هل يكتب الشاعر عباس بيضون سيرته في «مرايا فرانكشتاين»، كتابه النثري الجديد (دار الساقي) ام يروي شذرات من هذه السيرة التي شاءها متقطعة ومتداخلة زمنياً على خلاف السير الذاتية التي يكتبها الأدباء عادة؟ إنها الكتابة بوصفها «نظراً الى الوراء» كما يعبّر الشاعر في إحدى الفقرات، والنظر هذا الى الوراء إن هو إلا استعادة للعمر الذي مضى والذي أتاح له ان ينظر إليه منذ ان اصبح وراءه. إلا أن هذا الوراء سيظل وقفاً على صفته (المعاكسة) وسيظل النظر إليه مضطرباً أو غير سويّ. وهنا يكمن سر هذا الكتاب الذي يقارب السيرة الذاتية ويبتعد عنها متجاوزاً ما سمّاه الناقد الفرنسي فيليب لوجون «عقد السيرة الذاتية». وكان لا بد من أن تختلط الأزمنة باختلاط الأمكنة والصور والأخيلة والحقائق والأوهام، عطفاً على كل ما يصنع الشخص وهو هنا الكاتب، من نوازع وهواجس وأفكار... هكذا كتب عباس بيضون هذه السيرة وكأنها سلسلة من اللوحات أو المقطوعات أو الفصول واختار لكل فصل عنواناً، لكن هذه العنونة لم تهدف الى قطع هذا السيل الجارف من التذكر والتأمل المندمجين بعضهما ببعض، ويمكن قارئ النص ان يتخطى العناوين مستسلماً لإيقاع النص نفسه. لكن هذا التقسيم ليس إلا حيلة لاستعادة النَفَس حيال هذا الفعل الشاق، فعل استعادة الماضي الذي هو في الوراء. وفيما يكتب عباس بيضون ما لا يسمّيه سيرة لا ينثني عن الطعن بها أو الشك قائلاً: «لا افهم كيف يمكن واحداً أن يؤرّخ نفسه». ثم لا يلبث ان يجيب ببساطة: «كنت طفلاً فحسب». هذه الطفولة التي يسترجعها فصلاً تلو آخر وكأنها شبح لا حكاية، ليست هي المنطلق حتى وإن استهل هذه «السيرة» في الفصل الثاني (صوتي لا يشبهني) بالكلام عن الفتى الصغير الذي كان في الثالثة عشرة. فهذه الفتوة الخارجة للتو من الطفولة عنت له غربة صوته عن نفسه. في هذا العمر اكتشف ان صوته في آلة التسجيل ليس صوته بل «صوت آخر يشبه المسجلة». وهذا التشوّه في الصوت ليس إلا تشويهاً للإرث العائلي المعنوي القائم على «الصوت والكلام» كما يقول. هذان هما «كنز» الآباء الذي يجب الحفاظ عليه، ولكن عبثاً. فالفتى ابن الثلاثة عشر أدرك باكراً ان صوته ليس أهباً لأن يخرج الى العلانية وليس أهلاً ايضاً لأن يخاطب الآخرين ويتوجه إليهم. ومثلما اكتشف هذه «العلة» التي في صوته راح يكتشف ايضاً كراهيته ل «هيئته» أو لوجهه، ويمعن في السخرية «السينيكية» القاسية واصفاً وجهه الذي «طال حتى غدا كالحذاء» وأنفه الذي تضخم وشعره الذي «قسا حتى غدا كالبلان». إنها الكراهية الذاتية التي تجعل من الأنا مادتها أو موضوعها، لكنها قد تعني في أحد جوانبها حباً للذات مشوّهة او في تشوهها. يبدو الكاتب هنا رساماً يصنع لنفسه «بورتريه» مستعيراً مثلاً ريشة الرسام التعبيري مونخ. وهذا الرسام لم تغب لوحته الشهيرة «صرخة» عن عالم عباس بيضون فهو في الفصل الذي اختار له عنوان «الصرخة» يروي كيف انه أطلق صوته خلال إقامته في مستشفى الأمراض النفسية، صارخاً بقوة على غرار الشخص الصارخ في لوحة مونخ: «انطلقت صرختي ومنذ أرسلتها لم أجد حاجة الى إرسالها، صارت تتجدد من تلقائها وكل مرة بصوت أعلى، كنت أفرغ نفسي ولا نهاية لما يخرج مني». وتبلغ به كراهية الذات مبلغها حتى ليشبّه نفسه بالكائن السينمائي المشوّه «فرانكشتاين» كأن يقول: «كنت في الواقع فرانكشتاين نفسي ورعبها الخاص». إنه فرانكشتاين امام مراياه، كما يفيد العنوان، فرانكشتاين بوجوهه المتعددة، الموزّعة هنا وهناك، بحسب لعبة المرايا. لم يمل عباس بيضون الى رمز فرانكشتاين كما جسّده الشاعر الألماني شيلي، كائناً رومنطيقياً ملعوناً يسعى الى الانتقام من صانعه لأنه لم يختلق له رفيقة تقتل وحشته وتنقذه من حال العزلة، بل ركز على رمز الرعب الذي يتمثله والذي أشاعته السينما الغربية. لكنه يظل فرانكشتاين الملعون والمحروم من الحلم بالجنة. يكتب عباس بيضون إذاً شذرات من سيرته، كما يحسن له ان يسترجعها، فلا يخضعها لمبدأ الكرونولوجيا الزمنية بل هو يعمد الى تدمير هذه الكرونولوجيا جاعلاً من الشذرات ذريعة لتفتيت السيرة وتشتيتها. وهنا ربما تكمن خصوصية هذه السيرة الذاتية التي يمسي فيها الكاتب مادة نصه أو «الشخص» القرين أو الرديف. وهكذا يقترب عباس مما يسمّى «الاعتراف السلبي» القائم على الاختبار أو التجربة وعلى هدم الصورة وكشف ما يعمد الكتاب عادة الى مواراته والصمت عنه. إنه يكشف نفسه او يعرّيها ويفضحها وكأنه يكتب تحت أشعة «بروجكتور»، حادة وقاسية. غير ان هذه الشذرات تظل مربوطة بعضها الى بعض عبر خيط واه ولامرئي، وربما متقطع. فصول متقطعة يسرد الشاعر كيف انتقل من القرية الى المدينة وكيف تخلّص بسرعة من لهجته، ثم يقفز الى السابعة والعشرين من عمره راوياً انه حضر حينذاك أول عيد رأس سنة، راصداً ملامح الحياة البديلة المبتكرة. ثم ينتقل الى حكايته الطريفة مع قريبته المحجّبة التي يسمّيها من قبيل الصدفة إكرام، وكان يمكنه ان يطلق عليها اسماً آخر، فالاسم هنا ليس مهماً، ما دامت القريبة هذه شبه منفصمة وقادرة على «إزاحة التابو ببساطة». ثم يعود الى الزمن الأول مرة أخرى جاهداً في ان يتذكر متى شعر انه يفكر: «لا أعرف متى شعرت أنني أفكر. لا أذكر عمري آنذاك، ولا هيئتي ولا طولي. كنت نحيلاً ونحيلاً جداً... كانت أمي تنظر إلي كممروض...» وهنا لا بد له من تذكر أبيه «معلم المدرسة الوحيد ومديرها» وكيف تعلّم القراءة قبل الذهاب الى المدرسة وكيف تمكن من قراءة القرآن وتلاوته... في فصل عنوانه بالفرنسية (مالادرس) وهي تعني «الرعونة» يسخر من نفسه سخرية عبثية تبلغ مرتبة «السينيسم» (أو الكلبية كما تترجم بالعربية). هذا فصل شبه كاريكاتوري يحمل القارئ على الضحك، لا سيما اذا كان القارئ يعرف عباس بيضون شخصياً. فهو يصف نفسه بلا مواربة ب «الأخرق» او «الارعن» ويقول إنه يفضل على هذه الصفة صفة «الأعثر» من عثر عثرة... ويعترف ان «الرعونة» إنما هي في روحه وعقله. ويرى في «الأخرق» إنساناً أكثر من «برّي»، قائلاً: «قد يكون جنساً بذاته». ويسرد حكايات قائمة على «المفارقة» عاشها شخصياً تثير الضحك وربما القهقهة. وقد يشعر القارئ انه امام لقطة من فيلم للممثل الفرنسي الكوميدي بيار ريشار أو للممثل الإنكليزي «مستر بين». إلا ان هذا المشهد الضاحك سرعان ما يفضي الى فصل أليم، شديد الألم والإيلام عنوانه «الصرخة» وفيه يسرد وقائع سقوطه في الاكتئاب والاغتراب الداخلي وسواهما من الحالات النفسية المضطربة: «في لحظة واحدة لم أعد سوى خوفي وحده». إنها تجربة المستشفى القاسية التي دخلها هارباً من انعزاله الباريسي البارد. هناك في الداخل ،اكتشف وجهاً آخر للحياة، حياته، لا يقل اسوداداً عنها في الخارج. وكان هو اصلاً عاش تجربة مماثلة بألمها أو وجعها وقد رواها في فصل عنوانه «النوم الأبيض» وهذا من أجمل ما يمكن ان يُسمى به الأرق. يقال مثلاً «ليلة بيضاء» دلالة على قضاء ليلة من دون نوم وقد تكون ليلة من ليالي السهر الجميل حتى الفجر. أما ان يكون النوم أبيض فهذا مجاز يبلغ فكرة الموت، الموت بعينين مفتوحتين. يكتب عباس في هذا النص ما يشبه «سيرة» الأرق أو سيرة الإنسان الأرق وتاريخهما، واصفا الأرق بكونه «لا لون له ولا مادة». إنه بنظره من «جنس النوم وهو تقريباً النوم الأبيض». ويمضي في وصفه كما لم يوصف من قبل حتى في نصوص سيوران، الكاتب الذي أمضى معظم حياته أرقاً، فيقول: «الأرق في الحقيقة نور. نور لا يمكن إطفاؤه وهذه هي المشكلة». هل هذه هالة صوفية ينزلها الشاعر على الأرق، جاعلاً منه حالاً من أحوال الكشف؟ يضيف الشاعر قائلاً: «يغمض المرء عينيه فلا يستدعي الظلام، يستدعي ضوءاً تحت الأجفان». وبحسب اختباره «يؤاخي الأرق السهر لكنه لا يكونه»، ويحاكي الأرق النوم «لكنه لا يصيره»، ويوائم الأرق اليقظة «لكنه لا يكونها». هل يمتدح الشاعر الأرق أم يهجوه راثياً نفسه هو الكائن الأرق؟ لا يتوقف عباس بيضون عند هذه المحطات فقط في سيرته المتقطعة ، بل هو يرسم ما يسمى «خطاً» منحنياً لمساره الفكري والثقافي والسياسي... وفي هذا المنحى تبدو سيرته صاخبة بالأفكار والمبادئ والعقائد. إنها سيرة المثقف الملتزم، وجودياً وشيوعياً وتروتسكياً، المثقف الذي تتقاطع فيه وجودية سارتر التي كانت نجمة المرحلة، وشيوعية تروتسكي «ولا انتمائية» كولن ولسن (كان كتاب «اللامنتمي» انجيل جيلنا، يقول)... وقادته تروتسكيّته الى ان يلتحق بإحدى الحلقات الشيوعية في تولوز حيث تعرّف الى الوجه الآخر من الثقافة الفرنسية التي كانت تمثل «الغرب» الذي اكتشفه مع رفاقه قبل ان يغادروا مدنهم وقراهم. «جاءتنا الأفكار حتى أسرتنا وقبلناها من دون نقاش...» يقول. ولا تغيب الحرب الأهلية ولو لماحاً، عن السيرة وقد ظنها - كما بعض رفاقه - «بوابة الثورة الاجتماعية». لكن هذا المناضل الذي خيّبته فكرة «تغيير العالم» كان ايضا كائناً كافكاوياً وعبثياً ووجودياً يشعر في صميم نفسه ان «نملاً أسود» يهرس دماغه من الداخل، كما يقول. إنه المناضل الرومنطيقي في المفهوم الروحي للرومنطيقية، فهو على يقين انه بدأ كل شيء متأخراً، كما يعبّر، وأنه كان يجد طريقه وهو مغمض العينين، وكان يؤثر دوماً ان يكون الحبيب الثاني على خلاف مقولة (أو نصيحة) رينه شار الشهيرة: «الحب، أن تكون القادم الأول». في ختام هذه السيرة «المشتتة» يعترف عباس بيضون وكأن جيلاً بكامله يعترف معه: «لقد صدّقنا احياناً دمنا ودموعنا». لكنه يفكر من قبيل التعزية، «ان البشرية أفنت تاريخها ايضاً في سبيل قضايا غير موجودة». يكتب عباس بيضون سيرته واقفاً على شفير هاوية اصبحت خلفه بعدما اجتازها، هاوية بات ينظر إليها كمن ينظر الى الوراء.