«إن غير المتوقع يحدث دائماً، وأبعد الظنون أقربها إلى التحقيق». تبدو هذه العبارة لأندريه موروا أقرب تفسير للتراجيديا التي سطرتها مؤشرات الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية المصرية، والتي جاءت رائعة في مظهرها كاشفة في جوهرها عن شعب يبدو أنه ما زال أسير ثقافة سلطة أبوية من ناحية ودرويشاً لسلطنة روحية من ناحية أخرى. والأرجح أن صعود محمد مرسي وبرفقته أحمد شفيق يؤشر على أن ربيعنا الديموقراطي ومعه آمال وأشواق المصريين يوشك على الانكسار والانحسار، وأن «ثورة 25 يناير» لم يكن لها أن تقتص من العطب المستشري في جسد الدولة المصرية والعفن الذي يلف كل جنباتها. والقراءة المتأنية لنتائج الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية المصرية تؤشر صراحة إلى أن المواجهة بين ميداني «التحرير» و«العباسية» ما زالت على أشدها بعدما منح الصندوق الانتخابي لفلول العباسية شرعية شعبية تضاهي ما حصده مرسي وتتفوق على ما استحوذه رموز التيار الثوري ممثلاً في حمدين صباحي وعبدالمنعم أبو الفتوح. وفي سياق متصل فإن خسارة التيار الثوري ورموزه كانت متوقعة في ظل حالة الاستقطاب السياسي والمجتمعي، والتي صنعها إعلام غير مهني وقوى سياسية أعلت غوايتها الخاصة على غواية الوطن، فأشهرت سيوف النقد في وجه كل من يخالفها الهوى أو يقارعها حجتها. غير أن تفسير صعود مرسي وشفيق لا يمكن تبريره على ضوء ما سبق فحسب، فالأخير يعود تفوقه بالأساس إلى ركاكة الأداء السياسي لجماعة الإخوان المسلمين وجناحها السياسى على مدار الأشهر الفائتة وكذلك حال القوى الثورية، إضافة إلى أن ثمار الثورة لم تصل بعد إلى الفئات المهمشة التي عانت على مدار العقود الثلاثة التي خلت وكانت تنتظر الإعتذار قبل الإنصاف فلم تجدهما حتى من النخب الجديدة، ومن ثم بات الشعور بالجمود وعدم جدوى التغيير هو سيد الموقف لدى قطاع يعتد به من هذه الفئات. ولا يقتصر الأمر على هذا، فسعي الإخوان الدؤوب للإنفراد بإدارة الملفات الحساسة في المرحلة الانتقالية مثل الجمعية التأسيسية للدستور وقبله التراجع عن قرار اتخذوه في شباط (فبراير) 2011 بعدم المنافسة في الانتخابات الرئاسية أسهم في زرع بذور التشكيك في نيات التيار الإسلامي برمته، وهو الأمر الذي عزز من صورة «العباسيين» وغيرهم الذين جاء تصويتهم لشفيق عقاباً للثورة والجماعة التي تسعى إلى الاستئثار بالسلطة، ودللت على ذلك خسارة مرشحها ما يقرب من نصف عدد الأصوات التي حصدتها جماعته وحزبها في انتخابات برلمان الثورة. أمر آخر يتعلق بتيه بوصلة «الإخوان» تجاه المجلس العسكري، فتارة يثار الحديث في شأن عقد هدنة أو صفقة من وراء ستار معه، وتارة أخرى تشويه صورته من دون تمييز بينه وبين المؤسسة العسكرية التي تحظى بصورة جيدة في الوعي الجمعي المصري، فالكل يعتقد بأن الجيش هو من حمى الثورة، وأن المشير طنطاوي هو أول من لبى نداء الثوار حين هتفوا «يا مشير... يا مشير احنا ولادك في التحرير». ورقة أخرى ساهمت في صعود سلم شفيق للجولة الثانية، ألا وهي الأقباط الذين اقترعوا في غالبيتهم لمصلحته باعتباره حائط صد لدولة دينية تلوح في الأفق، إضافة إلى كونه رجل الدولة القوي القادر على إحداث التوازن المفقود مع القوى الإسلامية التي باتت تمسك اليوم بكل مفاصل الدولة. في المقابل ثمة عوامل عدة حسمت صعود مرسي لجولة الإعادة، تمثل أولها في عملية الحشد والتعبئة للناخبات، وخصوصاً الأميات منهن ومن يعانين فقراً وتهميشاً بالغاً في الريف والمناطق العشوائية، وهؤلاء مثلن بيضة الميزان وبوصلته في دفع مرسي لاحتلال صدارة المشهد، فقد جرى خداع معظمهن تحت ستار الدين أو بالضغط على عوزهن. أما العامل الثاني فيعود بالأساس إلى دعم بعض القطاعات السلفية ومشايخها الذين اعتبروا مرسي «مرشح الإرادة الإلهية». وعلى صعيد ذي شأن كان لحملات طرق الأبواب التي دشنتها الجماعة في الحواري والأزقة تأثير واضح في الترويج لمرسى وبرنامجه، حيث كان يطوف أنصار التنظيم على كل منزل لشرح وجهة وتوجه المرشح. ويتعلق العامل الرابع بالصعيد الذي صوت في غالبيته ضد من كانوا محسوبين على النظام السابق الذي تجاهل الصعيد وأدخله مرحلة الموت السريري، فتحول إلى جسد بلا روح، ومكان بلا مكانة، وذلك على العكس من محافظات الدلتا (الشرقية- الغربية - الدقهلية - المنوفية) التي تعتبر معاقل إخوانية قديمة حيث تصدر الفريق أحمد شفيق في هذه المحافظات وبفارق كبير عن مرشح «الإخوان»، وذلك بالنظر إلى ارتباط وجهائها وعائلاتها بالنظام السابق بعد أن حازوا الثروة والسلطة طوال عهده. خلاصة القول إن نهر المواجهة مع النظام السابق لم يجف بعد، وأن الجعبة ما زالت تحوي الكثير من المفآجات، ومن ثم لا بديل عن رص الصف لإنقاذ ربيعنا الثوري، فهل يُحسن «الإخوان» قراءة الطالع هذه المرة ويدركون أنهم وحدهم قد لا يصنعون شيئاً. * كاتب مصري