءات السياسية والثقافية، والمنقسم على ذاته، والمتعدد التعبيرات الى درجة التناقض حول معنى لبنانيته ولبنانه، على عكس ما كانت ترتجيه «الندوة اللبنانية» من جمع اللبنانيين وخلق الفضاء المشترك وتوكيد فكرة لبنان وصورته في نفوس جميع أبنائه على أساس مشتركات أولية يمكن النقاش والحوار وتبادل الأفكار أن تحققها. المعرض والكتاب في المعرض الاستعادي «زمن الندوة (1946 – 1975): بين التاريخ والذاكرة والحاضر»، الذي يقام في بهو مبنى اللعازارية في وسط المدينة والذي تشرف عليه رينيه أسمر كريمة ميشال أسمر، تم أخذ مقتطفات من نحو 600 مداخلة من زمن الندوات وحفظت في كتاب، وطبع بعضها مع عشرات الصور على «بوسترات» ضخمة وزعت في المكان. وستلقى أربع محاضرات كل نهار جمعة حتى 19 الجاري في المكان نفسه، تدور حول الحاضر المعيش ويوميات المدينة وساكنيها. والبوسترات المعروضة وحجمها الكبير (السينوغرافيا لجان لوي مانغي) تهدف إلى إبراز مدى الاهتمام والدعم الذي لقيه المعرض (في كتاب المعرض عرض لأسماء المتبرعين الكثر، وأسماء الفريق الكبير الذي عمل على إقامة المعرض)، وتستعيد هذه الصور الزمن اللبناني الجميل، حين كانت المحاضرات تغص بالحاضرين، من فئات عمرية مختلفة، بعضهم وقوفاً وبعضهم يفترشون الأرض في سبيل إشباع حب الاستطلاع عندهم، وهي صور تجمع الطبقة السياسية اللبنانية صاحبة القرار في مصير لبنان، جميعهم جلوس وإصغاء من دون أن تكون السياسة أو اختلافاتها سبباً لافتراقهم «المكاني». والصور أيضاً تبرز أزياء ذلك الزمن للرجال والنساء والشباب، فيبدون جميعاً وكأنهم يبتهجون ببلاد تنمو وتزدهر وتكبر، ولا يبدو في عيونهم اي توقعات متشائمة لسنوات سود مقبلة. والمعرض كما الكتاب الذي يوزّع بالتوازي معه، ينقسمان الى اربعة اقسام. القسم الأول بعنوان «نون الندوة» يحيي الشعائر الفريدة للمحاضرات وكذلك المحاضرين الأربعمئة الذين تتابعوا في الحضور على منبر «الندوة»، ويوجه التحية أيضاً الى الجمهور الذي واظب على متابعة مجرياتها. أما القسم الثاني فهو «تاء التاريخ» الذي يستعيد تسلسل السنوات الواقعة بين الاستقلال والحرب اللبنانية، ويبحث في الطبيعة الخاصة لهذه المؤسسة. اما قسم «باء بيروت» فهو يسترجع طعم المدينة في تلك السنوات عبر صور الأرشيف النادرة. القسم الأخير «ميم مفاتيح» يضم صوراً ونصوصاً حرة هدفها منح مفاتيح للفهم أو اكتشاف وجهات نظر متقاربة. اما السؤال الأول الذي يطرحه المعرض وفق السيدة رينيه أسمر هرموز فهو: «هل كانت الندوة، باعتبارها مساحة للمواطنة ومكاناً للتعبير عن العيش المشترك وممارسته، حالة فريدة في المشهد اللبناني؟ أم على العكس من ذلك، هل إن دينامية جديدة قد تمكن من بعث الكيمياء القديمة لتلك الحقبة؟». وزارة ثقافة بديلة و «الندوة اللبنانية» التي كانت في البداية فكرة ميشال أسمر ما لبثت أن جمعت في إطارها عدداً كبيراً من المثقفين الشباب ومن مختلف الطوائف والاتجاهات الفكرية، حتى باتت وزارة بديلة للثقافة، او لنقل بذرة اولى لفكرة وزارة الثقافة التي لم تكن في أولويات حكومات ما بعد الاستقلال، ثم سرعان ما اجتذبت حركة هؤلاء الشباب مفكرين ومثقفين قريبين من السلطة ورجالاتها، فاتسع تأثير الندوة وازداد عدد الحاضرين في محاضراتها في شكل مطرد خلال سنوات قليلة، وتنّوع المشاركون في تلك المحاضرات وتوزعوا على المجالات الأدبية والفكرية والثقافية والسياسية، حتى بات تأريخ الحياة الفكرية والثقافية الحديثة في لبنان لا يستقيم من دون التوقف عند تجربة «الندوة اللبنانية». وتوسعت «الندوة» في فضاء لبناني عام كان ينشد إرساء صورة جديدة ومغايرة للبنان ما بعد الاستقلال، فتوسّعت نشاطاتها وأعمالها كمنبر أو مسرح أو منتدىً لتعارف النخبة اللبنانية، وتفاعلها الحر، إلى جانب «الأكاديمية اللبنانية للفنون» و «مهرجانات بعلبك الدولية» اللتين استقطبتا خبرات وطاقات جديدة في فنون الرسم والمسرح والموسيقى والغناء والعروض الفولكلورية. وبرزت لاحقاً «دار الفن والادب» التي أسستها جانين ربيز لتواصل مع هذه الجمعيات، العمل الثقافي الحر وسط غياب تام لوزارة ثقافة لبنانية. كان ذلك يجري في لبنان بينما تتجه الأنظمة السياسية العربية المستقلة او المتهيئة للاستقلال عن الانتداب الفرنسي والبريطاني، نحو الاضطراب الذي تمخض في سورية ومصر والعراق عن انقلابات عسكرية ديكتاتورية علّقت الحياة السياسية الدستورية والبرلمانية. لذا لعبت «الندوة اللبنانية» بعيد الاستقلال دور برلمان فكري وثقافي يرعى فكرة الاستقلال وصيغتها الميثاقية والدستورية، يفعّلها ويمنحها أبعاداً، ويربطها بحقب التاريخ اللبناني المفترض، وبدور لبنان في محيطه الاقليمي. مسارت وأطوار تبدأ مسارات «الندوة» في مطالع الثلاثينات، حين تعرّف ميشال أسمر ببعض الأدباء الشبان المتأثرين «بالجبرانية» (أي أدب جبران خليل جبران)، بسبب توليدهم ذواتٍ فردية مستقلة، قلقة ومضطربة يغلب عليها الطابع الثقافي الرسالي الجريح والمشاكس، على ما يصفهم أسمر. وكان قد تعرّف بهم في بداية العام 1936. ويشير الى «ندوة الاثني عشر» قائلاً: «شئنا أولاً ان يكون عددنا 12، تيمناً بالاثني عشر رسولاً» (في اشارة الى تلامذة يسوع المسيح ورسله). بعد ذلك مرّت «الندوة اللبنانية» في أطوار ثلاثة على الأقل: بين 1946 – 1958 كان همها تعميم فلسفة سياسية للبنان، وتوضيح هويته وترسيخ ثقافته الميثاقية، وكان ميشال شيحا وجواد بولس وابراهيم عبد العال وشارل عمون ورينه حبشي، من أبرز المحاضرين، إضافة الى كثير من الشخصيات السياسية. في طورها الثاني (1958 – 1968)، شعرت «الندوة» بحاجة لبنان الملحّة الى الرؤية الاجتماعية، بعد أحداث 1958، فعملت لتكون رافعة ثقافية لمشروع بناء الدولة اللبنانية وتحديث مؤسساتها في العهد الشهابي. وفي طورها الثالث (1968-1975)، بعد هزيمة حزيران وظهور العمل الفدائي الفلسطيني المسلح في لبنان، استشعرت الأخطار الكارثية للانقسام اللبناني، لذا بذل ميشال أسمر جهداً مضاعفاً لتمتين أواصر التعايش بين العائلات الروحية، مستنجداً بالأب يواكيم مبارك والشيخ صبحي الصالح والإمام موسى الصدر. لكن الحرب اندلعت في العام 1975، فوهنت «الندوة اللبنانية» وخفتت همّة مؤسسها الذي فاجأه الموت في العام 1984. المعرض الاستعادي للندوة اللبنانية في مبنى اللعازارية في وسط بيروت، مفيد في كل أوجهه، أولاً في إعادة التعريف بهذه «المؤسسة» التي نشطت في سبيل تأكيد فرادة لبنان للحفاظ على هذه الفرادة والاستفادة منها. ثانياً لإعادة الرونق الى مؤسسها والى جيل ما بعد الاستقلال من المفكرين والمثقفين والسياسيين، الذين يضعنا مجرد تذكرّهم أمام الواقع الراهن السياسي والفكري في لبنان الذي أقل ما يقال فيه إنه في غيبوبة. ثالثاً أهمية هذا المعرض تكمن في وضع الجيل الحالي من المثقفين اللبنانيين أمام مسؤولياتهم في صنع هويتهم الثقافية الخاصة.