بقدر ما هي مظهر تكويني من مظاهر التمييز للطبيعة البيولوجية، تستبطن الأنوثة في خباياها طيات شعورية وذهنية تغري بالتعامل معها كحالة ثقافية، ولو من منطلق وصم المرأة بالدونية، بما هي الكائن المقيم فيها، بفعل مجموعة من العوامل التاريخية والاجتماعية المتراكمة، الأمر الذي يحرّض الذات المسكونة بأوهام العقيدة الذكورية على اعتناق فكرة الارتقاء بتلك الذات المبتورة إلى مرتبة أعلى يحتلها الرجل، لتتجاوب مع المقترفات الفرويدية المبنية على وهم مفاده أن المرأة مجرد رجل ناقص المعالم، لدرجة أن المرأة، وهي المعنيّة بذلك النسيج تلجأ أحياناً إلى مراودة نفسها بالفرار منه، والإقامة الطوعية أو الاضطرارية في جسد الآخر، فيما يبدو حالة من الإماتة المعلنة للأنوثة بمعناها البيولوجي والثقافي. أما مهمة التدمير المبرمج لتلك الذات التي يراد لها أن تتأزم على الدوام فتؤديها العائلة البطريركية باعتبارها الجماعة الاجتماعية التي تقف حائلاً قمعياً بين الفرد وحاجاته. وهي اليوم محل دراسة أو انتقاد دائم في الثقافة العربية، لدرجة أن بعض الروائيين العرب لم يكتفوا بالمقاربة السردية العابرة لمسألة الاختلاف الجنسي، بما هو عماد تلك المنظومة، بل خصصوا روايات بكاملها لتفكيك مظاهرها، باعتبارها عناوين استجلائية لبنية تفكير غائرة، للتعبير عن التماهي مع اشتغالات خطاب التنوير العربي، الباحث بدوره عن مبدأ نظري مقنع، أو قالب نصي، لنقد الواقع وتحليل بناه وتشكيلاته الثقافية، من خلال رصد الفروق والفجوات الجندرية وتحليلها، ليس من ناحية المظهر وحسب، بل على مستوى الأدوار أيضاً. وقد وجد خطاب الرواية العربية في هذه المفاهيم أرضية خصبة يمكن البناء عليها، والتجادل مع تداعياتها الفكرية والنفسية، من منطلق يقوم بالأساس على مساءلة النزعة البطريركية، كما يتجلى هذا الميل في متوالية لافتة من الأعمال الروائية فيها من المشتركات الفكرية والنفسية ما يوازيها من الافتراقات، خصوصاً على المستوى الفني، إذ تشكل رواية (ليلة القدر) المتمّمة لروايته (طفل الرمال) مجرة تأثير هامة في هذا الصدد، أي سرد (الآخر) حيث يبني الطاهر بن جلون استراتيجية نصه على قيمة أنثوية موجبة مقابل قيمة ذكورية سالبة، يدفع بموجبها بطلته (زهرة) من أسر أبوية بشعة، ويحرّضها على الانسلال من جسد رجلٍ حُكم عليها بالعيش فيه أي العودة بها إلى جبّلتها الأنثوية، التي كانت بمثابة ندبة موجعة، والفرار بها بشكل انعتاقي من ذكورة ملفقة، مفروضة عليها من خلال سلطة أبٍ مريض بأوهام رجولة اجتماعية زائفة. وفي رواية (قنص) أيضاً تتقمّص (هذلا) جسداً ذكورياً مستعاراً بشكل اضطراري، يرحّلها إليه والدها بمنتهى القسوة المفروضة من السياق الاجتماعي، حفاظاً على حياتها المهددة بالاستلاب والفناء، لكأن عواض العصيمي يكتب ذات النص، وبكل تفاصيل الانفصام الجنسوي، ولكن بشكل ارتدادي مقلوب، أي كقيمة أنثوية سالبة أسيرة لقيمة ذكورية أكثر سلبية، حيث يدس بطلته في تلابيب جسد مغاير، لا تعرف كيفية التعامل معه، الأمر الذي يصيبها بحالة من الاغتراب الحاد، على المستويين النفسي والمادي، ويؤكد بالمقابل مزاعم كون (أنا) المرأة مصنوعة بوعي الأب. أما (خاتم) بطلة رجاء عالم، التي تحمل اسم الرواية أيضاً، فتتأرجح في منتصف الجنوسة، على حافة قلق وجودي، داخل جسد ملتبس، على درجة من التشظي، لا يريد الاستقرار في هوية، وكأنها ترفض منطق التجنيس الأحادي، أو الحضور كذات مونولوجية، بمعنى أنها أميل إلى قيمة أنثوية متعادلة داخل محيط ذكوري سالب، ربما لأنها مكتوبة من داخل ذات أنثوية تحاول الإفصاح عن عتمة الانحباسات الشعورية الملازمة للمرأة، على العكس من النصين الذكوريين المنذورين لتفكيك العقيدة الأبوية. أو هكذا تنسرد رحلة البطلة المعقدة والمؤلمة من حالة الوعي البدائية بالخصاء، إلى عقدة الرجولة المستحيلة، وصولاً إلى إعلان الأنوثة. ورغم التباين الواضح في الاستراتيجية السردية للنصوص الروائية الثلاثة، إلا أنها في المجمل تتحرك من منصة ما يعرف بخطاب الاختلاف الجنسي أو (الاستغيار) المعني نقدياً بتحليل البنى الاجتماعية والسياسية والتشكيلات الثقافية، المنبثقة في الأساس من معتقدات وممارسات بطريركية ساطية، والمبعثرة على حافة النص الأدبي في سمته التفكيكية، بمعنى أنها تحاكم الثقافة التي تتعاطى مع المرأة من منطلق الأنا الواحدة التي تُعد انتهاكاً للفردية، وتعطّل كمال جنوستها، وقد تدفعها للتخلي عنها إلى هجين حسّي ثقافي اجتماعي خارج طبيعتها البشرية. جحيم الدخول والخروج من الجسد المضادالإقامة الاضطرارية في جسد (الآخر) بأي معنى من المعاني تعادل الجحيم، كما يُستنتج من مجمل النصوص، حيث تستعيد المحرّرة (زهرة) أجواء ومأساوية ذلك المآل بعبارات حزينة تشير إلى حالة من التألّم، على إيقاع انسلاخها الموجع من أصالة مكوّنها الأنثوي (اختفت نوبات غضبي، وصارت مشاعري بيضاء، بذلك البياض المفضي إلى العدم والموت البطيء. كانت انفعالاتي قد تحلّلت في بركة ماء راكد، وكان جسدي قد توقف عن تطوّره، فلم يعد يتغير، كان ينطفئ حتى لا يعود يتحرك ويحس، وما هو بجسد امرأة مفعم ومتلهّف، ولا هو بجسد رجلٍ رصينٍ وقوي، كنت بين الاثنين، أي في الجحيم). الأمر ذاته حدث بالنسبة للمغيّبة (هذلا) بعد أن تم تجريدها من كينونتها الجنسية، ومُسخت هويتها، إلى الحد الذي نُفيت فيه عن نفسها ولم يعد لها أي هوية تُذكر، كما تنم عن ذلك القدر الساطي عبارات التأسي المتلاحقة كاستغاثات، فيما يبدو رثاءً حسّياً للذات المهشّمة (لقد عشت حياة ما كان يجب أن أعيشها، لبست ثياباً ليست لي، وجلست مع رجال كثيرين، وتحدثت بخلاف ما كنت أريد، إليه، وكتمت مشاعري، ولا أتذكر حتى هذه اللحظة ساعة لم تكن فيها تلك النار شاهدة على ما يصيبني من غمّ، ونكد، وخوف). كذلك (خاتم) المهمومة بهاجس الخروج من إطار الهوية العمومية واكتساب هويتها الفردية، والمسكونة بميول جنسية غيرية غامضة، ليس بمعنى الشذوذ، ولكن من منطلق الرفض للجنسانية الأحادية، وتعزير الإرادة الذاتية، حيث تحوّل اللنحياز التجنيسي بالنسبة لها إلى جحيم حارق، كما يتبين من منطوقها (في غمضة عين سيتحتم على أبي الاختيار لي بين جسدين. أتظن لي في هذا الجسد خيار؟ أم كل الخيار للشيخ نصيب؟ هو ولِّيُ هذا الجسد أم أنت الولِّي؟ من سيقر إرسائي لذكر أو لأنثى؟ ومتى؟ ولماذا توقظ هذا السؤال ليؤرقني الآن؟ لماذا يأخذ هذا الجسد يرتعد بخوف، لم أشعر به وفجأة يلهث كمن على هاوية لتعجيل الاختيار؟ لم يريد السقوط للأقفال؟ فما عسى الأئمة مثلك يفتون في جسدي؟). الأب التائب عن خطيئته في رواية (ليلة القدر) مسخ ابنته تماماً. وهو كممثل لوعي ومرادات الطاهر بن جلون صار يحاول أن يعيد توجيه جسد (زهرة) ويدفعها مرة أخرى للسعي وراء أنوثتها المضيّعة، أو استئنافها بمعنى أدق، بعد أن توسل غفرانها عشية الليلة السابعة والعشرين من رمضان، اعترافاً منه بجريرة حبسها بأنانيته واعتقاداته الذكورية البائسة في جسد (أحمد) منذ روايته (طفل الرمال) فما زالت تلك العبارات المراوغة ترن (منذ زمان وأنا أضحك من نفسي ومن الآخر الذي يخاطبكم، ذاك الذي تعتقدون أنكم ترونه وتسمعونه. لست خبّاً، بل قلعة منيعة، سراب متحلل، أتكلم بمفردي وأوشك على تضليلكم في دغل الكلمات التي يتلعثم بها التمتام). ذلك الإحساس العميق بفداحة الخطأ هو ما يفسر سر رهافة العبارات، المتأتية أيضاً من حسّ الرغبة في عتق تلك الذات وتحريرها من أوهام التجبّر الذكوري، وتحرير نفسه هو الآخر من سجن معتقدات الذكورة المظلم (أطلب أن تغفري لي... وبعد ذلك يمكن لبارئ روحي أن يأخذها حيث يشاء... أنت الآن حرة. امضي لحال سبيلك، غادري هذه الدار اللعينة، سافري، عيشي!... عيشي! ولا تلتفتي لرؤية النكبة التي سأخلفها... لقد وُلِدْتِ في هذه الليلة، السابعة والعشرين... أنت امرأة... دعي جمالك يقودُك. لم يعد هناك ما يبعث على الخشية، ليلة القدر تسميك زهرة، زهرة الزهور، نعمة طفلة خلود، وأنت الزمن المتوقف في منحدر الصمت... في ذروة النار... بين الأشجار... في وجه السماء الذي ينزل... ينحني ويأخذني... أنتِ التي أرى، يدك التي تمتد، آه! يا ابنتي تأخذينني معك... لكن إلى أين تمضين بي؟... لم أعد أبصر شيئاً... وجهك ينقبض، أنتِ غاضبة... أنتِ مستعجلة... أهذا هو غفرانك؟ ... يا زه...رة...). ولم يكن الأمر بتلك البساطة بالنسبة لها كما تدلّل عباراتها الحزينة (أيها الأصدقاء! يمكنني أن أعترف لكم اليوم بهذا: لقد كان الأمر قاسياً! أن أكون مرحة كان معناه تغيير الوجه، تغيير الجسد، تعلم حركات جديدة والمشي برشاقة). وفي اتجاه لغوي مضاد يحبس عواض العصيمي بطلته (هذلا) في جسد (ناشي) من خلال عبارات وصوت الأب الخائف على ابنته من (الدربيل) ذلك الكائن الخرافي الذي (يحلم بقضم سعدان النهدين لدى كل فتاة. مصّ أثداء العذارى يغذيه، ويمد جسمه بشباب يمكنه من البقاء قوياً بين الأفخاذ البضة الطازجة طوال الوقت). لكأن الأب، المنفصم هو الآخر على حافة ويلات جسد ابنته، يهيىء كفناً خانقاً لأنوثتها المذعورة، والمهدّدة بالطمس (هل تذكرين عندما كنت تلبسين ثياب صبي وأنت صغيرة؟ أجابت هذلا بأنها تذكر تلك اللعبة، وأن اسمها في تلك اللعبة كان "ناشي" وليس هذلا. حينها قال الأب: أريدك أن تعودي إلى ناشي مرة أخرى. هذا الدربيل لن يتركنا في خير. لقد فعلها للمرة الثانية). ولم يكن أمام (هذلا) المقهورة والمستسلمة لقدرها الباتر، إلا الاستجابة الفورية، بدون إبداء أي قدرة على الرفض، حيث بدأت بالتدرّب على الاندساس الانهزامي في جسد ذكوري بمنتهى الخنوع، وفق توجيهات أبوية صارمة (مع كل حركة غير منسجمة مع شخصية ناشي، طالما كرر عليها أبوها الوصفة المحفوظة عن ظهر قلب. شد العمامة حول وجهك، واعتدل في جلستك. لا تتكلم إلا عند الحاجة، وإذا تكلمت فإياك والثرثرة ورفع الصوت أو الضحك. الرجل في العادة مثل الصندوق المغلق لكنه إذا تكلم، عرف الناس ما بداخله. ردّ على السؤال بأقصر الكلمات ثم التزم الصمت). أما (خاتم) التي تحمل من دلالات مسماها علامة الكائن اللا مجنّس، فتهبها رجاء عالم شكلاً أو وجوداً جنسانياً ملتبساً، على وقع ما يعرف بالهوية الاسمانية، منذ أن خاطب طفولتها الشيخ نصيب طفولتها بعبارات مشوبة بالتعمية (سميناك خاتم، كبّر الاسم، ثم ترك لزوجته أن تُحكم عليه القماط) وكأن القصد هو موضعتها على تلك الحافة المربكة، الموجبة لتوتير الذات والنص، كما يؤدي والدها، وظيفته التوجيهية لجسدها المراد تجنيسه داخل مدارات التمويه الاجتماعي من خلال وصاياه التي تبدو على درجة من الرقة، فيما هي في الواقع تسلب الكثير من مكوّنها الأنثوي مقابل مكاسب ذكورية يتواطأ عليها الجميع أو يأتمرون بها، بمعنى اجتماعي أدق. يتأكد هذا المنحى في متواليات سردية لا تخلو من حس الانحياد بها عن أنوثتها إلى متاهات الكائن اللا مجنّس (في حمام الطابق الأول وعلى قيد أذرعٍ من البركة انفردت سكينة بخاتم، وحدها تُباشر غسلها كل جمعة، حنفية ذاك الحمام تُبَيِّت ماء الورد كل خميس ليصبح جاهزاً لغسل سيد الدار لصلاة الجمعة، وما تبقى من "الماورد" يصير لغسل خاتم، ظل ذلك مثار غيرة الشقيقات اللواتي لم يحلمن بشرف مماثل قط. في الطوابق العليا تفقد خاتم صفتها، بينما تكتسب أهمية غامضة في مجلس الشيخ وبِرْكته... نادراً ما تهبط النساء لصلاة الجمعة بالحرم، هو طقس ذكرِّي، وحدها خاتم تجلس هناك لا تمس الحصا تشارك الرجال في الإنصات، كل من يراها يُخمن أن الشيخ نصيب من توقه للولد قد اتخذ له ربيب من مجهولي الجبل، تؤكد هذه الألفة بين العتيق سَنِد وهذا الصبي).