تعد رواية «خاتم» لرجاء عالم رحلة إلى ما وراء الجسد، إلى تجاوزه، لكن دون إنكاره، بل بمزيد من الاكتشاف له، ممكناته وحدوده وطاقاته، وحواسه. كل رحلة للحاسة هي رحلة للذات، تقطعها البطلة «خاتم» للتعرف إلى أغاني الكون، بما في ذلك أغنيات الجسد: الرأس، الجوف، القلب.. ينتهي بها الأمر لكي يلتحم جسدها بجسد العود وتستحيل آلة موسيقية. رجاء عالم في روايتها الصادرة عن المركز الثقافي العربي، بارعة في مخاطبة حواس القارئ لأجل أن تجعل أبطالها أكثر حقيقية ومعقولية وإقناعا، فثمة خطاب مطول في النص يخص الأذن «هناك أغنية مختبئة في كل شيء».. في الجرادة والرأس والبئر والريح والقلب.. كل أصوات العالم جديرة بالاكتشاف واللذة والرقص. وثمة خطاب يخص الذوق أحيانا، ف«خاتم» تكتشف كيف تستطيع أن «تسمع بشفتيها».. بكل ما يحمله السمع هنا من دلالات التلقي، والتجاوب، والاحتواء. عوضا عن ذلك تجيء لغة الروائية مشحونة باللونِ، السماء والأرض وما بينهما.. كل لونٍ يجيء بدلالة، كل صوت يجيء بحياة، كل شيء يصب في الأبطال ليفاقم من حقيقيتهم وأصالتهم. خاتمة الولادات رجاء عالم برعت في تسمية الأبطال بما يشي بمصائرهم، أمزجتهم وحتى.. أقدارهم، فخاتم تجيء خاتمة الولادات؛ لأن ولادتها تسببت بانفجار رحم أمها، وسند ربيب والد خاتم يجيء السند بطول النص، للأب والابنة والعائلة بأسرها، والشيخ نصيب يجيء نصيبه القدري أن يكون أبا للبنات فقط، و«هلال» الشخصية الشيطانية التي تمثل في النص لتأخذه إلى العالم السراني، الليلي، الشيطاني، وزرياب، العوادة الأنثى رغم حملها لاسم ذكر. وتتكشف رحلة عبور البطلة من نعيم العائلة والأنوثة، إلى حميم العالم المستور في الجبلِ، عن عذابات الفقر والقهر والرق والاستعباد والمهانات.. كانت أشبه بمعراج دانتي إلى الجحيم في كوميدياه، ليكتشف أحوال ومصائر الناس التي حجبت عنه طويلا، والغريب أن خاتم تتعلق بهذا العالم، عالم الشياطين، وتجد فيه اكتمالها بتحولها إلى «عوادة» بثوب ذكر. أحد المحاور الأكثر مركزية وحضورا في النص محور الجنوسة، والأسلوب التي جعلت فيها الكاتبة بطلتها ترتفع فوق جنسها، من خلال التردد بين الذكورة والأنوثة الذي بدا أن البطلة سعيدة به رغم أنه رغبة أبيها نصيب الذي لم يرض بقدره على ما يبدو: «خاتم إنسان.. خطفوه من جسده، لا هو بالذكر ولا بالأنثى.. أي لغة يمكن لجسد هذا الإنسان أن يتكلم؟». الذكورة والأنوثة ويبدو للقارئ أن «خاتم» قد تعثرت على جغرافيا وسط بين عالمي الذكورة والأنوثة، أو أنها استطاعت أن تحمل الاثنين في جسدها / روحها بدون أن يلغي أيهما الآخر، وبمنتهى الحرفية تشي الكاتبة من خلال الحوارات عن نسبية الجنوسة في الإنسان والأشياء على حد سواء: «العود أيضا له شطر ذكر وشطر أنثى، الوتر والريشة، من الذكر ومن الأنثى؟ وجسد العود.. هذا الذي يولد الألحان، لا هو أنثى ولا هو ذكر». وفي كثير من مناطق النص تشير الكاتبة إلى وجود ما سمته «روح الكون».. الروح الكلية التي لا تنفصم ولا تنقسم ولا تتشظى، التي عثرت عليها «خاتم» بترددها بين النقيضين، وبالارتفاع فوقهما، وتحويل نفسها إلى جسد للعزف وحده، حيث كانت ترتفع وتكتمل وتتحقق بالموسيقى؛ «العود جسدي»، العود هو الشق الآخر لجسد «خاتم»: «كائن بلا جواب هو الكائن النشاز».. و«كانت تعرف أن جواب جسدها في العود». ثمة فتنة بالعوالم التي فتقتها رجاء عالم بقدرتها على سبر الباطن واستخراجه بدون ابتذال أو إساءة لقدسيته، ورغم أنها تشير صراحة إلى أن كل فعل عبور هو فعل تدنيس، إلا أنها عبرت بنا إلى عوالم العود والحجر الكريم ولذة المعرفة الباطنية بأجواء صوفية شفيفة، كل فعل عبور، من هذه الزاوية، هو تقديس لهذه المعرفة، وارتفاع بها. مغايرة ومفاجئة في شكل عام، خفتت سرعة السرد في الشق الثاني، وشخصيا كنت أتوقع أن التفاعل بين أقطاب الحكاية الثلاثة «سند، خاتم، هلال» هو ما سيدفع بالنص إلى نهايته، لكن النهاية جاءت مغايرة ومفاجئة، وظلت علاقات الأبطال ببعضهم البعض ثابتة تقريبا لا يطالها إلا تغير طفيف وفي الغالب لحظي. كنت أتساءل إن كانت «خاتم» ستضطر في لحظة إلى الاختيار بين الأنوثة والذكورة أم لا، أم أنها ستظل مرتفعة بين الاثنين وكأنها معلقة في الفراغ منيعة ضد الزمن وتأثيراته على جسدها وحقيقته؟. من أبرز المحاور قدرة الكاتبة على إظهار حقيقة أن كل معرفة تبدأ بالذات، وكل معرفة للذات تبدأ بالجسد بصفته ذلك الظهور أو التجلي للباطن الملتبس علينا، وأن «خاتم» كانت على صلة بحواسها طوال النص حتى يسعها أن ترتفع فوقها، وتحقق اكتمالها بالتحامها بجسد العود، جسد العود الذي هو لا ذكر ولا أنثى. قراءة: بثينة العيسى * كاتبة من الكويت