معادلات الحرب والسلام والأمن وانفلاته، كانت بسيطة وواضحة في العالم القديم. إذا صادف الداخل إلى مدينة رؤوساً على رماح مغروزة في الأرض خارج أسوارها أو أجساداً تتدلى من مشانق، علم أن في المدينة حاكماً قوياً، وأن العبث هنا ممنوع. أما إذا لاحظ جثثاً داخل الأسوار فسيدرك أن حبل النظام متروك على غاربه، وأن في وسعه ممارسة كل ما يخطر على باله، وان يجازف، في المقابل، بالتعرض إلى كل الأخطار. إلى اختيار ثنائي بين الاستبداد والفوضى، والى نوع من العبثية الكاملة في حال رفضنا الخيارين، يدعونا الشاعر أنسي الحاج (جريدة «الأخبار»- السبت 6/7/2013)، في مقال يضع له عنواناً يقول «البحث عن بشير الجميل». يُحسّن الحاج خيار الاستبداد بصيغته الفاشية المفضي إلى بناء دولة وجيش وإدارة، مقابل «فاشلين يستمدّون وجودهم من طوائفهم». وعلى اللبنانيين ألا يجزعوا من الخطر الفاشي الذي مثله في السابق بشير الجميل ويجسده اليوم النائب ميشال عون، وفق الكاتب، ف «الدكتاتوريّة في لبنان لا تدوم إلا بدوام صاحبها، وبعده الطوفان، أو حاكم ذكي يستغلّ ما بناه سلفه ليكمل البناء عليه». تستحق تجربة أنسي الحاج في الكتابة السياسية نقاشا أطول وأعمق من بضعة سطور. أما تجربته الشعرية فمتروكة للنقاد والشعراء. لكن يجوز في هذا المقام تسجيل عدد من الملاحظات على رؤية شاعر يُعد من الشخصيات الثقافية البارزة في لبنان، حول واقع ومستقبل بلادنا. نعم. يعيش لبنان أحوالاً عصيبة، وتبدو الطرق مسدودة أمام مواطنيه. وتسير الدولة فيه إلى الاضمحلال لأسباب كثر الحديث عنها. وعبثية المستقبل بل عدميته، رؤية يتشارك فيها مع الحاج كثر من الكتاب والمثقفين اللبنانيين. وبغض النظر عن الأمثلة التي ساقها الشاعر والتي لا يمل اللبنانيون من استخدامها (نابليون بونابرت وشارل ديغول وخواء الانقسام بين قوى 8 آذار و14 آذار/ مارس من أي مضمون أو معنى)، نزعم أن الحاج ارتاح في مقاله الطويل إلى نوع من المقاربة الكسولة التي تضع كل المتناقضات في سلة واحدة وترفض التمييز بين أطوار ومراحل واختلافات ظاهرة ومستترة. الكل في الشر سواء. يكاد يقول. كلهم سطحيون وتافهون وجهلاء... ربما. لكن القفز من عالم الفساد إلى عالم المُثُل، متعذر في أيامنا. الأهم أن ما يطرحه الحاج يعيد للمرة الألف ربما، السؤال عن دور المثقف في المجتمع والسياسة. والحال أن شاعراً مثل أنسي الحاج ليس مطلوباً منه التقيد الصارم بدقائق الاجتماع والسياسة في لبنان، في حين أنه يكتب ما يندرج في إطار التأمل الوجداني من موقعه الخاص. لكن من أضعف الإيمان التساؤل عن معنى تطلب دولة فاشية في لبنان اليوم. في التاريخ الأوروبي عشرات المثقفين الذين برروا وساندوا قيام الأنظمة الفاشية والنازية والشمولية عموماً، بمقاربات لا تختلف في العمق عن تلك التي عرضها الحاج: اليأس من «الطبقة» السياسية الفاسدة والضحلة. تفاقم معاناة المواطنين من دون بروز آمال في الأفق. تكالب الأعداء الخارجيين والانقسامات الداخلية على جسد الوطن... لكن الدعوة إلى حكم فاشي في لبنان المنقسم إلى ولاءات طائفية وجهوية وخارجية راسخة، لا يختلف في شيء عن تمني وقوع حرب أهلية لا نهاية لها. فتسليم أي طرف لما بين يديه من امتيازات دونه الأهوال. هل هذا ما يريده الشاعر؟ لسنا نعلم يقيناً. لكن بات من الملح، خصوصاً بالنسبة إلى المثقفين «غير العضويين» أن يلاحظوا فقر مقارباتهم للواقع، وتجاوز الدروس التي تركها بونابرت وديغول معرفياً ودلالياً.