لا يزال حادث اغتيال مدير أمن مدينة بنغازي العقيد فرج الدرسي على يد «مجهولين»، ليلة الثلثاء الماضي، يُحدث نقاشاً واسعاً بين مختلف أطياف المجتمع في ليبيا التي تشهد خللاً أمنياً أودى بحياة عشرات الأشخاص منذ إطاحة نظام معمر القذافي في آب (أغسطس) العام الماضي. وعلى خلفية حادثة الاغتيال الأخيرة في بنغازي ثارت تساؤلات بين أوساط كبار ضباط الشرطة والجيش والنخبة السياسية والمثقفين في شأن ما يوصف بأنه «صمت مشبوه» أو «تحقيقات سطحية» تتم عقب كل عملية اغتيال تستهدف أحد قيادات الجيش والشرطة في بنغازي. وعلى رغم اغتيال عدد كبير من هؤلاء الضباط خلال الشهور الماضية إلا أن القضاء لم يفصل بعد في الجهات التي تقوم بالاغتيالات وما زال مرتكبوها طلقاء لا تُعرف هويتهم. وتعبّر أوساط كثيرة عن مخاوفها من وجود «خطة منهجية» تقف وراءها قوى سياسية لتصفية قيادات الشرطة والجيش بهدف الحيلولة دون تفعيل هاتين المؤسستين المخولتين فرض الأمن وإرساء الاستقرار وبسط نفوذ الدولة في البلاد. وما زال حادث اغتيال القائد العسكري عبدالفتاح يونس إبان معركة «تحرير ليبيا» من النظام السابق، معروضاً أمام القضاء بعد مرور سنة ونيّف على قتله على يد جماعة متطرفة، بحسب ما تردد آنذاك. لكن الشهور الماضية حملت بدورها سلسلة من الاغتيالات التي استهدفت العشرات من قيادات الشرطة والجيش من دون اعتقال الفاعلين، ما أثار تساؤلات ومخاوف من وجود مخطط يُنفّذ بهدوء وبرعاية قوى سياسية نافذة في البلاد للتخلص من قيادات هاتين المؤسستين وتفكيكهما، وإحلال مؤسسات عسكرية وأمنية محلهما تقوم على ولاءات حزبية محددة. وعلى خلفية حادث اغتيال العقيد الدرسي والحوادث التي سبقته، تتساءل نخب سياسية وضباط كبار في الجيش والأجهزة الأمنية عن الأسباب التي تؤخر تفعيل مؤسستي الجيش والأمن في البلاد حتى اليوم على رغم انقضاء أكثر من عام على تقويض النظام السابق وقتل أو اعتقال قياداته وفرار بعضهم الآخر إلى خارج البلاد. ولا يزال معظم أفراد وضباط الجيش الليبي ومؤسسات الأمن في وضع المسرّحين من العمل على رغم تقاضيهم لرواتبهم، فيما يتم تشكيل كتائب وأجهزة أمنية جديدة يتم اختيار قياداتها وأفرادها على أساس ولاءات سياسية ضيقة، بل أن هناك كتائب من الثوار مبنية كلياً على أسس قبلية وجهوية تم ضمها إلى مؤسسة الجيش بدون أي تعديلات على تركيبتها تقتضيها نُظم إنشاء الجيوش في أي بلد. وتثير قرارات الضم هذه انتقادات واسعة بين أوساط ضباط الجيش المحترفين الذين يرون أنها تتنافى والعقيدة الوطنية التي يفترض أن يتم بناء الجيش الليبي الجديد على أساسها. وعلى الصعيد المدني، أحدث اغتيال العقيد الدرسي موجة غضب عارمة بخاصة في شرق ليبيا الذي شهد معظم عمليات الاغتيال. إذ شهدت مدينة بنغازي ومدن ليبية أخرى تظاهرات تطالب بوضع حد لموجة الاغتيالات والقبض على منفذيها وكل من يقف وراءها وإحالتهم الى العدالة. كما نددت منظمات المجتمع المدني ومنظمات حقوقية بحادث الاغتيال الأخير وحذّرت من تجاهل تبعاته والتغاضي عن دوافعه. وقال المرصد الليبي لحقوق الإنسان في بيان في خصوص مقتل الدرسي، إن تكرار عدم القبض على القتلة «أمر يثير الشفقة والريبة فى البلاد». ويتهم المرصد الحقوقي الجهات المسؤولة بالتقصير في متابعة منفذي هذه الاغتيالات، ويقول «إن اغتيال الدرسي وبالطريقة الجبانة نفسها التي اعتاد أعداء الثورة والحرية أن يقتلوا بها قيادات الجيش والشرطة، لا شك لدينا أن وراءها من يسعون إلى إيقاف مساعي الشرفاء لتكوين جيش وشرطة». وتحمّل أوساط مختلفة في ليبيا جماعات محلية مرتبطة بتنظيم «القاعدة» أو بفكره وتتخذ من شرق البلاد ملاذاً لها، مسؤولية كثير من الاغتيالات التي تستهدف القيادات الأمنية التي كانت جزءاً من النظام السابق لكنها انضمت إلى الثورة. وعلى رغم نفي مسؤولي المجلس الانتقالي السابق وجود هذا التنظيم في ليبيا، إلا أن رئيس المؤتمر الوطني محمد المقريف اعترف في تصريحات سابقة بوجود خلايا ونشاط لهذا التنظيم في بعض مناطق ليبيا. كما تشير التحقيقات المتسربة من الدوائر الأمنية الأميركية في شأن حادثة اغتيال السفير الأميركي لدى ليبيا كريس ستيفنز وثلاثة أميركيين آخرين في 11 أيلول (سبتمبر) الماضي في مدينة بنغازي، إلى وجود نشاط لمتشددين مرتبطين بتنظيم «القاعدة» في الشرق الليبي. وتتساءل أوساط سياسية وإعلامية في ليبيا عما إذا كان هذا التنظيم وتنظيمات أخرى متطرفة متحالفة معه قد نجحت في اختراق مؤسسات الدولة المختلفة وتمكنت من تكوين خلايا لها بداخلها تعمل على عرقلة إقامة مؤسسات عسكرية وأمنية على أسس وطنية ولا تخضع لأي مرجعية سياسية ويكون ولاؤها للوطن فقط، وذلك تمهيداً لإقامة قوة عسكرية وأمنية موالية لفكرهم تخوّل لهم السيطرة على البلاد وإقامة حكم جديد قائم على مرجعية دينية، على غرار ما جرى في شمال مالي الذي تحكمه جماعات إسلامية. ويعوّل ليبيون على الحكومة الموقتة الجديدة برئاسة علي زيدان التي تسلّمت مهماتها في 18 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، في تحقيق على صعيد إعادة بناء المؤسسات الأمنية، بعد الفشل الذريع الذي سجّلته في هذا النطاق حكومة سلفه عبدالرحيم الكيب. ووعد زيدان بالعمل على بناء جيش ومؤسسة شرطة فاعلة تتولى مسؤولية إعادة الأمن المفقود في غالبية المدن والجهات، وحلحلة الاحتقانات القبلية والجهوية في البلاد، وسحب السلاح وحل الكتائب والتشكيلات المسلحة الخارجة عن الشرعية. لكن بدء العمل في حل هذه الملفات يتطلب بت قضية منصب وزير الداخلية في الحكومة بعد ظهور اعتراضات على اسم الوزير المرشح لم يتم حلّها حتى الآن.