بسبب سوء الطرقات وكثرة الحفر والمطبات، يضطر اللبناني إلى استهلاك الكثير من الدواليب، أحياناً يبدّل دواليبه أكثر من مرة في العام الواحد. فالدولاب باللهجة اللبنانية الدارجة غيره باللهجة المصرية. في أرض الكنانة هو خزانة الملابس أما في بلاد الأرز فهو عجلة السيارة. ولكثرة الاستهلاك-كما أشرنا- تتوافر في البلاد كميات هائلة من الدواليب غُب الطلب، ليس فقط للاستخدام التقليدي المعتاد بل لاستخدامات أخرى كثيرة لا علاقة لها البتة بالغرض الأساس الذي من أجله تم اختراعها و تصنيعها. قد يظن البعض أن الاستخدامات اللبنانية للدواليب جديدة ومحصورة بالمستجدات الراهنة والانقسامات العميقة في الجسد الوطني الواهن، لكن بعض الظن إثم، بل كله إثم في هذه الحالة. أذكر كنا أطفالاً في بدايات الحرب اللبنانية منتصف السبعينات من القرن المنصرم حين شاركنا في أول «حفلة» إحراق دواليب في القرية، يومها كان ثمة محاولة انقلاب على الرئيس الراحل سليمان فرنجية يقودها ضابط متقاعد هو الراحل عزيز الأحدب، احتفلنا بالانقلاب على طريقتنا بأن أحرقنا الدواليب وقطعنا طرقات الضيعة على أنفسنا! مذاك، وربما قبله بكثير منذ الأربعينات والخمسينات، وبعض اللبنانيين يعشقون حرق الدواليب، بمناسبة ومن دونها. يحرقون الدواليب لإسقاط حكومة كما فعلوا يوم أُسقطت حكومة الرئيس عمر كرامي في بداية التسعينات، أو احتجاجاً على إسقاط حكومة كما فعلوا يوم أُسقطت حكومة الرئيس سعد الحريري، يحرقونها احتجاجاً على سقوط شهيد أو خطف مواطن، مثلما يحرقونها لأجل مطلب من هنا أو مطلب من هناك، يرددون قول الشاعر «وما نيل المطالب بالتمني إنما تؤخذ الدنيا غلابا»، لكنهم يعلمون أن المطالب في لبنان لا تؤخذ لا بالتمني ولا بسواه وإنما بالتراضي بين أركان الطبقة الحاكمة المتحكمة برقاب العباد والبلاد. كل شيء في لبنان بالتراضي من الأمن إلى تعيين حاجب في مؤسسة. للتراضي مرادف «لغوي» لبناني هو: التوافق(كذا). الدولاب نفسه لا يتغير، هو هو في الضاحية و في الشمال، في بيروت و في الجنوب، في الجبل وفي البقاع. ما يتغير هو الشعار الذي يُحرق من أجله، لكن العجيب الغريب أن حارقي الدواليب وسط الميادين والطرقات إنما يحرقونها ليلوثوا بها بيئتهم ويسمموا الهواء الذي يتنشقه أطفالهم ويقطعوا الطرقات على أنفسهم فيعطلوا أعمالهم قبل أن يعودوا سيرتهم الأولى بخُفي حنين. يستسهل بعض اللبنانيين إحراق الدواليب وقطع الطرقات، ولن نستغرب إذا سمعنا يوماً أن لبنانياً قطع الطريق بالإطارات المشتعلة لأن زوجته هجرته أو لأن حفيدته لم تقبّله في الصباح. يستهل بعض اللبنانيين إحراق الدواليب وهو لا يعلم (ربما يعلم) أن الدنيا دولاب، قد تدور به أكثر مما دارت فتعيد إليه الحروب الأهلية والتقاتل الطائفي العبثي والقتل المجاني و القصف العشوائي والخطف على الهوية وسواها من أفعال مما خبرنا وعلمنا وذقنا. يستسهل بعض اللبنانيين إحراق الدواليب وقطع الطرقات، وهو لا يعلم (ربما يعلم و هنا المصيبة أعظم) أن عود ثقاب صغيراً جداً قادر على إحراق غابة بكاملها، وأن دولاباً واحداً قادر على إحراق وطن تدور به الدوائر منذ استقلاله الموهوم حتى الآن. كلنا للوطن للعلى للعلم!