انطلقت الدورة الأولى من «مهرجان أفلام الطلاب» التي نظمها «نادي لكل الناس» في بيروت عام 2002، جامعة ما تيسّر من أعمال لمخرجين لا يزالون في بداية مشوارهم، لتعريف الجمهور الى الانتاج الشبابي في بلد يحبو صوب نجاحات سينمائية ملحوظة. تكرّرت التجربة وباتت أنضج وأوعى، وتفادى القيّمون على المهرجان أخطاء سابقة، وانفتحوا على الجامعات الخاصة، وتعاونوا مع طلابها، إلى أن صار المهرجان وجهة للمتخرجين الجدد لعرض أعمالهم، ومشاركة الجمهور والنقاد، النقد والتحليل. حاول المهرجان في الدورة الماضية، «التوسع» عربياً، وكانت تجربته ناجحة باستضافة بعض الأعمال المميزة، بيد أن الدورة العاشرة منه التي اختتمت أمس في مسرح المدينة (بيروت)، بعنوان «مهرجان الفيلم العربي القصير» حملت تغييرات جذرية، أهمها استقطاب أعمال من المغرب العربي، ومشاركة أفلام روائية قصيرة، والتنويع في الأنماط السينمائية. وقد تكون الايجابية الأكبر هذه السنة، التصفية الجديّة التي خضعت لها الأعمال التي تقدمت إلى المسابقة، ووصل عددها إلى 150 فيلماً، فاختارت اللجنة 40 عملاً مميزاً. وبذلك يكون النادي، تقدّم في شكل ملحوظ صوب الإحترافية في التعاطي مع الاختيارات وتنوعها، خصوصاً أن أبرز سلبيات الدورات الماضية، كانت مشاركة أفلام لم ترتق الى المستوى المطلوب، ما أزعج الجمهور والنقاد. وبهذا الانفلاش العربي للمهرجان بعد سنوات عشر من العمل، بات عليه العمل بجدية أكبر لاستقطاب الجمهور، وملء الصالة في مختلف العروض، من خلال استهداف طلاب السينما في الجامعات، والعمل مع فريق إعلاني قادر على تعريف عامة الناس بالحدث، واستقطاب جمهور جديد للمهرجان، إذ من غير المجدي تنظيم مهرجان كبير واستضافة أعمال محلية وعربية، من دون حضور شبابي قبل النخبوي. انقسمت جوائز الدورة العاشرة بين مسابقتي «أفلام طالبية لبنانية» و«الفيلم العربي القصير»، اللتين أعلنتهما لجنة تحكيم مؤلّفة من المخرِجيْن اللبنانييْن إيلي خليفة وزينة صفير والمخرِجيْن المصري شريف البنداري والمغربي رشيد بوتونس، والزميلة فيكي حبيب. وأصدر «نادي لكل الناس» ثلاث إسطوانات ممغنطة تضمّ الأفلام الفائزة في دورات الأعوام الممتدة بين 2007 و2011، لثمانية عشر طالباً جامعياً. كما عرض المهرجان أفلام تخرج المخرجين المشاركين في لجنة التحكيم، وخصص اليوم الأخير من المهرجان لتكريم المخرج المصري شريف البنداري بعرض ثلاثة أفلام قصيرة له هي «صباح الفلّ» و«ساعة عصاري» و«حظر تجوّل». والعمل الأخير جزء من الفيلم الجماعي المصري «18 يوم»، الذي أنجزه عشرة مخرجين مصريين استلهموا مواضيعه من ثورة «25 يناير». بين العام والخاص تنوعت الأعمال المشاركة بين روائية ووثائقية وأفلام تحريك، بيد أن المشترك بينها عدم تخطي مدتها 30 دقيقة، باستثناء وثائقي «اللون الأحمر» (37 د) للسورية لميا أبو الخير. وتميزت الأفلام بحرفية عالية، ونضج سينمائي لدى المشاركين، وسهولة إيصال الفكرة، والتعبير الجميل عن توارد الأفكار في قالب فني لافت. وتنوّعت المواضيع بين العام والخاص، والموت والحياة، والإجتماعي والفلسفي والسياسي والثوري. وحاولت المخرجة الشابة مروة قرعوني في فيلمها «ذات» طرح قضية الحجاب، ومدى تأثيره على نفسية الفتاة وهويّتها، عندما تكون مجبرة على ارتدائه. تميّز العمل بجرأة كبيرة من قرعوني التي تخطت العديد من القيود الإجتماعية والخطوط الحمر بالنسبة إلى فتاة محجبة، لكنها أرادت أن يعرف الجمهور ما تعانيه، خصوصاً اشتياقها إلى الفتاة التي كانتها قبل الحجاب. تبكي المخرجة في الفيلم وتمسح دموعها، وتتكلم بعفوية عن إنزعاجها من ملابسها وحياتها ومحيطها، وكآبتها لأن الحلول التي يجب أن تتبعها خطيرة ومؤلمة. يغوص الفيلم في البعد الاجتماعي للحجاب، من خلال حوار بسيط بين قرعوني التي صوّرت نفسها تتكلم مع المصوّر. وفي رحلة البحث عن ذاتها تتعرض لاضطرابات نفسية جعلتها غير راضية عن شكلها الخارجي ولا حتى عن حياتها. ومن الأعمال المميزة فيلم «بلستسين» للمخرج اللبناني الشاب طارق قرقماز، حول رحلة نحات وهو يختبر أفكاره. ابتعد المخرج كثيراً عن الأعمال المشاركة من حيث معالجته لفكرته. عرض العمل تخبّط الأفكار والضياع اللذين يمر بهما الانسان المعاصر. حاول النحات رسم صورة لأمه وأبيه، ولكن ذكرياته السيئة عنهما لم تقدم صورة واضحة لهما، فمشاهدته لأمه وهي تخون أباه علقت في مخيلته، الى أن قدّمها على شكل منحوتة تُلخّص خيانة أمه. أراد المخرج أن تكون نهاية عمله فريدة وصادمة، خصوصاً بعدما تخلت أمه عنه وأرسلته بعيداً منها لتتمتع بحياتها بلا مسؤوليات. وفي المشهد الأخير، تدخل الأم الى محترف ابنها النحات لتشتري عملاً، إلا أن عملية الشراء تنقلب الى حب بين الاثنين، ليخبرها أخيراً أنه إبنها الذي تخلت عنه منذ سنوات. وقدّمت المخرجة كريستي وهيبة في عملها «اسمو قصة طويلة» طفلاً يعاني من طول اسمه، ما سبب له مشكلة في الحي والمدرسة وبين أصدقائه. تميز العمل برشاقة كادراته ونقاوة صورته، وتنقله من لقطة الى أخرى بموقف كوميدي. كما عرض الفيلم المصري «زيارة يومية» لمجدي عدلي تفاصيل يوم عادي من حياة سيدة عجوز، تقضي وقتها في الاستماع الى أغاني من الزمن الجميل، والاكتفاء بالجلوس والتمتع بالألحان الجميلة، واستعادة ذكريات مضت. وقد يكون الفيلم المغربي «شعلة» للمخرج هشام حجي من أهم الأعمال المشاركة في المهرجان، لما فيه من حرفية وجمالية، وتقنية عالية في استعمال الصورة، بدلاً من الاستعانة بنص أو سيناريو. فكرة الفيلم بسيطة، وتدور حول شاب يريد إشعال سيجارة، لكنه يكتشف أن المنزل الذي علق فيه، لا يوجد فيه إلا ولاعة صدئة غير صالحة. وهنا تبدأ رحلته في البحث عن النار، فيعود إلى العصر الحجري لضرب حجرين ببعضهما بعضاً ولكن من دون فائدة، الى أن يستعين برجال الدفاع المدني أخيراً لفتح الباب له، بعدما أوهمهم أنه يعاني من مرض خطير. رحلة البحث عن الشعلة تخللها الكثير من اللمسات الفنية، والكادرات الجميلة. وأظهرت حرفية العمل ونضجه السينمائي، فروقاً واضحة في التعاطي مع الأفكار بين العرب ومخرجي المغرب العربي، المنفتحين أكثر على الغرب، والقريبين منه، والمتخطين لعادات وتقاليد اجتماعية عدّة، وإبداعهم في اختيار الأفكار التي يعالجونها بقوالب فنية كاريكاتيرية. وواكب الفيلمان السوريان «قصة سورية قصيرة» لداني أبو لوح، و «اللون الأحمر» للميا أبو الخير، بعضاً مما يجري في سورية، خصوصاً العمل الأخير الذي عرض حالة شباب يتخبط ويحاول الخروج من قيود فرضت عليه. وباستثناء العمل الأخير، لم ينجح المهرجان في إستقطاب أعمال تُحاكي الربيع العربي، وكان عليه، ربما، البحث عن أعمال صدرت بعد الثورات في تونس ومصر واليمن والجزائر والبحرين.