يظهر التباين بوضوح بين موقف الإدارة الأميركية والحكومة الليبية في ما يختص بالهجوم على السفارة الأميركية في بنغازي في سبتمبر من العام الماضي، فبينما تحاول واشنطن جاهدة فهم أسباب وحيثيات الهجوم الذي أسفر عن مقتل 4 أميركيين، بينهم سفيرها كريستوفر ستيفنز، لم تهتم طرابلس حتى بفتح تحقيق رسمي. ولا يبدو أنها ستفعل هذا أبداً في الأرجح. لأن قادة ليبيا الجدد يواجهون تحدياتٍ لا تعد ولا تحصى، بدءاً من الحركة الانفصالية الصريحة في الشرق ومروراً بموجة الاغتيالات التي تستهدف المسؤولين الأمنيين، الأمر الذي يترك لهم القليل من الموارد التي يمكن تخصيصها لقضية لا تفرض تهديداً مباشراً على موقفهم في الداخل. كما أنهم يركزون بدلاً من ذلك على إعادة بناء الدولة التي دمَّرها الزعيم السابق معمر القذافي. الشواهد تؤكد أن هجوم بنغازي، وغياب أي مبادرة ليبية لاستقصاء أسبابه ومحاكمة مرتكبيه يظهر أن البلاد لا تحكمها سيادة القانون، ولا يسمح لها موقفها بفرضها. ويتعين على الحكومة الجديدة أن تغير هذا الموقف من خلال تفكيك الميليشيات ودمج أعضائها في قوات أمن ليبية رسمية. ووفقا لصحيفة "نيويورك تايمز" فإنه يتعين على الحكومة أن تتوقف عن تدليل الميليشيات، وأن تركز على بناء الجيش الوطني، وهو الأمر الذي أهمله المجلس الانتقالي. ومع أن إقناع الميليشيات بنقل ولائها إلى الدولة لن يكون بالمهمة السهلة، إلا أنه خطوة بالغة الأهمية نحو ترسيخ النظام وتعزيز شرعية الحكومة المنتخبة حديثاً. فالكتائب في شرق ليبيا، أو إقليم برقة على سبيل المثال، تضرب بجذور عميقة في إيديولوجية إسلامية تقليدية. فقد تم تنظيم المقاتلين في المنطقة في وحدات قوية، مثل لواء "شهداء السابع عشر من فبراير"، الذي استعانت به الحكومة لحماية بعثة الولاياتالمتحدة في بنغازي، وكذلك قوات "درع ليبيا" التي ساعدت البعثة الأميركية عشية الهجوم. وعلى النقيض من ذلك، تميل الميليشيات في الغرب إلى الجهوية في نشأتها، حيث تتمركز أقوى الألوية في مصراتة والزنتان. وتريد هذه المجموعات الانضمام إلى الأجهزة الأمنية ووحداتها، بدلاً من العمل كمقاتلين فرادى، من أجل الحفاظ على روابطها المجتمعية. ولم تكتف السلطات الليبية بعد نجاح الثورة بتشجيع الميليشيات، بل تطوَّعت بتيسير عملية زوال المؤسسة العسكرية. فعندما اندلعت الاشتباكات القَبَلية في الكُفرة العام الماضي، أرسل المجلس الوطني الانتقالي قوات درع ليبيا، وليس وحدات من الجيش الوطني الليبي، لقمع الاضطرابات. كما واصلت الحكومة الجديدة سياسة تفضيل الألوية الثورية على الأجهزة الأمنية المؤسسية. ولم تستغل الحكومة الهبة الشعبية التي شهدتها بنغازي ضد الميليشيات بعد الاعتداء على السفارة الأميركية، حيث تظاهر المواطنون لعشرة أيام متتالية انتهت باجتياحهم لقاعدة "أنصار الشريعة" التي اتهموها بالوقوف وراء الهجوم، إذ أرسلت السلطات المسؤولة رسالة نصية جماعية حثت فيها المواطنين على العودة إلى بيوتهم، مشيرة إلى أن "سرايا راف الله السحاتي"، و"كتيبة شهداء السابع عشر من فبراير"، و "قوات درع ليبيا" قانونية، وخاضعة لسلطة الأركان العامة للجيش". ورغم كثرة التحديات التي تواجه السلطات في طرابلس إلا أن تفكيك الميليشيات لابد أن يكون على رأس أولوياتها. وإلا فإن التطلعات التي حركت الثورة ضد القذافي مثل القضاء على الفساد، وجلب الاستقرار والرخاء لن تتحقق أبداً.