«الحياة نراها على نحو حُلُمي، والموت على نحو بطولي. وعندما نرى الدموع والجراح كنا نطمئن إلى أن الحروب تنتهي أخيراً. ماذا تعني سنة، سنتان، أو عشر حتى... ولا أضيف من عمر الشعوب، بل من عمر أحلامنا. أحلام زهرية زاهية خلاف الأهوال التي نشهد فصولها وتصدمنا كل لحظة، متى فتحنا باب الشرفة، أو اجتزنا الشارع من أجل ممارسة العمل يومياً أو للحصول على أرغفة قليلة من الفرن أو شراء علبة سجائر. أشياء بسيطة قد تكلفنا حياتنا»... لعل السطور أعلاه، للباحث والصحافي والأستاذ الجامعي زهير هواري، أصدق مرآة لما سيلي في كتابه «نيام حتى اليقظة» (الصادر أخيراً عن «الدار العربية للعلوم -ناشرون» في بيروت). اقتطاعها من الفصل الاستهلالي المعنون «ما يشبه المقدمة»، لا يشابه فعل الكسر في المرايا والصور المنعكسة على صفحاتها. بل ربما يكون للاصطفاء هذا، أثر الضوء الذي تردّه المرآة، بأمانة، على وجه موضوعها وذاته، لأن «هذه ليست شهادة الشهداء الذين كانوا يطمحون إلى موت فروسي حديث. البطل هنا قاتل في الضفة الأخرى، والقاتل هنا بطل في الضفة الأولى. ليست هناك ضفة أولى أو ثانية. هناك ضفتان للنهر المندفع في مجتمع يعيش نزاعه الأهلي المفتوح على رغم الهدنة العارضة. أكتب لأني صودف أني أتعود السهر ولم أعد أعتمد الحبوب المهدئة كل مساء. وعندما كنت ألقي رأسي على المخدة تأتيني وجوههم». الوجوه هي وجوه الموتى، والكتاب كله عنهم. عن الحرب التي حُمّلت كل المعاني حتى باتت بلا معنى يُذكر. الأدق أنه كتاب عن المُعاصرة، مُعاصرة أحداث كبرى بيومياتها الصغرى ومحطاتها التي تحفر في العمر. هؤلاء الباحثون والصحافيون والأكاديميون، من عيار زهير هواري، حينما يسردون، يكونون أمام احتمالين لا ثالث لهما في الغالب: إما أنهم يخفقون وبشدة، إذ يوظفون عدّتهم الفكرية والنظرية في رواية لا يعودون يحكونها بل يحللونها فيقتلونها، وإما يلمعون كما لا يفعل سواهم لأنهم يلقون عنهم العتاد كله، ويكتبون بقلوبهم التي لا يعودون يملكون سواها. زهير هواري قطعاً من النوع الثاني. كتب قصصه الواقعية القصيرة، بحقيقتها البسيطة، بكل ألوانها العاطفية والشخصية، بكل خذلانها وانتصاراتها العادية، حتى ما عادت بسيطة، واكتسبت استدارتها البشرية الكاملة. كل فصل من هذا الكتاب حكاية معروف سلفاً فناء اسمها العلم، كحتمية. حتى حين يُروى بطلها حيّاً، يعمل، يعشق، يفلح الأرض، أو حتى مسلّحاً يقاتل. لكن الغفوة الأخيرة، التي يبدو أن هواري صادفها مراراً في حياته، صحافياً ويسارياً حزبياً ومناضلاً في الحركة الوطنية اللبنانية، لا تُكتب هنا كنهاية ولا كتراجيديا. بمعنى أصح، هو يعفيها من الابتذال. الموت في هذا الكتاب قصة مضادة، تجارب عيش وتكيّف مؤلم وحيوي، تمارين على الحياة، في ظل خسارة حبيبة ورفيق في الحزب وزميل في الجريدة وجارة جميلة كانت نموذج الموت الأول في عيني هواري طفلاً. والتمارين هذه إصرار مخيف على البقاء، ربما من حيث لا يدري الكاتب ولا القارئ. يتخفف هواري من الهرمية الزمنية. يكتب أولاً عن مقتل زوجته ومعشوقته الأولى مي، وهي في الطريق إلى عملها في أرشيف إحدى الصحف، في انفجار في بيروت الثمانينات، عندما بلغت الحرب الأهلية أوج عبثيتها. ثم، في الفصل التالي، يعود بالأشهر إلى الوراء، ليروي موت حماته التي احتضرت في بيته، في حضن ابنتها المذهولة، ولم تصل المستشفى إلا وقد أسلمت الروح. ولا يلبث أن يعود الكاتب، بعد فصول، إلى الجارة في القرية، «أنجيل»، والدة صديق الطفولة طوني، وكيف تجمّع الرجال في بيت جدّه يدخنون بصمت، وكيف راحت أم زهير تتمتم لنفسها فيما تخلع جلباب البيت وترتدي الأسود. يتوارى الزمن في «نيام حتى اليقظة»، لكن التاريخ الفردي يتصدّر كل مشهد، كل دمعة وطرفة ومأساة. فهواري يخبر، مع أحبائه الذين رحلوا فرادى، وفي ظروف متباينة، عن لبنان السبعينات والثمانينات، ب «صوته». حواجز الميليشيات في الليل والكشّافات الضوئية في أيدي العناصر المسلحة، فيما الراوي يقود سيارته في ظلمة بيروت الموحشة، وهدير القصف المدفعي يتردد في فضاء المدينة. لقد وعد زوجته المنهارة بأن يطمئن على والدتها في المستشفى، وهو الوحيد الذي يعلم بأنها توفيت وانقضى الأمر. وهناك سهرة الحب الأخيرة مع مي، عشية مقتلها. بوح الوله، والتّيم على نور شموع قسرية فرضها انقطاع التيار الكهربائي. كلام الحب يتحول سكاكين في ذهن القارئ الذي يعرف أن الحبيبة ستقضي عما قليل في صدفة شيطانية، ويكذّب نفسه، لكن لا مفر: «أود لو أن باستطاعتي أن أحفر لها قبراً في الصخر أخبئه عن الأعين وأمضي حياتي فيه، أعمل وأعمل، وحالما أنتهي منه، أرقد إلى جانب جثمانها الباقي إلى عالم آخر». هو لبنان ذاته الذي ادلهمّ في عيني هواري، قبل 35 سنة، بشيوع نبأ اغتيال زعيم الحركة الوطنية كمال جنبلاط، أمل اليساريين الثوريين آنذاك، قبل أن يزيد الراوي قنوطاً، وفي اليوم ذاته، خبرُ سقوط رفيقه محمد طه في موقع لبناني-فلسطيني مشترك في الجنوب. وهي بيروت التي سمّيت إحدى مقابرها ب «روضة الشهيدين»، بعد مقتل طفلين على خطوط تماس حربية، فكانا أول نزلائها. وهواري يخبر القصة كشاهد عليها، كما على موت زميله المصور الصحافي الياس الذي صوّر لحظات احتضار الطفلين، واشترت صوره وكالات الأنباء العالمية، قبل أن يسقط بدوره في معارك مخيم تل الزعتر، حيث ظلّت جثته عصية على الانتشال طوال أيام ثلاثة، «لا أحد يستطيع الوصول إليه، عيناه مفتوحتان على سماء قريبة من المخيم». هكذا يروي زهير هواري الحرب والأعمار المقصوفة. بهذه الحساسية وبهذه الحميمية، ولو بعد حين. بشجن ما يسمى في الأدب «الراوي العليم»... حرفياً. ف «نيامه» شخصيات عامة، وعزيزون مجهولون إلا للقاصّ الذي يجعلهم عزيزين علينا نحن أيضاً. تتداخل حيواتهم ونهاياتهم، تتمازج وتتفاعل في ذاكرته، ثم في يومياته المتوالية فصولاً، والتي اختار أن يكتبها بعد عقود من الأحداث، بهدأة المخضرم، وبشغف مجرّب لم تنل من جذوته السنوات، لتستحق بجدارة تلك القرصة الحنون التي تأخذ القارئ من القلب. لسعة هي الشرط الإنساني لتاريخ موازٍ، مصقول بال «أنا» وناسها، وهو غير التاريخ الذي يدوّنه المنتصرون.