أياً كان صاحب عبارة «قوة لبنان في ضعفه»، فما زالت تظهر لها استخدامات ومعانٍ جديدة. الجملة التي ابتكرتها «المارونية السياسية» (الأرجح أن صاحبها الأول هو بيار الجميل، مع تكهنات بملكية ميشال شيحا وشارل مالك لها) اعتبرت طوال عقود السند الأيديولوجي «لبراكسيس» تخلي الحكومة اللبنانية عن بناء قوة عسكرية تستطيع بها رد اعتداءات الخارج، الإسرائيلي خصوصاً، بذريعة أن البقاء في موقف الضعف يمنع بذاته الاعتداءات. واعتبر تفنيد هذه الجملة ودحضها من الرياضات الذهنية التي برع بها اليسار اللبناني في السبعينات. ويبدو أن كل محطة سياسية يمر لبنان بها، تحيي الشعار المذكور أو تنعش من يتولى الرد عليه وإفحام القائلين به. وعلى رغم أن مردديه باتوا قلة قليلة بين السياسيين والصحافيين اللبنانيين، وحاملي رسالة نقد هذه العبارة هم الأكثرية الساحقة بين جمهور المتكلمين على المنابر ومدوني المقالات، إلا أن المعركة التي يخوضها من يصر على دفن العبارة الكريهة، لم تضع أوزارها بعد. ففي كل جولة من جولات الخطابات في مجلس النواب أو في المآتم، هناك من يتذكر أن البعض «حكمنا لعقود بشعار أن قوة لبنان في ضعفه». تتابُع الثورات العربية أعطى معنى جديداً للجملة. والنظام الطائفي في طوره الحالي، الذي يسود فيه انقسام عمودي حاد بين مشروعين يصرّ أصحابهما على نفي الصفة الطائفية عنهما (على رغم انطوائهما على مكونات نزاع أهلي ومذهبي شديد الوضوح)، أظهر أن لبنان قوي فعلاً بضعف نظامه السياسي، وأن الهشاشة البالغة التي تعاني منها الحياة السياسية اللبنانية، أو حاصل جمع الضوضاء والغبار اللذين يصطلح على تسميتهما كذلك، تجمع بين سمتين. الأولى أن النظام المذكور يحول دون إضفاء المعنى على «الحياة العامة» في لبنان. فهو يقف حائلاً دون تقدم أي مشروع أو حزب أو طرح عابر للطوائف، ولو كان دعوة إلى إسقاط النظام الطائفي ذاته، من دون أن يصيبه بعاهة الانضمام إلى جانب من جانبي الانقسام والفرز. وثمة شبان اعتقدوا بقدرتهم على نقل الربيع العربي إلى لبنان ونظموا تظاهرات تطالب بسقوط حكم الطوائف، ففوجئوا بأن «أمراء الطوائف» هم أول المشجعين على هذا التحرك، وذلك قبل اندلاع الثورة في سورية، ما قضى على كل أمل بتحرك غير طائفي. بكلمات أخرى، يعمل النظام الطائفي على استيعاب كل الظواهر حتى تلك التي ترمي صراحة إلى اقتلاعه، وغالباً ما ينجح في تطويعها وإقناع القائمين بها بلا جدوى ما يدعون إليه. السمة الثانية، تتلخص في حضور الحرب الأهلية، بدوافعها المحلية ومحركاتها الخارجية، كعنصر دائم في يوميات اللبنانيين الذين صار كثر من بينهم يربطون بين كل محاولة للتغيير في بنية النظام أو حصص الطوائف، وبين إمكان نشوب حرب أهلية جديدة. التجربة التي عاشها لبنان بين 2005 و2008 (والتي لم تنتهِ تماماً بعد)، نموذج لإمكان تبدل المعطى السياسي وانقلابه من عنصر إجماع إلى سبب للاقتتال، على غرار ما حصل مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري. فقد كانت الجريمة التي استهدفته موضع تنديد كامل، ثم سارت في دروب السياسة اللبنانية محركة هواجس وعداوات، إلى أن حل يوم كادت تداعيات الجريمة تودي بمظاهر السلم الأهلي. طبعاً الجريمة ظلت جريمة. بيد أن استخداماتها، من جهة، ومحاولات طمسها من جهة ثانية، حركت كل أََسَن السياسة اللبنانية. يجري هذا في وقت تتصاعد حدة الأزمة الاقتصادية الاجتماعية لأسباب يتعلق بعضها بالانهيار المالي العالمي ومنها ما له صلة بتراجع الدخل الوطني نتيجة الثورات التي تركت آثارها على عدد من القطاعات الاقتصادية اللبنانية كالسياحة والنقل والعقارات. الترجمة المباشرة للجمود الاقتصادي ظهرت في ارتفاع قاسٍ لأسعار السلع الأساسية، خصوصاً الغذائية التي تعني المواطنين ذوي الدخل المحدود. وجاءت مساعي علاج التدهور المعيشي من ضمن حلقة النظام القوي في ضعفه، ذاتها. فالاتحاد العمالي العام الذي يفترض أن يمثل الفئات الشعبية، تسيطر عليه منذ أعوام طويلة جهات حزبية لا ترى نفعاً منه سوى عندما تقتضي حاجاتها الضيقة ذلك. فيصمت الاتحاد إلى أن يظهر فجأة من يحركه. وفي حركته الأخيرة التي لم تغب عن خلفياتها التفسيرات السياسية، أخفق الاتحاد في انتزاع تصحيح للأجور يتلاءم مع مستوى ارتفاع الأسعار وتزايد الصعوبات المعيشية المحلية، وتفاقم الضغط على الاقتصاد اللبناني برمته. فرفضت قطاعات واسعة من العمال وأصحاب العمل، الاتفاق الذي تم بين الاتحاد والحكومة التي صمّت آذان الناس بشعاراتها الشعبوية، من دون أن تجرؤ على تحدي أصحاب الثروات الذين يرأس ممثل عنهم الحكومة، مثلها في ذلك مثل سابقاتها. الأمر ذاته ينطبق على الحالة الأمنية التي تقترب كل يوم من الانفلات الكامل. فبعد فضيحة الإستونيين السبعة الذين ظل الإفراج عنهم من الأسرار المعلومة، يشهد لبنان بوتيرة شبه يومية حوادث إطلاق نار واعتداءات على مواطنين يقوم بها مسلحون ينتمون إلى تنظيمات ممثل أكثرها في السلطة السياسية، أو يستمدون الحماية من قوى أهلية «فاعلة». وفيما تطالب السلطات بعض مواطنيها، بتسديد آخر درهم من المستحقات المالية التي لها في حوزتهم وإلا تعرضوا للملاحقات القانونية المرعية، يرتع مواطنون آخرون في حالة من غياب شامل للقانون متمتعين بحمايات متعددة المصادر. أمام حال كهذه، «يشمخ» النظام اللبناني الضعيف والهش، فوق هامات بشر عاجزين عن تغييره، أو حتى عن استهداف مكامن العلل الكثيرة فيه من دون أن يتعرضوا للعزل من الفئات الطائفية والسياسية المستفيدة من أحوال بعينها. بل يبدو أن لبنانيين كثراً استأنفوا عادتهم القديمة في انتظار تغيير أحوالهم ونظامهم السياسي، بما سيسفر عنه ما يدور خارج حدودهم. وهي عادة لا شك بائسة، لكنها مستقاة من أفضل دروس النظام اللبناني، وقوتها في ضعفها.