قراءة رواية «خاتم» لرجاء عالم بالفرنسية تختلف تماماً عن قراءتها باللغة الأم. هذا الانطباع سرعان ما يخامر قارئاً عربياً كان له أن يتابع الرواية بالعربية أولاً ثم في ترجمتها الفرنسية التي أنجزها المستشرق لوك باربولسكو وصدرت حديثاً عن دار «سندباد» في باريس. وأول ما يواجه القارئ بالفرنسية هو تبسيط عالم رجاء عالم، المعقد والمركّب والمبني بناء حلزونياً بحيث تتداخل فيه عناصر السرد بعضها ببعض، علاوة على عناصر المكان والزمن. أما اللغة التي وُسِمت بها روايات عالم ونصوصها بعامّة، فهي تتخلّى هنا عن «حوشيّتها» الجميلة وعن ضبابيتها الفريدة وأحوال الأطناب المقصود والتقعّر واللفّ أو الالتفاف على المفردات والجمل، وكذلك عن النزعة الأسلوبية التي كادت تصبح لديها نموذجية. لا يواجه قارئ الترجمة الفرنسية المشقة التي يواجهها في قراءته النص الأصل، يقرأ الرواية بالفرنسية ولا يشعر أنّه يلهث في التقاط الحدث أو أنّه يحتاج إلى «خيط أريان» ليدخل متاهة السرد ويخرج منها سالماً. وقد اختصر المترجم صفحات من النسخة العربية، تسهيلاً لفعل الترجمة أولاً ثم لفعل القراءة، بخاصة أن القارئ هنا فرنسي أو فرنكوفوني ولا يلم كثيراً بأسرار هذا العالم البديع والسرّي وشبه المغلق الذي يحيط بأحداث الرواية وشخصياتها. لقد بسّط المترجم لغة الرواية وأسلوبها وتخلّى عن بعض مزالقها بغية إيصالها إلى القارئ الأجنبي في صيغة لا تشبه الصيغة الأولى ولكن لا تعمد إلى خيانتها خيانة «عظمى»، مع أنّ الترجمة كما يُعرّف بها، هي ضرب من ضروب الخيانة الجميلة والمفترضة. حافظ المترجم على جوّ الرواية المتراوح بين الواقعية التي يرسّخها المكان (مدينة مكة) والزمن (الحكم العثماني) والتخييل الذي يتصاعد ليحاصر الواقع، ويدفعه إلى حال خرافية لا تتناقض مع المقامات الصوفية التي تحفل الرواية بها. وفي هذا النص كما في النص الأصل تطل الشخصية الرئيسة «خاتم» إطلالة باهرة مجسّدة حال «الخنوثة» والانفصام الوجودي ومن حولها الشخصيات الأخرى التي لا تقلّ التباساً عنها، ومنها «سند» شقيقها بالتبني و «هلال» الفتى المشاغب الذي يعرّفها على نواحٍ مجهولة من الحياة كما من المكان والعادات والطبائع... كان والد «خاتم» الذي فقد أولاده الذكور في الحروب المتوالية يرغب في ولد يرثه ويحمل اسمه، ولمّا يئس من أمر إنجاب الذكور يتبنى ولداً تجمعه به رابطة «الحليب» أو «الرضاعة»... إنه الابن بالاسم مثلما «خاتم» ابنة بالمظهر، فهي في الختام ستُفضح أمام الجميع، عندما يدخل الجنود الأتراك دارة العائلة بحثاً عن الفتيان لاقتيادهم أسرى، فيشكّون في أمر النسوة المتلفعات بالأثواب والخرق ويروحون يلمسونهنّ ليتأكدوا من أنوثتهنّ... وتقع الواقعة في فضح ذكورة «خاتم»... هذا المشهد يبدو بديعاً في ختام الرواية، باللغتين ويفضي على الرواية لون «الواقعية السحرية» التي طالما تميّزت بها الرواية الأميركية اللاتينية. هنا تبدو «خاتم» شخصية خنثوية، تعيش في حال «برزخية»، أنثى وذكراً في آن، ترتدي ثياب الذكورة حيناً وتستسلم للأنوثة حيناً. وهذا الانفصام يتيح لها أن تحيا تجربة الأنثى والذكر وأن تغوص في عالم الاثنين مكتشفة أسرارهما وخفاياهما العميقة... وتدخل الموسيقى من ثمّ لتحدث اهتزازاً في شخصية «خاتم» فإذا عازفة العود «زرياب»، المرأة الحلبية، تجعلها تكتشف جسدها وروحها من خلال الموسيقى. وفي هذه الصفحات يتجلى جو يشبه جوّ «ألف ليلة وليلة» بسحره الشرقي الذي لا يخلو من الفتنة واللذة، لا سيّما أن المجلس الموسيقي كان حريمياً. قد يلتمس القارئ الفرنسي (والفرنكوفوني) في هذه الرواية بضعة آثار من رواية «ليلة القدر» للطاهر بن جلون التي قدّمت بطلة الرواية الفتاة في مظهر فتى عقب إصرار والدها على أن يكون له ولد ذكر، ثمّ تتخلّى هذه الفتاة عن مظهرها الذكوري وتراوحها الخنثوي لتخوض تجربة الأنثى الكاملة. وقد يتذكر القارئ أيضاً رواية فرجينيا وولف الشهيرة «أورلاندو» القائمة على عقدة «الخنوثة» في أعمق معانيها، وجودياً وفلسفياً ونفسياً. ولعلّ قضية «الخنوثة» في رواية رجاء عالم ستكون مثار اهتمام القارئ الأجنبي، عطفاً على الجوّ السحري، الواقعي والخرافي، الذي تتفرّد به الرواية، هذه الرواية التي نجحت بشدة في الحفر داخل الذاكرة، الفردية والجماعية، بحثاً عن غرائب وعجائب، تحتاج دوماً إلى مَن يوقظها.